وبدأ أبي يقتني الأجهزة الكهربائية التي كانت بالنسبة لنا شيئاً غير مألوفاً فعندما أدخل والدي صندوقاً أسوداً أول مرة في بيتنا وعمل على تشغيله وظهرت الشاشة بألوانها وأصواتها , إلا وأخذ الصغار في بيتنا يخافون ويصيحون عفريت عفريت , كان أبي دائماً يسخر من عقولنا بهدوء , أما أنا فكنت أمنع أختي الصغرى من البقاء في الغرفة عندما أقوم بتشغيل العفريت ( التلفاز ) بحجة أنه يظهر بداخله الرجال , وأذكر ذات مرة صحوت من نومي باكراً ـ وكنت حريصاً على ذلك ـ حتى لا يسبقني أحدهم فيفتح الجهاز قبلي , ولكن المفاجئة كانت بعد أن قمت بتشغيل التلفاز ولم يظهر لي شئ فظننت أن الساكنين في التلفاز لازالوا نائمين , وهذا غير مقبول في الأرياف فالكل هنا يصحوا قبل العصافير , فأخذت أطرق شاشة التلفاز بقبضة يدي وأنا أنادي : هيه استيقظوا استيقظوا , أيها الكسالى استفيقوا من سباتكم , ولكن لا من مجيب , فلا حياة لمن تنادي , فحسبت ذلك تمرداً على أوامري , فكتمت غيظي وأغلقت الجهاز وقررت معاقبة المتمردين بإغلاق الجهاز يوماً كاملاً . ظناً مني أن هذا التصرف سيكلفهم الجوع والعطش , وعندما جاء أبي أخبرته بأمرهم فتبسم ووافقني على عقابهم ذلك اليوم , ففرحت لذلك ظنناً مني أن أبي أراد معاقبتهم هم لا معاقبتي أنا على تصرفي الأحمق , وكنت أعجب من التلفاز كثيراً فعلى الرغم من حجمه الصغير , إلا إنه يحوي الكثير من الأشخاص والبنايات وغيرها بداخله , وأذكر أني ذات مرة شاهدت مسلسلاً وكانت القصة بوليسية بها لص جاني ومتهم مجني عليه فحاولت جاهداً إبلاغ الشرطي عن اللص الحقيقي ولكن دون جدوى فأضمرت بداخلي أمراً وكتمته , وحينما كان أبي يشاهد نشرة الأخبار رأيت اليهود يهدمون منازل الفلسطينيين ؛ كان المنظر بشعاً , وكان والدي مستاءٌ من ذلك , فقد كان يربينا على كره اليهود وعدائهم ؛ فأضمرت ذلك في نفسي أيضاً , وفي النشرة نفسها جاء خبر عن رواد الفضاء , ورأيت البذلة التي طالما حلمت بإرتدائها وأنا أزور مسقط , فأضمرت ذلك أيضاً , وما إن ذهب والدي ومن بالبيت للنوم حتى خرجت متلصصاً على أطراف أصابعي , فعمت على جهاز التلفاز وأنزلته على الأرض فتعجبت من قوتي كيف استطعت حمل جهاز به الكثير من الناس والبنايات والسيارات ورواد الفضاء وغيرهم كثير , فأصابني الغرور, وأدركت أن تلك القوة ستساعدني على القبض باللص الحقيقي الذي شاهدته في المسلسل وتسليمه للعداله , وأستطيع تدمير آليات اليهود والبطش بها , فقوتي تفوق قوتهم وإلا لمستطعت حملهم وإنزالهم على الأرض , وكان الأهم من ذلك كله حصولي أخيراً على بذلتي المفضلة لرواد الفضاء دون الحاجة للذهاب إلى مسقط , ولكن سرعان ما تبدد كل شئ حينما فتحت براغي الجهاز ورفعت الغطاء وليتني لم أفعل , لم أجد ما كنت أتوقع , فلم يكن هناك سوى أسلاك صغيرة وقطع دقيقة أشاهدها لأول مرة , فخفت وفزعت وأعدت كل شئ كما كان وذهبت مسرعاً إلى النوم خشية أن يكتشف والدي الأمر, فيعلم إنني من حرك التلفاز, ففقد بذلك كل ما كان بداخله , هذا ما كان بداخلي وهذه الأفكار هي ما بثه الخوف بي , ولكن سرعان ما اكتشفت الحقيقة عندما أقدم أبي على تشغيل الجهاز في اليوم التالي الذي عاد كما كان بكل محتوياته فأدركت حينها أنه جهاز كاذب ليس له مصداقية فقررت التخلي عنه نهائياً وهكذا إنتهى عهدي بهذا الجهاز الصغير وإلى اليوم .
وها هي وقفتي الثـــالثــــــــة
لهذه الرائعــــــة ....
سيدي رسام الغرام ....
لازلت ُ مصرة ً على تلك العفوية التي انتهجتهـــــــــا في مذكرتك هذه
ولازلت ُ مصرة ً أنهـــــــــــــــا ليست خيـــــــــالية !!!
فلا أحسبني أهذي حينمــــــــا أراهـــــا تتجسّـــد أمامي وأرى الأطفـــــــال وقصصهم مع التلفــــــاز ...
رااائع ..
تصوير بديع ، لفكــــــرة أولئك الأطفــــــــال ...
سأخبرك أمرا ً ,,,, أنــــــــــا أيضـــــا كذلك !!!
حينمــــــــــا كنت طفلـــــــــة أتعجــــــــب متسائلة
كيف يمكن لكل تلك الأشيــــــــاء الضخمــــــة أن تسكــــــــن التلفــــــــاز !!!!!!
سيدي .....
أعجبتني كثيرا ً تلك الأوصـــــــاف الدقيقة لتفكيـــر الصبيــــة ....
وكيـــــــف كانت منتقـــــــــاة لواقع كان جميلا ً ....
رســـــــــام الغــــــــرام ....
أعجبني تفـــاعل فتــــــــــــــاك مع الأحداث التي يراهــــــــا
ومحبته للخيــــــــــر ، ومحاولته تغيير ما يراه !!
هنــــــــا جالت الأفكـــــــــار بصومعتي ، هل أطفـــــــالنا الآن يتّسمــــــون بحب الخيـــــــــر ؟؟!
وكم كان مؤلمــــــــــا اكتشافه حينما علم بأن ما رآه لا يعدو أسلاكـــــــا تمر فيها اشارات لتُـــرى !!!
وتلك الخشيـــة كم أتذكــــر المـرات التي كنـــّـــــا فيهــــــــا نختبئ من الوالد
خشية العقـــــــــاب .........
جميــــــــــــــــــــــــل ٌ جـــــــدا ً ...
سيدي ...
لازلت أهنؤك عـــلى قلمــــــك النابض ...
تحيـــــــــة الظهيــــــــــرة ورائحة البنفســـــج
أبعثــــــــــــــــــهـــا
أنغــــــــــــــــــــام الكــــــــــــــلام