عريشة العنب
بدا طريق العودة قصيرا جدا ، بدأت أشعة الشمس بالتمدد، أخذت تبدد ظلمة المكان ، انسحب الظلام يجر سكونه القاتل، سارت وسط الوهادالواسعة و الجبال العالية وتلك الوديان العميقة النائمة هناك والملتفة بأشجار اللوز الأخضر والجوز والعناب والزيتون الشامخ تعطر المكان بروائح رائعة وكأن لمى تشمها لأول مرة ، ارتفع صوت زقزقة العصافير التي بدأت تستيقظ على وقع أقدام لمى المفعمة بالحياة والأمل عاليا وبدأت تلك الحمائم الناعسة بالإستيقاظ وامتلأ المكان بهديلها الصافي الرخيم وكأنها تداعبها ، وترحب بها في يومها الجديد،و كأن جوقة موسيقية تعزف للمى نشيد فرح القرار، شعرت حتى أن نسائم ذلك الصباح الندي يعبث معها، يداعب بشرتها الفتية ، بلفح أنفها الشامخ بأرنبته الرقيقة ، يدخل رئتها المتعطشة للعلم والفرح ،جلس سامر هناك بعيدا ، ينظر اليها يودعها أم يستقبلها بنظراته الخجولة، ينظر من بعيد لفراشة تطير نحو الأفق الجميل، .
شعرت لمى بروحها تقفز أمامها، وتكاد تطير بها للعودة للمنزل ، مشتاقة لجدرانه العتيقة ، متلهفة لأبوابه الصدئة، تتشوق لمعانقة أرضه الأسمنتية القديمة ، تعانق شجرة الليمون واللوز وعريشة العنب التي كانت بانتظارها مشتاقة ،و أن روحها تصالحت مع نفسها وجسدها ، عادت لحجمها الحقيقي ، روحا سامية شامخة ، تؤوي لجسد طاهر ،قوي ، تفتخر به ،بدى الجبل صغيرا والمنازل كذلك ،و أنها عملاق كبير، يمشي بأقدامه الضخمة، بل يطير طيرانا.
وصلت للمنزل ،فتحت الباب بهدوء شديد، فرحت حتى لصرير بابهم العتيق، دلفت إلى باحة الدار ،نظرت إلى عريشة العنب ذات الأغصان الجرداء العارية ،البنية الرفيعةوقد تجردت من أوراقها الصفراء التي ماتت ،خوفا من برد الشتاء القارص ،لكنها هنا تفتح ذراعيها العاريتين مرحبة بها ،تقول لها أهلا لمى ،أهلا بعودتك لدارك ،لبيتك ،نظرت إليها بحب وتخيلت تلك الذارع العارية التي تعصف بها الريح ، ما هي إلا أم حنون تحني عطفا عليها ، تمد أذرعتها البنية السمراء لتحضنها لتحميها لتجعلها تغفو بين أغصانها المتدلية بانحناء رائع ، ضحكت من منظرها ،دق قلبها فرحا، يا لقلبك البريء يفرح حتى من منظر عريشة عنب جرداء عارية،تنفست بعمق ،وكأنها تأخذ جرعة قوية من سر الحياة الذي تحمله تلك الأغصان العارية ، نظرت لشجرة البرتقال والليمون، بدت تلك الأغصان المليئة بأوراق خضراء فتية تغرد فرحا بعودتها ، تتحرك ،تحتك وتصدر صوتا ،رخيما ناعسا، وقد تدلت بين تلك الأوراق الخضراء حبات البرتقال البرتقالية الندية الفتية ،كثوب عروس وشي بالذهب، ونثرت على جوانبه حبات من الزمرد الأخضر والألماس الأصفر ، دخلت غرفتها حيث يرقد إخوتها ، متراصين حول بعضهم البعض طلبا للدفء أم لضيق المكان ،سيان عندهم ،سمعت صوت أمها وهي تحاول تسخين الماء في الصباح الباكر من أجل استحمام الأب ، خطوات أقدامها النشطة وهي تتوجه للمطبخ من لإعداد طعام الفطور ، نظرت لأمها بعد أن ارتدت ملابس المدرسة، يا لك من سيدة قوية، رغم كل تلك الآلام لا زلت صامدةـ ،تعدين الطعام، تجهزين المنزل من أجل ذلك الغول الذي يرقد بالداخل،في غرفته الملكية الزرقاء، كان منزل لمى مكونا من غرفتين ،غرفة واسعة جدا تطل على عريشة العنب وأشجار الليمون واللوز المصطفة ،وقد توسط الغرفة سرير واسع جدا ،عليه غطاء أزرق موشى بخيوط حريرية ذهبية، وتناثرت على أطرافه أزهارا صغيرة من اللون الأبيض، وبجواره خزانة كبيرة للملابس بيضاء ،وهناك طقم كنب أزرق اللون موشى بورود بيضاء ، كانت تلك هي غرفة الوالد ، وبجوارها غرفة ضغيرة اكتظت بفراش متكدس فوق بعضه البعض، مصنوع من الصوف، وفوقه تنام عدة ألحفة قطنية بيضاء ، وتناثرت في جوانب الغرفة فرشات اسفنجية، يجلسون عليها نهارا، وينامون ليلا، وبجوار تلك الغرفة، يوجد مطبخ العائلة ،وبجواره غرفة متوسطة الحجم ،هي غرفة الحمام والاستحمام ، وأ،مام تلك الغرف المصطفة هناك أرض واسعة مقسمة قسمين ،قسم من الأسمنت والقسم الآخر ترابي وقد غرزت به أشجار اللوز و البرتقال والليمون والتوت وعرايش العنب .
خرجت لمى من الغرفة ،بعد أن أدت صلاة الفجر، وقرأت سورة ياسين ،وأذكار الصباح ، قبلت رأس أمها ويديها قائلة (الله يصبحك بالخير ) كيف أصبحت ؟ردت الأم :بكل الخير، الحمد لله يا انبتي لا تحزني، أعرف أني السبب ،كانت الأم تهرب من نظرات لمى ، شعرت لمى أنها هي الأم ،وأن صفاء هي الطفلة المسكينة الضعيفة ، قبلتها ،احتضنتها، مسحت بيديها على رأسها ، شعيرات قليلة من الشيب بدأت تظهر، ضحكت لمى قائلة: يظهر أن حبك لجواد شيبك قبل الأوان، ضحكت الأم، وبحركة لا شعورية ربتت على شعرها ومسحت عليه لتهذب بعض الخصلات الناعمة التي نزلت وغطت عينيها ،أعقبت لمى: أرجوك لا تقولي أنت السبب، قالت الأم بحزن شديد وبصوت المستسلم الضعيف : بلى أنا السبب ،صمتت وانهمرت الدموع من عينيها ،هل تعرفين ما السبب الحقيقي؟ فشلي أنا هو السبب !! لقد فشلت في جعله يحبني ،لو أحبني لما فعل كل ذلك ، لا أعرف لم؟؟؟مع أني حاولت المستحيل، ردت لمى: ماما أرجوك، كفي عن لوم نفسك ،ونعتها بالفشل ،دائما هناك أمل صدقيني ،ثم أنا متاكدة أن والدي يحبك ، وإلا لم تزوجك؟
ردت الأم بصوت هامس وكأنها تكلم نفسها : هذا هو السؤال الذي أسألة لنفسي في اليوم الواحد عدة مرات، لم ؟؟ لم؟؟ ولا أجد جوابا.
ضحكت لمى وقالت: الجواب واضح يحبك، ولكن بطريقته الخاصة،ردت الأم باستسلام :أتمنى ذلك.
قال لمى : سٍأذهب للمدرسة الآن قبل أن يستيقظ والدي.
خرجت مسرعةمتوجهة للمدرسة بدأت يوما جديدا، فرحت كل المدرسات بعودتها ،استدعتها المديرة لتهنئها بالعودة، وتعرف منها سبب التأخر بالعودة للمدرسة ،ووعدتها بتقديم كل أنواع المساعدة لها ،وأن المدرسات على استعداد لشرح كل ما فاتها من الدروس ،
كان يوما حافلا بالنشاط ،شعرت بالحيوية والحياة تدب في اوصالها، الدماء الجميلة الغنية بالاكسجين تتدفق في وجنتيها، تدب الحياة في أطرافها، روحها سعيدة ،تستمع بكل فرح لشرح مدرساتها ،وأن قلبها يكاد بتوقف من الفرح ،يا لجمال الحياة ،يا لغبائي كنت سأترك كل ذلك وأذهب للوادي السحيق أعانق الموت هناك ،شدت بيديها على القلم وهي تحل مسألة الرياضيات بكل مهارة ،مما أثار إعجاب المدرسة والتلميذات،فصفقوا لها .
توالت الحصص سريعا ،ورن جرس نهاية الدوام والعودة للمنزل ،شعرت أن ذلك الجرس يخرجها من الجنة، لم ؟أرجوك ،قف ،لا ترن ،توقف،لا فائدة ،لم يستجب لتوسلاتها انتهى الدوام، نقطة في آخر السطر.
خرجت من المدرسة تحمل كتبها الجديدة ،ما أن دلفت ومشت قليلا بالشارع ،حتى شعرت أن غول الطريق عاد ،كيف عاد الغول؟،الغول لا يظهر إلا ليلا ؟؟و الوقت ظهرا ،سمعت صوت شهيقه وزفيره البشع، تكاد تراه، نظرت حولها مستغربة ،ما الذي حدث ماذا جرى ؟رأته هناك، كان والدها يقف في زاوية الشارع ومعه ثلاثة رجال أقترب منها ،أمسك بذراعها ،شد عليها بقوة، كاد يسحقها ،قال لها :هيا الى المحكمة . لم المدرسة؟ألم أقل لك سنذهب للمحكمة ؟؟هيا بنا ،ولم يقف ليسمع جوابها ،جرها بيدية كالنعجة تماما .
الجزء الخامس: أيها القاضي .
سقطت حقيبة المدرسة من لمى على قارعة الطريق ،رفعت عينيها ،اخذتها ،والدها يجرها بقوة تمسكت بالحقيبة ،لم تتكلم، ولم تنبس ببنت شفة، شعرت أن قواها انهارت ، كل أسلحتها تلاشت ،إنها كالنعجة التي تساق إلى المذبح بكل هدوء، حتى النعاج يا لمى ترفض ، تعاند ، أما لمى فلا،ما الذي حدث لي؟؟ ، أين قوتي؟ بأسي إرادتي ؟،حبي للحياة ؟تلاشى كله أمام عيني والدي القاسيتين، وقامته المديدة وصوته الآمر الناهي،و ذراعية اللتين بدتا كحجري رحى تطحنها جيدا ،أمام ناظري أولاد عم والدها الثلاثة.
بعد حوالي النصف ساعة، توقفت سيارة الأجرة ونزلت لمى مع والدها وبقية الرجال، هناك شاهدت رجلا وبجواره امرأة شامخة الطول ،تضع حجابا على رأسها، بيضاء ،اللون ،بعيون خضراء فاتحة، وأنف أشم ، وترتدي دراعة كالتي ترتديها نساء الأردن سوداء موشحة بخيوط تطريز رائعة ،وقد شدت خصرها النحيل بحزام أسود ، كان لون بشرتها قد ازداد احمرارا من البرد الشديد، انهمرت دموع لمى من البرد ، مسحتها بقوة، رفعت رأسها شامخا ، تقدمت مع والدها نحو تلك المرأة ،أمرها بالسلام عليها قائلا: خطيبتي فاطمة ، خطيبك محسن، نظرت لفاطمة ومحسن دون ان تراهما !!و محسن بدى باهتا لا لون له ،لا يوجد حتى ملامح ،لا ترى ملمحا له أبدا ، ماذا حصل لعينيها ؟ رأت ملامح خطيبة والدها جيدا، أما هو فلم تر شيئا!كأنهما تحلقان في الفراغ ،لا شيء أمامها .
أمسك والدها بيدها جيدا ودخلا المحكمة، تقدم من رجل الأمن وهمس له بكلمات عديدة، أومأ رجل الأمن له ،توجه وفتح بابا كبيرا وضخما ،نظرت للباب ،خلفه غرفة الإعدام،تمنت لو ذلك الباب لا يفتح أبدا ، ذلك الجندي لا يعود، ليذهب للمنزل لتناول طعام الغذاء ، يستدعيه أي امر خر ،بدت كالغريق الذي يتعلق بقشة واهية ،عاد الشرطي سريعا، ما أسرع الوقت في المحكمة .
عادت روحها تحلق بعيدا يا إلهي مثل ساعةالوادي ،أين أنت أيتها الروح؟ صعدت للأعلى ، غادرتها ،رأتها لمى تطير بعيدا حسنا ،لقد اعتدت على ذلك، في كل أزمة تتركيني مع نفسي لوحدنا ، دخلت الغرفة ، جرت أقدامها جرا، كانت الغرفة كبيرة جدا ،وفي وسطها مكتب كبير، وخلف المكتب يجلس شيخ وقور ،نظرت للشيخ ،لقد عادت تبصر من جديد، بدى شيخا وقورا بلحية بيضاء تتخللها شعيرات سوداء متناثرة ،زادت من وقاره ،رأسه ضخم، كان وجهه أسمرا وكأن سنوات عمره الطويلة قد عركته بشدة فبدت سمرته مضيئة ، وأنفه كبيرا وبه حدبة في الوسط،ووضع كوفية بيضاء وسوداء على رأسه ، يديه الضخمتان تفتحان كتابا كبيرا ،إنه كتاب الإعدام ،هنا تقتل النفوس أم تحيا ؟؟
أمرها الشيخ بالجلوس، بدأت مراسم كتب الكتاب، أخذ الشيخ يتكلم ويتكلم ،و الجميع في حالة صمت مهيب لكلامه الذي لم تسمع منه شيئا !!ثم سمعت والدها يقول :بصوت جهوري ثابت: جواد عبد الخالق واسم العروس ،اسم العروس ، وكلام وكلام ،نظر إليها الشيخ جيدا وقال ،أعيد وأكرر ما اسمك يا ابنتي؟؟
ردت هه هه ،نعم أنا أسألك ما اسمك يا ابنتي ؟ردت بصوت خجول: لمى ،لا تعرف من الذي رد ؟ومن أين خرج الصوت؟ سألها الشيخ: هل أنت موافقة على الزواج من هذا الرجل محسن سالم السنادي ؟
ردت من الذي يوافق ؟
عاد الشيخ وقد نفذ صبره سألتك للمرة العشرين :يا ابنتي هل أنت موافقة على الزواج من هذه الرجل محسن سالم السنادي؟
ردت :بل أنا أسألك أيها الشيخ لم أنا هنا فأنا لا أعرف؟
استغرب الشيخ من ردها ،نظر اليها وقد اتسعت حدقتا عينيه /،نظرت اليه متسائلة :حقا أيها الشيخ أنا لا أعرف لم أنا هنا ؟
تنهد الشيخ الوقور، أغلق الدفتر ، نظر لوالدها الذي انتابه الفزع والهلع ،وقد بدى، خائفا مترددا يضغط بيده اليمنى على اليسرى بكل قوة، وينتقل بنظرات عينيه بين القاضي ولمى، ثم ما لبث أن تمالك نفسه وقال: لمى ما هذا الكلام ؟؟
أمره القاضي بالصمت ،ثم قال: لو سمحتم ،جميع من في الغرفة يخرج.
ظل جواد واقفا وكأنه لم يسمع ،ولم يتحرك ، خرج الرجال الثلاثة والعريس وخطيبة والده ،بينما ظل جواد واقفا مركزا عينيه على لمى، اومأ القاضي للحارس ،تقدم الحارس من جواد ،وأمسك بذراعه ،انسحب جواد بكل هدوء ثم ما لبث أن اغلق الجندي الباب ،نظرت لمى للباب وهو يغلق، وتنفست الصعداء وأخيرا أغلقت باب الموت، نظرت للقاضي بكل ثبات وشجاعة ،عادت روحها إليها مرة أخرى، تكلمت بكل هدوء: حضرة القاضي أنا حقا لا أعلم لم أنا هنا ؟؟
سألها القاضي لمى: في أي سنة أنت تدرسين ؟؟أجابت كالتلميذة النجيبة :في الصف الأول ثانوي ؟
كم عمرك با ابنتي ؟ ردت: خمسة عشر ة عاما .
ألا تعلمين أنك بالمحكمة للزواج ،ردت :نعم أعلم ولكن، الذي يريد أن يتزوج والدي ،فليتزوج ، أما أنا فلا ، حضرة القاضي أناأريد أن أتعلم أكمل تعليمي لا أفكر بالزواج حاليا.
حسنا يا ابنتي ،من شروط الزواج الموافقة،، والقبول ،مما يعني استحالة عقد هذا الزواج ،لا تقلقي ، سأكلم والدك ،ولن يتم هذا الزواج ،أنا معجب جدا بشخصيتك وقوتك وعزيمتك، سأتكلم مع والدك وأفعل ما أقدر عليه من أجل منع هذا الزواج، لا بأس عليك ،ثم أمرها بمغادرة الغرفة ،والانتظار خارجا، وطلب من الشرطي استدعاء والدها ،واصطحابها للخارج .
خرجت من الغرفة رافعة الرأس، شامخة القامة ،شعرت بسرور كبير ،بفرحة غامرة ،يا لهذه الدنيا وأحوالها العجيبة ،دخلت الغرفة وكأني أدخل غرفة الاعدام، ليتضح لي أنها غرفة الإنعاش والحياة ،ما أجملك أيها القاضي وأروعك.
جلست بكل هدوء على ذلك الكرسي المتهالك القديم ، الذي بدى لها كأنه عرش الملكة بلقيس ،ما أجمل اتخاذ القرار، ما اجمل الإصرار والعزم ،إنها أمور سهلة جدا، لم بدت لي صعبة عند دخولي المحكمة ؟الأمر بسيط ومناط بي، وبتصرفي ،يا لروعتك يا لمى ،عادت إليها الثقة بنفسها دقائق قليلة، فصلتها عن الموت الزؤام.
بعد دقائق بدت دهرا جميلا جدا ،خرج والدها من المحكمة ،لم يتكلم بكلمة، اقترب من محسن وأخذ يتكلم معه ويحرك ييديه بعصبية شديدة، كانت أخت محسن فاطمة جالسة هناك بانتظار نهاية الكلام ،ولا تعرف ما الذي حصل ،ولم خرجت لمى، ثم دخل عريسها ،ثم خرج ؟اقترب جواد من عروسه ،تكلم معها ،ابتسمت قليلا أومأت برأسها، وغادرت المحكمة مع محسن ، اقترب جواد من ابنته ،وقال لها بكل هدوء هيا بنا نعود للمنزل .
في طريق العودة، كانت السيارة تنهب الأرض نهبا ،تسرع بهم، لم تكن تمشي بل تطير، هل تفرح الأشياء مثلنا ؟؟رغم شدة خوفها من والدها ،لكن شعور الفرح كان أقوى ،للحياة مذاق وطعم رائع ،لا يعرفه الا الصامدون الصابرون، ضمت يديها ،أخذت ترتب جلبابها، تنظر للطريق،للأشجار، للناس، كان الشارع مليئا بالحياة،بالشباب ،بالطلاب جامعة اليرموك، وقد بدأوا يخرجون منها، كل منهم يحمل مجموعة من الكتب، زرافات ووحدانا ،طلبة يجلسون تحت تلك الأشجار الضخمة، أشجار الكينا الخضراء، التي تظللهم ،وبدى في البعيد هناك أشجار الزيتون ،وعرائش العنب ، في البيوت كان هناك أطفال يلعبون، ونساء تشرب القهوة في شمس العصر اللذيذة الدافئة ، ورجال يعودون لمنازلهم يحملون أكياسا بها ما لذ وطاب من الطعام ،نساء كبيرات في السن يمشين بكل تؤدة ،يحملن سنوات عمرهن الطويلة ،في رحلة الحياة الصعبة بكل حماس ،ونساء يمسكن بأيدي اطفالهن متجهات للسوق ،لشراء ما يلزم، الحياة كبيرة وواسعة، ومليئة بالناس ،من شتى الأعمارو الأشكال، يا لجمال الحياة في بلدنا ، يا لروعتها ،شعرت أنها تريد أن تصرخ أنا واحدة منكن، أنا أعيش بقوة وبحماس ،أنا طالبة ثانوية، أدرس في مدرسة رائعة، كل تلك الأفكار تجول في بالها بسرعة البرق، وبين فترة وأخرى تبتسم ابتسامة المنتصر الواثق من نفسه .
وصلت السيارة سريعا للمنزل /،،نزل والدها ثم نزلت هي، دخل المنزل أولا جلس على تلك الكنبة القديمة الخضراء المهترئة ،تحت شجرة الليمون ،أشعل سيجارة وأخذ ينبث بدخانها بشراهة شديدة، دخلت لمى ،صرخ بالأم قائلا أريد فنجانا من القهوة،أسرعت الأم تنفذ ما طلب.
دخلن لمى الغرفة ،خلعت جلبابها ،ارتدت ملابس المنزل، مشطت شعرها ، كانت عيون أشقائها تنظر لها بخوف شديد، عم الصمت المنزل ،لا يوجد أي حركة أو صوت فقط دخان سيجارة الأب المتصاعد يرسم دوائرا في هواء الشتاء القارص.
خرجت لمى ،تريد التوجه للمطبخ ،،قام والدها ارتفعت قامته، بدى كبيرا جدا ،كغول الطريق ، غطى المكان حجب الرؤية ،انهالت يده على وجهها كصخرة كبيرة قاسية، ارتطمت بوجنتها فاهتزت تلك الوجنة ،وتناثر الرذاذ من فمها ،تراجعت للوراء بقوة وبسرعة ،ترنحت كغزالة مذبوحة، التف وجهها للوراء ،وقعت على الأرض بقوة ،اصطدم رأسها بأرضية المنزل الأسمنتية ،دوى صوت قوي يشبه الصرخة من جراء وقعتها على الأرض ،وضعت يديها على وجنتها الملطومة ،ثم ما لبثت أن تحسست رأسها المشدوخ ، قطرات من الدماء تناثرت على الأرض من رأسها ،مرة أخرى انفكت ربطة شعرها ،رغم أنها شدتها جيدا قبل خروجها ،تطاير شعرها وتشابكت خصلاته مع بعضها، و كأنها تؤازر بعضها بعضا ،قامت من الأرض ظلت جالسة بلا حراك ،بلا كلمة ، عم الهدوء المكان مرة أخرى ،زوبعة كبيرة عمت المنزل، ثم الهدوء بعد العاصفة، وقف الأب مرة اخرى بدى كعملاق ، تفل عليها ، شعرت أنها قزمة مرة أخرى و جسمها يتضاءل أمام قامة والدها الفارعة، وأن منزلهم كبير جدا ولا يوجد به إلا هي ووالدها الذي نظر إليها شرزا ثم خرج ،واطبق باب المنزل الحديدي بقوة .
ما أن خرج المارد حتى هرعت والدتها إليها ، وهي التي لم تكن لتجرؤ على الاقتراب منها ، ولا حتى إبداء شعور الشفقة عليها ، وإلا نالها نصيب من الضرب و الإهانات.
التف إخوتها حولها يبكون ويمسحون بأكفهم الدماء عن وجهها ، جرتها أمها جرا نحو الغرفة الصغيرة ، أسرعت لتشعل نارا علها تدفئ ذلك الجسد الضعيف المتهالك، لم تكن لمى تشعر بشيء وكان الوقت توقف، كل ما يهمها هو خروج المارد من المنزل، مر الوقت سريعا ، أصرت عليها أمها بتناول ولو القليل من الطعام الذي أعدته ، كان عبارة عن شوربة من العدس الأصفر، وبجوارها حبات من الزيتون الأخضر الشهي مع قرون الفلفل المقطع شرائح وقد تم إغراقه تماما بزيت الزيتون ، وقد صفت بجواره الوعاء أرغفة الخبز السميكة البيضاء الشهية، حاولت لمى الأكل، لم تستطع ، كانت أسنانها تؤلمها بشكل كبير فلم تسطيع تحريكها لمضغ الطعام، بينما تحاول والدتها إرغامها على الأكل، سمعت الأسرة المكلومة طرقا قويا على الباب الحديدي، دب الرعب في قلب الأم ، هل عاد الأب ، تبادلت مع لمى نظرات الرعب، قام شقيقها حمزة بالأعأعوامه العشرة بسرعة لفتح الباب، عاد مسرعا وهو يقول / يمة يمة أخوي عبادة بالباب مع ابن خالته سامر يريدان الدخول!
دق قلبى لمى بعنف شديد ، وكأن الحياة عادت له مرة اخرى ، أصلحت غطاء رأسها ، أخذت طرف الحجاب ومسحت به وجهها ودموعها ، قامت الأم مسرعة قائلة: أهلا وسهلا بعبادة وسامر تفضلوا تفضلوا .
سمعت وقع أقدامهم داخل المنزل/ نظرت إلى أعلى كان عبادة بوجهه الجميل وشعره البني المسترسل الطويل وقد ارتدى قميصا مخططا أزرق اللون مع بنطال من الجينز وقد ربط كم قميصه جيدا عند ذراعه المبتورة ،ودخل خلفه سامر وقد اعترى وجهه خجل شديد وجلسا ، تقدم منها عبادة واحتضنها بيده الوحيدة القوية، قبل رأسها ، ووجنتيها ،جلس بجوارها ،نظر إليها عبادة وقال : لقد عرفت ما حصل !!