النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: البائسة ( للقاص العماني جميل الوائلي )

  1. #1

    البائسة ( للقاص العماني جميل الوائلي )

    بعثتني المؤسسة التي أعمل بها إلى جامعة أوروبية لتكملة دراساتي العليا .. وهناك سكنت في فندق يقع بمدينة صغيرة ليست ببعيدة عن موقع الجامعة .. وتعودت السير إلى الجامعة مشيا على الأقدام ، بعدما أخذت قدمي على البلاد وضواحيها وعرفت السكك و مختصراتها ، وصرت أسلك سكة ضيقة كانت أكثر الطرق اختصارا إلى الجامعة ولكنها أيضا أكثرها وحشة .. ولما كنت أسير فيها أجد نفسي أحيانا بين بيوت عتيقة وأحيانا بين عمارات عالية أو خلف مطعم .. ولا تريدون مني أن أطلعكم ماذا يوجد خلف المطاعم ، لقد كانت أكثر المسالك اتساخا مليئة بالأكياس الفارغة والزجاجات المكسورة والمياه ذات الرائحة النتنة التي تخرج من الأنابيب المعطوبة لتتجمع في مستنقعات لتلك الوحوش الصغيرة .. ولكني مع الوقت تعودت على تلك الروائح والأوساخ حتى صرت لا أبالي بها كثيرا .

    وذات مرة وبينما كنت أسير مسرعا في إحدى تلك الممرات الضيقة بين بنايتين عظيمتين لاحظت حركة طفيفة على جانب الممر فالتفت فإذا بصغيرة جالسة بجوار كرسي قديم كان يستخدمه المارة قبل أن يهجروا السير في مثل هذه الأماكن ويتركوها للعصابات ومروجي المخدرات فلم أعبأ بها وتابعت السير وقد كان الوقت مبكرا والسماء غائمة لتمحو بعض النور الذي ينظره الناس في الصباح الباكر ، وهناك بارقة تطل من البعيد منبأة أن السماء توشك أن تبكي لتسعد الناس بمطرها المغيث فتزيل ما تراكم في الهواء من دخان خانق و تنظف الأرض من نفايات البشر ثم تربو الأرض برزق ربها من الأعشاب والخضرة وبينما أنا سارح في تفكيري إذ خطرت ببالي تلك الصغيرة ماذا لو أمطرت السماء حقا فماذا سيحل بها ، ثم أبعدت قلقي لما جزمت أنها عابرة سبيل وأنها سوف ترحل من مكانها بعدما ترتاح فيه قليلا ، ولما عدت بعد انقضاء يومي الدراسي .. تفاجأت بوجودها قابعة مكانها بعدما اختبأت تحت الكرسي هروبا من ذلك المطر الذي لم يكن عنيفا معها فمررت عليها وأنا أحدث نفسي بأنها ربما تكون باحثة عن مأوى أو لقمة عيش أو حسنة من الناس فهي كما تبدو مسكينة ضعيفة ولكن هذا الممر مهجورا ونادرا ما يمر فيه أحد ..من المؤكد أنها لما تجد نفسها غير منتفعة من مكوثها فسترحل من هذا المكان المقرف .
    في صباح اليوم التالي حملت معي بعض الخبز والحليب علها تكون لا تزال في نفس المكان .. ومع أني كنت أتمنى أن يخيب ظني وأجدها قد رحلت إلى مكان آخر يكتظ بالناس لتجد مطلبها ، لكن خاب ما كنت أرجوه فوجدتها على حالتها التي تركتها عليها بالأمس .. فوقفت أنظر إليها وهي حزينة وقد وضعت رأسها بين يديها وصرت أقلب نظري على جسمها النحيف وشعرها الناعم وصغر سنها وبراءة شكلها الأليف ثم تذكرت أني تأخرت فتركت الحليب والخبز أمامها وانصرفت بصمت ، ولما عدت وجدت كل شيء في مكانه الصغيرة والكرسي .. والخبز والحليب فاقتربت منها راغبا في أن أطعمها بنفسي فارتعدت خوفا مني فزحزحت الطعام نحوها لتتمكن من الوصول إليه بنفسها ثم انسحبت إلى الوراء فلاحظت أنها تأكل بشره كبير وكأنها لم تأكل منذ أيام ، وفي اليوم التالي حملت لها كمية أكبر من الطعام الساخن وتركته بين يديها ، ولما عدت حملت معي بعضا من الكعك والحليب ، وهذه المرة جلست بقربها فلم تمانع ثم مددت يدي لأطعمها فامتنعت بادي الأمر ثم وافقت أن تأكل من يدي وبعد أن انتهت من طعامها جلست مقابلا لها لأداعبها ولكنها لا تستجيب لحركاتي فرفعت رأسها بيدي ثم حركت يدي الأخرى أمامها فإذا هي ضريرة ..كفيفة البصر وقليلة الحيلة مما زاد من حزني عليها كما أنها لا تستطيع الكلام ولا أعلم إن كانت تفهمني أم لا ، يا ترى منذ متى وهي على هذا الحال وفي هذا المكان ربما تكون منذ فترة طويلة ولم يلحظها أحد فهي نكرة وسط هذه الوحوش البشرية ومن المؤكد أنها لا تعلم أين هي الآن ، مكثت أحاول ملاعبتها بالتصفير وإصدار أصوات مضحكة حتى تتبعني ولكنها ترفض أن تتزحزح من مكانها .. علمت حينها أنها ما زالت تنتظر الشخص الذي وضعها هنا آملة أن يعود ليأخذها إلى دارها وأهلها ، أما فكنت متأكدا أن من وضعها في هذا المكان كان يريد الخلاص منها ، تركتها وتابعت سيري إلى غرفتي وأنا لا أزال أفكر في أمرها : يا لقسوة قلب هذا الإنسان الذي تركها في هذا المكان الموحش راغبا في هلاكها .
    عزمت أمري على أن أرعاها إلى أن أرحل إلى دياري وسأبحث عن من يرعاها من بعدي وأصبحت كل يوم أعودها في نفس المكان الذي ترفض أن تفارقه .. بعد أيام استطعت أن أقنعها بمرافقتي ولا أدري أفهمت رغبتي في مساعدتها أم أنها يئست من عودت صاحبها فوافقت على أن تصحبني إلى حيث أجد لها مأوى ترتاح فيه من ضنك العيش بعيدا عن الوحدة والخوف والضياع ، فلم أجد مكانا أنسب ولا أأمن من ذلك المكان الذي تجتمع فيه مثيلاتها وبنات جنسها لتأتلف معهن .. ملجأ تأوي إليه الضائعات والمشردات وذوات الحاجة لينعمن بالغذاء والدفء والسلام إنه هناك قريب من المطعم الذي أرتاده يوميا وهي فرصة لأطمئن عليها بين الحين والآخر ،حملتها معي وهي منقادة مستسلمة بما فيها من حزن عميق ونفسها تواقة إلى العودة لدارها الأسبق وحياتها الأولى في ذلك البيت الذي نبذها وقد خلا قلبها الصغير من الظن السيئ بهم ( ربما سيعودون لحملي فلا يجدوني حيث تركوني .. وسيبكون علي ويشتاقون لي .. وبالتأكيد سيبحثون عني ) لسان حالها كان ينطق بهذا عندما غادرنا المكان وقلبها ملتصق بذلك الكرسي الذي لا تراه وتركتها مع صحبتها الجدد حيث يوجد من هن في سنها .. ومضيت فرحا بصنيعي إذ لن أقلق عليها بعد الآن وسأراها كلما جئت إلى المطعم .

    زارني تلك الأيام صديق لي وهو ضابط طيار قد جاء في مأمورية حكومية ربما تستغرق بعض الأيام وقد اتصل بي قبل وصوله فأعطيته عنوان المطعم حيث كان مطعما رائدا لنلتقي فيه ودار بيننا حوار طويل في مواضيع شتى .. وعلمت منه أخبارا كثيرة عن البلد والأهل والأصحاب ، وبينما نحن كذلك رأيت صغيرتي تسير بمحاذاة المطعم فقصصت حكايتها لصاحبي الذي تألم لمعاناتها وأشفق عليها ثم أخذ شيئا من طعامه وسار نحوها وصار يطعمها ويلاعبها .. لقد سررت جدا بزيارة ذلك الصديق الذي مكث لأسابيع ولم ينقطع عن ملاقاتي يوما واحدا وفي كل يوم نأتي إلى المطعم وننتظر الصغيرة حتى يقدم أحدنا جزء من طعامه لها ، وحان موعد سفره فتوادعنا وتواعدنا على اللقاء في الديار ( بإذن الله ) ثم غادر وكان آخر كلامه لي وصية بتلك الصغيرة والعناية بها ، وكنت سأفعل بلا وصية ولكن حالت الامتحانات بيني وبينها ولم أجد الفرصة حتى لنفسي فكنت لا آكل إلا قليلا ، فانقطعت لأيام عديدة عنها وعن المطعم .

    لما انتهت الامتحانات ذهبت إلى المطعم قبل أوان الوجبة وانتظرت طويلا ولم تمرق الصغيرة من هناك .. وتكرر هذا الأمر معي لأيام وأنا لا أراها فقلقت عليها وصرت أتبحث في أمر اختفائها حتى علمت أن المسكينة لم تكن مرتاحة في هذا المكان وأن كل ما يصبرها عليه كان وجودي وصاحبي ذالك العطوف الحنون لما وجدت فينا بعض الشفقة والحنان المفتقد والعوض عن من كانت تعيش معهم ، أما صاحباتها اللواتي وضعتها معهن فقد كن يضربنها ويؤذينها ولا يقبلن أن تأكل أو تلعب أو حتى تسير معهن وعادت منبوذة وحيدة كسابق عهدها ، وبانقطاع زياراتي لها .. انقطع أملها واختفى ذلك البصيص من النور للتشبث بالحياة ، وظنت أني تركتها كما تركها من قبلي فرحلت وهامت على وجهها .. بحثا عن ماضيها ورغبت في العودة إلى مأواها والكرسي بشيء من الأمل القديم أن يعود أحد للبحث عنها ، أو ربما تصادف شخصا مثلي يشعل لها شمعة أمل في الحياة حتى تنطفئ ويأتي آخر فيشعلها من جديد ، ولكنها ضريرة لا ترى طريقها فكيف ستصل إلى هناك .. لقد تاهت المسكينة وصارت تضرب بجسدها النحيف في كل حائط وغائط ، وترجو رحمة البشرية لينظر إليها أحد أو يدلها على بيتها أو حتى إلى ذلك الممر النتن .. وعصافير الأمل كانت تحوم حول قلبها الصغير ليسقط واحد تلـو الآخر فـتفقد أملا تلو الأمل .
    كم كانت بريئة ووديعة ..وهي تتخبط في السكك والطرقات وتحت أقدام المارة وبين العربات والسيارات ولم يلتفت إليها بشر .. فما ألين الحجر مقارنة بقلوب البشر ، وهناك خلف المدينة وادي غائر قد تجمعت فيه الحجارة والأوساخ نتيجة السيول الجارفة .. حجارة ضخمة وبقايا أشجار وأعمدة إنارة تالفة ، ولما لم تجد صغيرتنا في الإنسان جزء من رحمة بحثت عنها في أماكن لا يأتيها الإنسان .. فساقتها قدماها مع بصيرتها إلى هذا الوادي وقد تعبت من السير أياما بلياليها وهي لا تدري ما الليل وما النهار فحياتها كانت ليل قاتم ونامت فارشة أرض الوادي بحشائشه وصخوره متظللة بجذوع أشجار عملاقة قد حجزتها تلك الصخور الكبيرة .

    عندما علمت أنها رحلت بحثت عنها في كل مكان .. ولقد بحثت طويلا ، وسألت كل من أراه في طريقي عنها تاركا أوصافها ، وقليل من كان يرشدني .. إذ لم يكن يعبأ بها أحد ، سلكت

    كل الطرقات التي أعرفها مسرعا خطاي مع سرعة نبضي وشدة خوفي ( عسى أن لا يصيبها مكروه ) جملة تنبض مع نبض قلبي ..ثم جنَ علي الليل وأنا غير يائس من بحثي .. ربما لأني كنت أشعر بالذنب وتأنيب الضمير .. فلو لم أتركها تلك الفترة لما حدث ما حدث ولقد قصرت في حقها لما أودعتها مع من هن غير أمينات عليها ولم ألحظ سوء معاملتهن لها وبذلك أكون قد

    انتزعتها من المرَ لأذيقها الأمرَ فأصبح دوري كبير في تعاستها .. لذا لن أبرح حتى أجدها ، ولما اشتد الظلام حملت قنديلا وابتعدت عن المدينة بعدما فتشت كل شبر فيها ، ولما وصلت الوادي خطر ببالي أنها لابد أن تكون هناك حيث لم يعد يوجد مخبأ غيره ، ومع قنديلي الصغير أفتش تحت الأحراش والأغصان اليابسة وكلما بحثت أكثر زاد قلقي أكثر وكدت أبكي لما تفاقم حزني ، وقد بحثت لساعات وقلبي يحدثني أني أقترب .. حتى لمحت شيئا صغيرا بين حجرتين كبيرتين تحت الجذوع العملاقة فأسرعت راكضا وتعثرت وقمت غير عابئ بالجرح الذي أصاب قدمي ولا بالدم الي ينزف منها .. حتى وصلت فرأيتها نائمة فتبسمت سعيدا بالعثور عليها ودمعة الفرح توشك أن تسقط من عيني وأنا أمنعها .. وببطء شديد تقدمت نحوها حتى لا أزعج غفوتها وحملتها بين ذراعيَ فإذا هي باردة كالثلج ..ارتعد فؤادي وصرت أحدق فيها ثم حاولت تحريكها فإذا هي ميتة منذ ساعات عدة ولقد تركت الدنيا وتعاستها .. تركت أحزانها وآلامها ..ودعت ظلم الإنسان وسافرت إلى الرحمن وعلامات الراحة على وجهها توحي أنها قد تخلصت من بؤسها وهي الآن تنعم بالهدوء .
    حملت جسدها النحيف وقد تبدلت دميعات الفرح بدموع الحزن العميق وسرت في جنازتها وحدي بلا قريب ولا صديق حميم فقط أنا وهي .. ولكن جنازتها كانت عظيمة فقد كانت مليئة بالرهبة ، وقد حان الخيط الأبيض من الفجر أن يسحب ذلك الخيط الأسود من مكانه لتنتهي الظلمة وبدأت العصافير النائمة تستيقظ وظلت تطير فوق رأسي وكأنها تتبع جنازتها ، ومن أسفل مني كانت الحيوانات الصغيرة تخرج من جحورها تسير خلف جنازة صديقتها البائسة ..لا غسل


    ولا صلاة دفنتها في مقبرة بعيدة لا يوجد فيها غير قبر واحد هو قبرها وهكذا عاشت وحيدة ودفنت وحيدة .
    تلك القطة الوديعة التي سلبت كل فكري وألفت معاشرتها لم تكن مجرد قطة عادية بل تمثل فيها كل البؤس الذي يحل بالحيوانات بسبب الإنسان المتنكر لفضلها عليه وبما خلقها الله لأجل خدمته ، عدت إلى غرفتي وشريط ذكرياتي معها يعود بي من حيث وجدتها .فلقد كانت آمنة في
    بيت يضمها مع أسرتها ولما اكتشف أصحاب البيت إعاقتها رموها في ذلك المكان بدون أن يحملوها لبيطري يرى إعاقتها أو يحاول علاجها ولو فعلوا ذلك لما خسروا ، ولكنها الآن قد ارتاحت ، أعلم الآن أنكم لما علمتم أن صاحبة القصة ما هي إلا قطة ، ذهب كل الحزن الذي راودكم .. بل ربما ارتسمت ابتسامة على شفتيكم .. فكم أنا حزين عليكم معشر البشر ، إذ ذهبت الرحمة من قلوبكم ، وغادرة الرأفة صدوركم ..فلم ترحموا هذه الحيوانات التي جعلها الله مؤنس لنا وفي خدمتنا .. هذه الأرواح التي تدوسونها بعرباتكم في الطرقات كل يوم يموت منها المئات والقاتل لا يبالي ، فلم تتذكروا وصية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بالرأفة بها وقص قصة الرجل الذي أدخله الله الجنة لما سقى الكلب الذي يلهث من العطش ، ولم تعتبروا من تلكم المرأة التي أدخلها الله النار في هرة حبستها حتى ماتت من الجوع ، بل ولم تأخذوا ذلك الصحابي الجليل أبو هريرة قدوة لكم لما حمل هرة مسكينة تحت كمه رحمة بها .. كل ذلك ولكن لا حياة لمن تنادي ، أسأل الله الرحمة لي ولكم وان يجعلنا من الرحيمين بعباده ومن خلق من الدواب والحيوان .

    { النهاية }

  2. #2
    الصورة الرمزية عاشق السمراء
    Title
    "رجل عادي جدا"
    تاريخ التسجيل
    05- 2002
    المشاركات
    21,307

    رد : البائسة ( للقاص العماني جميل الوائلي )

    مسااااااااااااء جميل ...
    حقيقة لم اكمل قراءة القصة حتى النهاية ..
    وكنت اتمنى ان تكون مجزئة على عدة اجزاء .. !!
    لي حضور ان شاء الله ..
    تحية لك اخي اليعقوبي على جميل فحوى هذه القصة !!

  3. #3

    رد : البائسة ( للقاص العماني جميل الوائلي )

    اخي الغالي عاشق السمراء

    لروعة القصه
    لم ارد ان اجزئها

    وكنت اتمنى ان يقراها أعضاء نبض القصه القصيره لأنها قصه من روائع ما كتب

    اساليبها جديده
    ولها رونق ادبي وإنساني خاص

    وانا اعيدها للعلى عسى ان يقرأها أحد

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML