النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: الثقافة العربية المعاصرة وبعض التساؤلات

  1. #1
    الصورة الرمزية هيثم عساف
    Title
    نبض جديــد
    تاريخ التسجيل
    12- 2008
    المشاركات
    144

    Icons26 الثقافة العربية المعاصرة وبعض التساؤلات

    منذ زمن طويل لم أسمع بكلمات تشبعني، تروي غليلي، أو تطفئ عطشي
    إلى الحقيقة كتلك التي كتبها عيسى مخلوف على ظهر كتابه الأخير.
    كان ينبغي أن تنتظر طويلاً لكي ترى أمام عينيك كلمات لها معنى في
    الثقافة العربية. قد أكون أبالغ قليلاً أو كثيراً إذ قليلاً هذا الكلام المندفع
    أكثر من اللزوم. وأنا فعلا أبالغ بسبب الحماسة والاندفاع.. فهناك آخرون
    في الساحة غيره ويمشون في نفس الاتجاه وإن بطرق وأساليب مختلفة.
    هناك مثقفون عرب مهمون جداً ويمشون في الاتجاه الصحيح: اتجاه المستقبل.
    وعيسى مخلوف ليس الوحيد في الساحة الثقافية العربية لحسن الحظ.
    ولكن لنستمع إلى هذه الكلمات الجميلة وكيف نجح الكاتب في تشخيص
    الإشكالية الكبرى للثقافة العربية في عبارات قليلة مقتضبة:

    "يبقى السؤال: ماذا تعدّ المجتمعات العربية والإسلامية لنفسها
    من أجل مواجهة التحديات الكبرى المتعاظمة ومن أجل بلوغ حوار
    متكافئ مع الثقافات الأخرى؟ طبعاً ليس الموروث السلفي ولا تقديس
    الأجداد ما نحتاج إليه الآن. وإذا كان لا بد من الالتفات إلى الماضي فليكن
    إلى جوانبه المضيئة، العقلانية والجمالية فحسب، أي إلى الماضي الذي
    ينظر إلى المستقبل، لا الماضي المحنط والمنغلق على نفسه كالقبر.

    نحتاج إلى ولادة أخرى، إلى أبوين آخرين بعيداً عن ذهنية التكفير والتخوين".

    هذه الكلمات القليلة تحتوي على برنامج عمل متكامل لكل المثقفين العرب
    ولكل الحقبة القادمة التي قد تحتد حتى عام 2050 أو 2100! ذلك أن الكلام شيء
    والفعل شيء آخر. من السهل أن نقول بأنه ينبغي أن نأخذ من الماضي –
    أي من التراث العربي الإسلامي- قيمه التحررية أو العقلانية فقط.
    ولكن المشكلة هي أن قيمه المعاكسة (أي القمعية المتعصبة) هي التي
    تملأ وعينا الجمعيّ وتشرّش في عروقنا وخلايانا. القيم السالبة التي تشد
    إلى الخلف هي الأقوى وليس القيم الموجبة التي تشد إلى الأمام.

    وبالتالي فأين المفرّ يا عيسى مخلوف؟
    لكي نستطيع أن نتوصل إلى الجوانب المضيئة والعقلانية من التراث ينبغي
    أن نتخلص أولاً من الجوانب المظلمة والعدوانية التي تهيمن علينا منذ انهيار الحضارة الكلاسيكية
    قبل ثمانية قرون (تاريخ موت ابن رشد وهزيمة الفلسفة يعود إلى 1198)م.
    لهذا السبب أقول وأكرر القول بأن التحرير المنتظر ينبغي أن يمرّ بالمرحلة السلبية أولاً
    قبل أن يتوصل إلى المرحلة الإيجابية. ينبغي أن نمر بمرحلة التفكيك
    والتعزيل الكبير قبل الوصول إلى مرحلة البناء والتعمير.

    ولذلك أقول بأن الانهيارات التي تحصل الآن هي انهيارات إجبارية، أي منطقية مسجّلة في
    أحشاء الواقع وكان ينبغي أن تحصل وتنفجر. ولن تتوقف قبل أن تشبع من نفسها،
    قبل أن تصل إلى نهاياتها. على هذا النحو أفسر "اللحظة الأصولية" التي نعيشها اليوم.
    إنها عبارة عن انفجار للمتراكم التراثي السحيق المتكدس في أعماق أعماقنا.
    ولن يستريح التاريخ، ولن يتنفس الصعداء إلا بعد أن تقذف أحشاء اللاوعي
    الجمعي بكل هذا المتراكم المكبوت، بكل هذا المحتقن المضغوط الذي ظننا
    أننا تجاوزناه أثناء مرحلة اليسار السطحي الهش في الستينات والسبعينات
    من القرن الماضي. فإذا به ينفجر في وجوهنا كالبركان بعد السبعينات.
    بمعنى آخر فإن العمل الحقيقي ابتدأ الآن لأن المواجهة الشرسة للذات
    العربية الإسلامية مع ذاتها ما عاد ممكناً تأجيلها أو تحاشيها..
    وهذه نقطة متقدمة في حركة التاريخ وإن كانت تبدو ظاهرياً بمثابة
    ارتكاسة أو عودة إلى الوراء. أقول هذا الكلام انطلاقاً من النظرية التالية:
    لا يمكن للتاريخ أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام إلا بعد أن يصفّي حساباته
    مع نفسه ويعزّل تراكماته التي تضغط عليه وتثقل كاهله وبالتالي تعرقل رغبته
    العارمة نحو الانطلاق والتحرر.. الإنسان العربي، مسلماً كان أم مسيحياً، يريد
    التحرر والانطلاقة ولكنه لا يستطيع لسبب بسيط: هو أنه مقيد من الداخل بالأغلال
    والأصفاد، بتراث الآباء والأجداد. إنه مقيد حتى دون أن يشعر. والأنكى من ذلك هو
    أنه مقيد بما هو سلبي في تراث الآباء والأجداد، بما هو ضيق، متعصب، عتيق،
    عفا عليه الزمن. ولكنه صامد صمود الجبال لأن أحداً لم يتجرأ حتى الآن على
    مواجهته وجهاً لوجه، على تفكيكه ونقده. أو قل أن بعضهم فعل ذلك ولكن بطريقة
    رديئة وغير موفقة أدت إلى ترسيخه أكثر. أقول ذلك وأنا أفكر بكل أولئك المثقفين
    العرب الذين زعموا أنهم يقومون بتجديد التراث أو نقد العقل العربي ولكن دون
    أن يصل مبضع الجراح إلى موطن الداء الحقيقي. فظل التراث صامداً كالصخرة
    الصلبة التي تسد الطريق والأفق. وظل الداء رازحاً. وهكذا نظل نراوح في
    مكاننا ونعود إلى نقطة الصفر في كل مرة. وهكذا يبدو التاريخ العربي وكأنه يدور حول ذاته الى الابد، على عكس التاريخ الأوروبي الذي يتقدم باستمرار الى الامام.

    على هذا النحو أحاول أن أترجم العبارة الرائعة لعيسى مخلوف والتي يدين فيها
    "الماضي المحنط والمنغلق على نفسه كالقبر". نعم إنه قبر ويمكن أن يقبرنا جميعاً معه! نعم نحن جميعاً أموات-أحياء سُرقت منا طاقاتنا، وهدّت عزائمنا، وانتهينا حتى قبل أن نبتدئ..
    نحن مجرد أشباح تمشي على الطرقات بلا هدف ولا غاية. والأموات هم الذين يحكمون الأحياء في العالم العربي وليس العكس.. الماضي هو الذي يحكم الحاضر وليس الحاضر هو الذي يتحكم بالماضي كما تفعل الأمم المتقدمة. انظر ما يحصل في العراق الجريح الذي يدفع الثمن عنا جميعاً. نحن لانزال في لحظة السقيفة والصراع على الخلافة ومعركة الجمل وصفين وكربلاء.. نحن لم نتجاوز شيئاً حتى الآن لاننا نرفض نقد التراث نقداً علمياً تاريخياً مضيئاً كما فعلت المانيا وفرنسا وهولنداوبقية الأمم المستنيرة من اجل تجاوز العصبيات الطائفية والمذهبية التي دمرتهم ايضاً في فترة من الفترات.
    في أحد فصول الكتاب الذي يتخذ العنوان التالي "المثقف العربي في مواجهة الأصولية"
    يحاول عيسى مخلوف تعرية بعض مثقفي الحداثة الذين يقولون شيئاً ويفعلون شيئاً آخر مختلفاً تماماً. فهذا المثقف الحداثوي الشيزوفريني يدعي العلمانية ويكون طائفياً حتى العظم (ص 49).
    ولكن لماذا يستغرب عيسى هذا الوضع؟ نحن نعيش مرحلة انتقالية: أي مرحلة
    العبور الحضاري الكبير كما قال أحد المثقفين الفرنسيين إيمانويل تود[1].
    وهذه المرحلة تتميز عادة بالترجرج وعدم الحسم. فمن جهة نحن حداثويون أو نرغب في ذلك،
    ومن جهة أخرى نحن ماضويون أو مشدودون إلى الماضي بقدرة قادر، أو بقانون الجاذبية والعصبية التي لا تقاوم.وبالتالي فكلنا طائفيون غصباً عنا...

    في مثل هذه الظروف المضطربة والعصيبة لا يعود أمام الإنسان العربي من شيء يعتصم به إلا طائفته لأن المؤسسات
    الحديثة لم تولد بعد، ولأن الحداثة الفعلية لم تتحقق بعد. والإنسان لا يستطيع أن يعيش هكذا معلقاً في الفراغ. الإنسان يخاف على نفسه ويحتاج إلى ملاذ يلجأ إليه في حالة غياب الدولة القومية الحديثة التي تحميه فعلاً،
    أي دولة القانون والمؤسسات التي تساوي بين جميع المواطنين بدون أي تمييز.
    هذه الدولة غير موجودة حتى الآن. وما دامت غير موجودة فسوف تظل الطائفية
    هي سيدة الموقف. وهذا ما جهله حتى مسؤول عربي كبير كالرئيس حسني مبارك
    عندما هاجم الشيعة لانهم بحسب رأيه مرتبطون بايران اكثر مما هم مرتبطون بدولهم العربية. ونسي انهم كانوا مضطهدين على مدار التاريخ ولا يزالون. نقول ذلك على الرغم من
    ان شيعة العراق حاربوا شيعة ايران وبعنف أثناء الحرب التي شنها صدام حسين على ايران الخمينية عام 1980. وسقط منهم مئات آلاف على مدار ثمان سنوات من تلك الحرب المجرمة. وبالتالي فلا ينبغي اهمال العامل القومي وان كان العامل الديني او المذهبي لا يزال قوياً في الشرق على عكس اوروبا المتطورة. ضمن هذا المعنى نفهم العودة الكبيرة إلى الطائفية في الوقت الحاضر. ضمن هذا المعنى نفهم اشتعال المذهبيات والعصبيات في كل مكان من هذا العالم الاسلامي الطويل العريض..وسوف تظل الطائفية سائدة ما دام البديل عنها غائباً، ما دام جنينياً لا يزال في بداياته. ثم ما دامت حركة التنوير الديني في العالم العربي الاسلامي ضعيفة
    ومحاصرة من قبل جحافل الاصوليين والقومجيين والديماغوجيين والفضائيات
    الغوغائية. نقول ذلك وبخاصة أنها، أي الطائفية، تتمتع بمشروعية تاريخية
    وتضرب بجذورها عميقاً في الأرض. وبالتالي فلا ينبغي ان يزاود أحد على
    أحد فيما يخص هذه المسألة. بالطبع لا أقصد بذلك ان كل المثقفين العرب يتساوون
    ولكني أقصد ان مسألة الطائفية أكبر منا جميعاً. وسوف تظل أكبر منا مادام لم يتجرأ
    احد حتى الان على تفكيكها بشكل تاريخي مقنع كما فعل فلاسفة التنوير في أوروبا.

    لكن يبدو أن عيسى مخلوف يستهدف حالات خاصة لمثقفين مشهورين يعرفون
    كيف يستغلون الأوضاع لمصالح شخصية لا علاقة لها بالمصلحة العامة
    أو بالمبادئ الأخلاقية. وهؤلاء يسيئون إلى الحداثة أكثر من أعدائها التقليديين
    لأنهم يضربونها من خلالها. يضاف إلى ذلك أنهم مسيَّسون أكثر من اللزوم
    (بالمعنى السطحي والسريع لكلمة سياسة). فهم لا ينفكون يتحدثون عن حقوق الانسان والديمقراطية وأعماقهم طائفية حتى النخاع.

    بهذا المعنى لا يوجد عندنا مثقفون استشهاديون يعضّون على الحقيقة بالنواجذ
    كما فعل فلاسفة أوروبا في القرون الماضية. أقول ذلك وأنا أفكر بشخص كسبينوزا،
    أو بيير بايل، أو جان جاك روسو، أو فولتير، أو جيوردانو برينو أو عشرات غيرهم. وهذا الوضع يقلقني في الواقع كما يقلق عيسى مخلوف وربما أكثر. فالتاريخ يشهد بأنه لم تقم حضارة ما إلا على تضحيات كبار المثقفين الذين ناضلوا من أجل الحقيقة وثبتوا على المبدأ حتى النَّفَس الأخير. أما مثقفو الأضواء، والصرعات الدارجة، والمصالح العاجلة، والتقلبات السياسية الانتهازية ففي حياتهم كلها لم يؤسسوا حضارة. ولذلك أقول بأني أحلم بالمثقف الإستشهادي، المثقف الكاميكاز، ولكن في الاتجاه المعاكس بالطبع للأصوليين الجهاديين. أحلم بمثقفين آخرين غير الحداثويين السطحيين
    او الانتهازيين الذين خانوا قضية الحداثة في أقرب فرصة ممكنة عرضت
    لهم بسبب الإغراءات المادية التي طالما قاومها سبينوزا أو جان جاك
    روسو بكل إصرار وعناد. ولكن من يستطيع أن يصمد ويقاوم ليس
    فقط الإغراءات وإنما التهديدات أيضاً! إنهم يجنِّنونه!...

    إن عيسى مخلوف يذهب إلى أعماق الأشياء في هذا الفصل من كتابه القيم.
    فهو يطرح مشكلة الأصولية والإبداع الأدبي على مصراعيها من خلال تحليله
    لمواقف المثقفين العرب من إدانة الأزهر لرواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر".
    فالتخريجات التي قدمها المثقفون التوفيقيون من أمثال جابر عصفور للدفاع
    عن الرواية لا تعجبه. لماذا؟ لأنها تعطي الأولوية دائماً لمشاعر التيار الأصولي
    وتحسب له الحساب متجاهلة التيار التنويري أو العقلاني الليبرالي. ولكن
    ماذا يريد عيسى مخلوف؟ هل يريد أن يورط جابر عصفور أيضاً في العملية؟
    لا ريب في ان جابر عصفور هو أحد رواد التنوير العربي حالياً.
    ولكن ماذا يستطيع ان يفعل هو وحفنة قليلة من التنويريين الاخرين؟
    من يستطيع الآن أن يتصدى لأتباع التيار التكفيري في مصر أو غير مصر؟
    ألم نقل لكم بأن تصفية الحسابات التاريخية مع التراكمات التراثية التي تخنقنا خنقاً
    أو تشلَّنا شللاً لم تنته بعد في العالم العربي، بل وحتى لم تبتدئ؟ وهل يعتقد عيسى
    مخلوف أننا نعيش في فرنسا أو سويسرا؟ أوروبا وحدها هي التي استطاعت تصفية
    هذه الحسابات المرعبة مع نفسها فأمَّنت الحرية الفكرية وايضاً الدينية لكل كتّابها ومبدعيها.
    أما نحن فلا يزال أمامنا شوط طويل لكي نتوصل إلى ذلك. هل سنتوصل
    إليه في نهاية القرن الحادي والعشرين؟ لا أعرف. كل ما أعرفه هو
    أن المعركة الحقيقية تكمن هنا، وأن كل تحرير سياسي لا معنى له
    إذا لم يتحقق أولاً التحرير الفكري: أي التحرر من لاهوت القرون
    الوسطى الطائفي والمذهبي. ولذلك قلت اكثر من مرة بأنه
    لا معنى لتحرير الأرض قبل تحرير السماء! وهو الشعار الذي رفعه فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر.
    وبالتالي فأنا لا آتي بشيء جديد من عندي إذ أقول هذا الكلام.


    ............يتبع
    التعديل الأخير تم بواسطة الـعـمـيــــــــــــد ; 22 - 12 - 2008 الساعة 11:14

  2. #2
    الصورة الرمزية هيثم عساف
    Title
    نبض جديــد
    تاريخ التسجيل
    12- 2008
    المشاركات
    144

    رد: الثقافة العربية المعاصرة وبعض التساؤلات

    نعم يا سيد عيسى مخلوف.. نحن نعيش في ظل محاكم التفتيش منذ ألف سنة وحتى اليوم وليس منذ البارحة! وقصة حيدر حيدر ليست إلا مزحة صغيرة في تاريخ قمعي طويل. لا ريب في أنه تخلّلت هذا التاريخ بعض اللحظات المضيئة بالقياس إلى العصور الوسطى كاللحظة العباسية، واللحظة الفاطمية في القاهرة، واللحظة الأندلسية في قرطبة. ولكنها كانت استثناءات قصيرة نسبياً على القاعدة العامة التي سادت تاريخنا كله والتي تتحكم برقابنا الآن أكثر من أي وقت مضى[2].
    القاعدة العامة هي تلك التي جسَّدها الخليفة القادر بالله الذي حكم كأمير للمؤمنين بين عامي 991-1031م والذي نشر العقيدة القادرية أو بالأحرى الاعتقاد القادري عام 1020م أي قبل ألف سنة تقريباً. وهي العقيدة التي تدين المعتزلة وتنصّ على ما يلي: كل من يقول بخلق القرآن فدمه حلال. ثم تضيف كتب التراث المنشورة على الإنترنيت: واستتاب القادر فقهاء المعتزلة فتبرأوا من الاعتزال والرفض. وهدد بقتل الرافضة (أي الشيعة) والإسماعيلية والقرامطة والمشبَّهة والجهمية. (وكلها فرق إسلامية ضالة ومضللة في رأيه: أي مهرطقة)[3].
    ما الذي يحصل الآن في بغداد؟ وهل تغير شيء تحت الشمس منذ زمن هذا الخليفة المضاد لسلفه الأكبر المأمون وحتى اليوم؟ وماذا يفعل الزرقاوي في العراق؟ ألا يدين الشيعة بحجة أنهم رافضة ويحللّ استئصالهم حتى وهم في الجوامع يؤدون الصلاة؟ ألا يحصدهم حصداً بالعشرات والمئات؟ وكيف يرد متطرفو الشيعة؟ ألا يفعلون الشئ ذاته؟ ولحسن الحظ فإن المعتزلة انقرضوا فلا أحد يلاحقهم!! بالكاد تتجرأ بعض أصوات الإسلام السني العقلاني على إدانة كلام الزرقاوي الاستفزازي أو المجاهرة بالاختلاف معه. بالكاد.. لماذا؟ لأن الفكر اللاهوتي التكفيري القديم يا سيدي لا يزال يهيمن على العقول حتى اليوم وكأنه حقيقة مطلقة. ولا يزال يحظى بمرتبة القداسة الالهية بسبب الزمن المتطاول وهيبة الأقدمين المعصومين. وعندما تسمع كلام القادر قبل ألف سنة وكلام الزرقاوي بعد ألف سنة تكاد تصرخ قائلاً: ما أشبه الليلة بالبارحة!! لم يتغير شيء ولم يتبدل... ألم أقل لك بان التاريخ العربي لا يتقدم خطوة واحدة الى الامام؟ وانما هو يدور حول ذاته في حلقة مفرغة بل انه يعود الى الوراء.. وكلامي هذا ينطبق ايضاً على الكتب الصفراء الشيعية لأنها لا تقل ظلامية واستلاباً عن الكتب الصفراء السنية. كلها ظلاميات في ظلاميات.. العالم المتقدم يدخل في عصر ما بعد الحداثة ونحن لا نزال نتخبط في متاهات القرون الوسطى وفقهها الطائفي المريض! ولهذا السبب أقول بأن عقلية الزرقاوي مسؤولة عن تفتيت العراق وسوريا ولبنان والخليج العربي كله أكثر من أمريكا وإسرائيل. وبالتالي فالمشكلة عميقة يا عيسى مخلوف وليس فقط بين المسلمين والمسيحيين وإنما بين المسلمين أنفسهم. ولا نجاة من هذا المغطس الأعمى أو المستنقع الجهنمي الراكد إلا بالخروج من اللاهوت القديم، أقصد الفقه القديم، جملة وتفصيلاً. ولكن من يستطيع الخروج من "مقدسات" متغلغلة في الأعماق والأقاصي على مدار ألف سنة متواصلة؟ الإسلام لم يشهد بعد إصلاحه الديني الكبير كما حصل للمسيحية الكاثوليكية في أوروبا (انظر المجمع الكنسي الشهير باسم الفاتيكان الثاني). ولم يشهد تنويره الفلسفي. وبالتالي فالمسألة عويصة ولا أرى لها حلاً في المدى المنظور.. وأخشى الا يكون قد بقي أمامنا الا الحروب الداخلية والمجازر.. فأين هو فولتير العربي؟ اين هو كانط او هيغل؟ أعطني "فولتير" واحداً في كل العالم الاسلامي وخذ ما تريد..
    لهذا السبب لا يتجرأ المثقفون العرب على مواجهة التيار الأصولي على المكشوف. فيداورون ويناورون لأنه ليس في اليد حيلة. وأنا شخصياً فعلت نفس الشيء قبل عشرين سنة عندما ترجمت كتاب محمد أركون: "نقد العقل الإسلامي". فهل رأى أحدكم كتاباً بهذا العنوان في المكتبة العربية؟ بالطبع لا. لسبب بسيط هو أني مارست الرقابة القمعية على نفسي وغيَّرت العنوان لكيلا يصدم حساسية المسلمين فأصبح: تاريخية الفكر العربي الإسلامي! لقد "خصيت" العنوان ياسيدي، نعم خصيته، لكي لا يجرح مشاعر المسلمين التقليديين او الأصوليين ، سمهم ما شئت. وكان ذلك بعد التشاور مع المؤلف والناشر. وذلك لأن نقد العقل الإسلامي ممنوع. إنه فوق المراجعة والنقد! نقول ذلك على الرغم من أن فلاسفة أوروبا ظلوا مائتي سنة ولا شغل لهم إلا نقد العقل اللاهوتي المسيحي وتشريحه وتفكيكه. وعلى أثر هذا النقد التنويري الجريء ظهرت الحضارة الحديثة، ولكن ليس قبله. لذلك قلت: التفكيك أولاً، وبعدئذ التركيب. تلزمنا بلدوزرات أو جرّافات كبرى لتعزيل التراكمات...

    أنتقل الآن إلى نقطة أخرى قد تبدو بعيدة عن السابقة ولكنها في الواقع مرتبطة بها. فقد خصص عيسى مخلوف فصلاً مطولاً لمناقشة أفكار صلاح ستيتية وأدونيس عن رامبو. ومنذ البداية أقول بأني متفق معه في بعض ما قاله. فلا علاقة لرامبو بالتصوف الإسلامي من قريب أو بعيد. وكل ما يعرفه عن الإسلام قبل سفره إلى اليمن والحبشة لا يتعدى الشذرات المتقطعة. وبعد أن سافر إلى هناك تخلى عن كتابة الشعر نهائياً. وبالتالي فلا أثر في شعره للتراث الإسلامي. ولا أعرف لماذا يكون متأثراً بالتصوف الإسلامي لا التصوف المسيحي هو الذي ولد في بيئة مسيحية كاثوليكية؟! ألا يوجد تصوف مسيحي لكي يتأثر به إذا كان لا بد له أن يتأثر بتصوف ما؟ هنا نجد أن محاجَّة عيسى مخلوف قوية لا تدحض بشرط ان يكون ما نقله عن أدونيس وصلاح ستيتية صحيحاً. فتقتضي الأمانة مني القول باني لم أطَّلع على كلامهما بشكل مباشر..
    أعتقد أن الخطأ الذي وقع فيه أدونيس، اذا كان عرض عيسى لأفكاره دقيقاً، عائد إلى بول كلوديل الذي حاول السطو على رامبو وإعادته إلى حظيرة المسيحية غصباً عنه. وكان ذلك عندما نشر مقالته الشهيرة بصدده في المجلة الفرنسية الجديدة (NRF) عام 1912. وكان كلوديل قد اهتدى إلى الدين للتو بعد أن قرأ "الإشراقات" ودخل إحدى الكنائس وأحس بالرهبة. وهناك انتابه شعور غريب وأعلن إيمانه بعد أن كان ملحداً أو غير مبال بالدين كمعظم المثقفين الفرنسيين. وفي هذه المقالة يقول عنه بأنه صوفي في الحالة المتوحشة، صوفي على غير علم منه[4]، بل ولا يقلّ تصوفاً عن القديسة جان دوشانتال (أو حنَّة دوشنتال)!!.. هكذا أصبح رامبو قديساً، هو الأزعر البوهيمي الذي لا يشقّ له غبار!..
    وهكذا نلاحظ أن كلوديل ألحقه بالتصوف المسيحي في حين أن أدونيس ربطه بالتصوف الإسلامي! فما هي حقيقة الأمر يا ترى؟ في الواقع إن رامبو لم يكن هذا ولا ذاك وإنما كان شاعر التمرد والرفض الأعظم كما قال عنه ألبير كامو. ولم يكن همُّه البحث عن الله كما يفعل الصوفيون وإنما الهروب منه بأي شكل. وقد وصل به الأمر إلى حد التجديف والكفر عندما كتب الكتابة العبارة التالية على جدران مدينته "شارل فيل": خرا على الله، خرا على الله! (Merde à Dieu). خرا على الدين كله من أوله الى آخره اذا كان هدفه فقط التمييز بين الناس وإذكاء العصبيات والذبح على الهويات! ولكن نعم للدين وألف نعم اذا كان إيماناً ومُثلاً عليا وروحانيات. وفي ذات الوقت تقريباً كان نيتشه يكتب في مكان آخر من أوروبا أقوى وأخطر نص عن "موت الله" أي نهاية الدين بالمعنى الأصولي للكلمة في الغرب الوضعي الصناعي التكنولوجي. ولكن لكيلا يفهم القارئ كلامنا خطأً ويتهمنا بالكفر والإلحاد فوراً على الرغم من ان ناقل الكفر ليس بكافر ينبغي علينا أن نموضع كل ذلك ضمن سياقه التاريخي. فرامبو كتب هذه العبارة البذيئة حوالي عام 1870 أي عندما كان الدين في فرنسا لا يزال ذا طابع قمعي على الرغم من مرور مائة عام على التنوير والثورة الفرنسية. كانت المسيحية، وبخاصة في نسختها الكاثوليكية، لا تزال قادرة على الزّجر والرّدع والضّرب. وقد عبّر رامبو عن كرهه لها في أكثر من قصيدة. انظر مثلاً قصيدة: قرابين أولى، أو قلب تحت رداء الكهنوت، أو الفقراء في الكنيسة، الخ... وهو يبتدئ القصيدة الأولى بهذا البيت: "إنها فعلاً سخيفة، كنائس القرى هذه..." وبالتالي فالمستهدف بالهجوم هنا هو إله القرون الوسطى المظلمات: أي التصور القديم لله لا التصور الحديث الذي جاء به التنوير الفكري. هنا ينبغي التفريق بين الله وبين التصور الذي نشكِّله عنه. ينبغي العلم بأن أمّ رامبو كانت متدينة إلى حد التعصب تقريباً. وقد ربَّتْ أولادها تربية دينية صارمة وبما أن رامبو كان ذا طبع متمرد –من هنا جاذبيته التي لا تقاوم- فإنه انتفض بكل عنفوان ضد الدين عندما أصبح مراهقاً. نقول ذلك وبخاصة أن الدين مرتبط في ذهنه بالخطيئة الأصلية والقمع الجنسي وكل ما يحول بين الإنسان وبين الانطلاق وتحقيق الرغبات العميقة. يضاف إلى ذلك أن الكنيسة في وقته كانت لا تزال تلعب دوراً استلابياً بالنسبة للفقراء. فقد كانت تقنعهم بقبول واقعهم المزري وعدم الثورة على النظام الاجتماعي القائم والسائد لصالح الأغنياء والبورجوازيين. لم يكن اليسار المسيحي أو الاشتراكي قد ظهر بعد.
    ولكن الشيء الأهم من كل ذلك هو أن المسيحية كما تلقاها كانت تشعره دائماً بالذنب وتأنيب الضمير. وذلك لأنها كانت تدين الجسد والشهوات والرغبات. ورامبو كان متمرداً ليس فقط على الأشكال الشعرية أو القوانين النظمية الكلاسيكية، وإنما كان متمرداً أيضاً على القوانين والتقاليد الاجتماعية برمتها. ربما لم يعرف تاريخ الأدب شاعراً انفجر بالتمرد والغضب على كل ما يحدّ من حريته ويقمعه: من دين، أو مجتمع، أو عائلة، مثلما فعل آرثر رامبو. ولهذا السبب حيّاه رينيه شار بنص رائع مرَّ عليه عيسى مخلوف مرور الكرام ولم يقدره حق قدره للأسف الشديد.
    صحيح أن بودلير سبقه إلى التمرد على الدين وخاطر بنفسه إلى درجة أنهم حاكموه على ديوانه أزهار الشر ودفَّعوه غرامة مالية كبيرة (ولكن في العصور السابقة، أي عصور محاكم التفتيش، كان يمكن أن يحرقوه أو يقتلوه...). وكل ذلك لأنه كتب بعض القصائد التي تحتوي على عبارات التجديف والكفر. يقول مثلاً في ختام قصيدته: جحود القديس بطرس: "القديس بطرس أنكر يسوع، وحسناً فعل!". وهذا البيت كلفه غالياً.
    ولكنه كان يوصي أمه بأن تخبئ ديوانه تحت الطاولة عندما يمرّ عليها الخوري لكيلا يطّلع عليه.. وكان يستسلم في نهاية المطاف لمشاعر الإحباط والإحساس بالخطيئة والذنب. أما رامبو فكان يجسّد التمرد بعينه ولا يحب ان يستسلم. وبالتالي فنفسية رامبو غير نفسية بودلير. ولذلك فإن عيسى مخلوف على حق عندما يقول: "الصوفية الإسلامية لا يمكن أن نعزلها عن فكر ديني يرقى إلى القرون الوسطى، فيما رؤية رامبو الشعرية مفتوحة على الأسئلة والتغير وتتزامن مع مرحلة فاصلة في تاريخ التقدم العلمي والثورة الصناعية، وفي تاريخ الفكر أيضاً" (ص 77). الصوفي بوصلته واضحة هي الله (ص 78).
    أما منظور رامبو فعلماني محض بل وحتى وثني، أي خارج عن إطار الدين كلياً. ولذا كان واقعاً في صراع مرير مع الدين لكي يستطيع أن يتخلص منه، أن يتملّص من براثنه. وهذا الشيء واضح جداً في ديوانه "فصل في الجحيم". فمن السهل أن تقول أنك ضد الدين أو تحررت من الدين، ولكن كيف يمكن أن تحقق ذلك عملياً إذا كنت قد تشرّبته مع حليب الطفولة وتغلغل إلى أعماقك النفسية وترسّخ؟ من هنا تخبُّط رامبو في "فصل في الجحيم"، من هنا صراعه الرهيب مع المسيحية التي يريد التخلص منها دون أن يستطيع ذلك تماماً. وهذا ما يعبر عنه في بيته الرائع: "الصراع مع الذات أخطر من معارك الرجال" (الترجمة بتصرف وأنا أتحمل مسؤوليتها). أو "المعارك الروحية الداخلية أصعب من المعارك العسكرية الخارجية بألف مرة"...او الصراع مع الداخل اصعب من الصراع مع الخارج، الخ..
    كلامي هذا لا يعني أيَّة إدانة للاتجاه الصوفي فربما كان هو الأفضل والأجمل والأقل قمعاً وإرهاباً في التراث الإسلامي بالإضافة إلى التيار المعتزلي والفلسفي. ولكن لا علاقة لرامبو الوثني به! هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل. فمن يكتب هذا البيت: "مسيح، آه يا مسيح، أيها السارق الأبدي للطاقات" لا يمكن أن يكون صوفياً لأن المسيح هو الرمز الأعلى للمتصوفة الزاهدين في الحياة الدنيا ومتعها وشهواتها ليس فقط عند المسيحيين وإنما عند كبار متصوفة المسلمين أيضاً (أنظر الحلاج، وابن عربي، الخ..). إني أفهم اعتزاز أدونيس بالتصوف وتقديره له شكلاً ومضموناً وبخاصة إذا ما قارناه بالتيار الرجعي الأصولي في الإسلام. ولكن لا ينبغي أن نسقطه على رامبو.
    وأخيراً سوف أقول ما يلي: لقد ثار رامبو على الدين عندما كان لا يزال ذا وجه قمعي أو استلابي في فرنسا، عندما كان "المسيح لا يزال يسرق الطاقات" أو يكبتها. ولو أنه عاش الآن لما كتب كلمة واحدة ضده لأن المسيحية في أوروبا المتحررة أصبحت هي المقموعة لا القامعة. لذلك أقول ينبغي موضعة كل ذلك ضمن سياقه التاريخي وإلا فسوف نرتكب أخطاء فاحشة في التأويل وسوف نربط بين رامبو ومتصوفة الإسلام، أو بين الصوفية والسوريالية!... لا ريب في أنه توجد بعض أوجه الشبه بينهما ولكن من الناحية الشكلية أو الأسلوبية فقط: أي من ناحية استخدام المجازات المستحيلة أو الاستعارات الرائعة. ولكن هنا أيضاً ينبغي أن نكون حذرين في المقارنة. ولهذا السبب أقول بأن رامبو كان حديثاً بشكل مطلق: أي شكلاً ومضموناً، قلباً وقالباً. وكانت لديه رغبة عارمة في إحداث القطيعة المطلقة مع الماضي. وهذه الرغبة العارمة بحد ذاتها هي الدرس الأساسي الذي خلَّفه لنا. فقد رفض أن يقدم أي تنازل لماضويَّة الماضي. وهو موقف متهوِّر في الواقع بل وحتى انتحاري. ولكنه صمد عليه حتى النهاية ودفع ثمنه باهظاً. إنه موقف تحريري لم يشهد له التاريخ مثيلاً من قبل. فرامبو كان مفعماً بالحرية الحرة: أي المطلقة التي لا حدود لها.
    ضمن هذا المعنى نفهم عبارته: ينبغي أن نكون حديثيين قطعاً. فقد تجرّأ على إحداث القطيعة حتى مع بودلير على الرغم من أنه وصفه في رسالة الرائي بأنه "الرائي الأول، ملك الشعراء، إله حقيقي". ولكنه سرعان ما عاب عليه خضوعه للأشكال السخيفة للنظم الشعري الكلاسيكي. وهي الأشكال التقليدية الموزونة التي ثار عليها رامبو في مرحلته الثانية: مرحلة فصل في الجحيم، والإشراقات. وعندئذ حقق مقولته: "لا شعر جديداً، بدون صياغات لغوية مبتكرة، أو أشكال جديدة للكتابة". يقصد بذلك أن المضمون الجديد يتطلب شكلاً جديداً بالضرورة، وأن الأشكال السابقة للكتابة الشعرية قد استنفذت ذاتها وأصبحت خلقة، بالية، تدعو للرثاء. من هنا نفهم كلمته اللاذعة ضد بودلير بعد أن رفعه إلى أعلى السماوات. ولهذا السبب انخرط في قصيدة التفعيلة قبل ان ينتقل الى قصيدة النثر المحضة في مرحلته الشعرية الاخيرة.
    والشيء الغريب هو أن أدونيس الذي كان متمرداً جداً في مراحله الأولى والذي ختم إحدى قصائده الرائعة بهذا البيت المتفجر والراديكالي "تِقْنا إلى ربٍ جديدٍ سواه"[5]، عاد إلى حضيرة التراث والتصوف من جديد! فهل عاد حقاً يا ترى؟ أعتقد أن الأمور أكثر تعقيداً من ذلك. ربما كان قد أراد فقط إقامة التوازي بين الشطحات الصوفية والشطحات السوريالية من حيث تقنية الكتابة، ومن حيث الولع الهائل بالانعتاق والحرية. وهذا شيء مشروع لا غبار عليه. ولكن فيما عدا ذلك يبقى المنظوران مختلفين تماماً. فالتجربة السوريالية إلحادية محضة ولا علاقة لها بالتعالي الرباني أو بالفناء في الذات الإلهية. (أضيف بين قوسين بأن شعر أدونيس في مراحله الأولى خصوصاً لا يقل انفجاراً وتحريراً من القمع التراثي عن شعر رامبو).
    أما فيما يخص قول أدونيس بأن الحدس الشعري الرامبوي مضاد لأشكال المعرفة الغربية العقلانية، فهذا صحيح. ولكن هذا ينطبق على الشعر كله وليس فقط على رامبو. فالشعر بطبيعته يستخدم وسيلة أخرى لسبر العالم أو اكتشاف كنهه غير العقل والمنطق الخاصين بالفلسفة. يضاف إلى ذلك أن رامبو (وهنا يتجلى عمق عبارة أدونيس) لم يثر على الدين فقط، وإنما ثار أيضاً على العصر العلمي الصناعي الذي كان صاعداً آنذاك في أوروبا. وهجا مجتمع النمل والقطيع، مجتمع العمل والإنتاج، مجتمع التوفير والادخارعلى الطريقة البورجوازية، لأن الشاعر لا يمكن أن يكون مع القطيع. الشاعر شخص شاذ أو حتى "مريض" كما يقول أنسي الحاج في العبارة الرائعة التي أوردها عيسى: "والمصابون هم الذين خلقوا عالم الشعر الجديد: حين نقول رامبو نشير إلى عائلة من المرضى. قصيدة النثر بنت هذه العائلة". (ص 68 من كتاب عيسى).
    الشاعر لا يمكن أن يكون شخصاً طبيعياً كبقية الناس وإلا لما أصبح شاعراً. وبودلير قبل رامبو أرعبته القوة الاقتصادية والاجتماعية للبورجوازية الفرنسية الوليدة فاختار أن يتحدى هذا المجتمع، أن يخرج عليه. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح شاعراً. اختار جغرافيا أخرى لكي يعيش فيها، جغرافيا يهرب إليها من جحيم هذا الواقع الذي لم يعد يطاق. ولذلك هجا رامبو هذا المجتمع، مجتمع الأيادي العاملة من الصباح إلى المساء، اليد التي تكتب كاليد التي تحرث وقال: أبداً لن تكون لي يد، أبداً لن أشتغل! متى اشتغل رامبو؟ عندما انفك أن يكون شاعراً بوهيمياً، عندما انخرط في حياة أخرى جديدة لا علاقة لها بالسابقة. عندئذ "خان" قضية الشعر وتنكَّر لها كلياً وخضع لمعايير المجتمع البورجوازي، معايير أمه وعائلته وقريته، وانخرط بشكل مسعور في البحث عن الرزق وتجميع المال بأي شكل. وراح يهجو حياته السابقة قائلاً: لم تكن الا غُسالات، حثالات.. وكان أخشى ما يخشاه أن يعرف بعض الفرنسيين المقيمين في عدن أنه هو رامبو الشاعر! كان يريد أن يطمس كل ماضيه السابق طمساً كاملاً وكأنه لم يوجد..
    لقد أدار ظهره كلياً للشعر وتنكَّر له دون أن يدري أن هذه "الغُسالات" او الحثالات هي التي ستبقى منه وهي التي ستخلِّده إلى أبد الآبدين.




    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] - انظر كتابه: ما بعد الإمبراطورية. مقالة عن تفكك النظام الأمريكي، منشورات غاليمار، 2004، وبخاصة الفصول الأخيرة منه، وهي مكرسة لتحليل المجتمعات العربية الإسلامية وتشخيص أزمتها.
    - Emmanuel Todd : Après l’empire : essai sur la décomposition du système américain, Gallimard 2004.

    [2] - على الرغم من أهمية هذه اللحظات التاريخية المشعة إلا أنه لا ينبغي أن ننسى أنها تظل تحت سقف القرون الوسطى. وما كان بإمكانها أن تخترقه أو تتعداه. وهذا أمر طبيعي لا ينبغي أو يدهشنا على الإطلاق. فالحرية الفكرية الكاملة، أي حرية الاعتقاد أو عدم الاعتقاد، هي إحدى مكتسبات العصور الحديثة. وما كان ممكناً أن توجد في العصور القديمة من عباسية أو فاطمية أو أندلسية مهما كانت حضارتنا مزدهرة آنذاك. ولكن المساواة بين الناس بغض النظر عن أديانهم أو طوائفهم ومذاهبهم ما كانت تخطر على بال أحد في ذلك الزمان. كانت شيئاً يدخل في دائرة اللامفكَّر فيه أو المستحيل التفكير فيه. وبالتالي فالحديث التبجيلي عن التسامح الكبير في العصر الأندلسي لا ينبغي أن يوهمنا بأنه كانت توجد مساواة كاملة بين مختلف الأديان والمعتقدات بما فيها المعتقد المادي المحض كما هو حاصل الآن في أوروبا التنويرية! هذا وهم وسراب. هذا إسقاط لمفاهيم الحداثة وإنجازاتها على العصور القديمة التي لم تعرفها وما كان بإمكانها أن تعرفها أبداً... ومعلوم أن الإسقاط –أي المغالطة التاريخية- هي أكبر جريمة يمكن أن يرتكبها مؤرخ الفكر ودارس العصور المختلفة. (anachronisme).

    [3] - نص الاعتقاد القادري قصير لا يتجاوز الخمس صفحات. وهو يلخص بشكل مكثف الاعتقاد الأساسي للمسلم الارثوذكسي، ومن يخرج عنه قيد شعرة يعتبر كافراً أو خارجاً على أمة الإسلام. وهذا الاعتقاد فرصته السلطة سنة 409 هـ/1018 م، أي قبل ألف سنة إلا اثني عشر عاماً. وهذا النص الحنبلي المذهب يمثل "العقيدة القويمة" بالنسبة لأهل السنة والجماعة. وكان يستهدف المعتزلة والشيعة أساساً (يدعوهم الرافضة لا الشيعة). وهو مؤلف من واحد وخمسين مادة اعتقادية أو إيمانية. والمادة ست وثلاثون36 هي التي تحلّ دم المعتزلة. وهي تقول بالحرف الواحد: "ومن قال أنه مخلوق على حال من الأحوال فهو كافر حلال الدم بعد الاستتابة منه". ومعلوم أن المعتزلة كانوا يقولون يخلق القرآن. والمقصود بالعبارة أنهم يطلبون من الشخص أن يتراجع عن هذه المقولة ويتوب لكي يصفحوا عنه فلا يقتلوه. ومن لم يتب قتل. وعلى هذا لوحقت المعتزلة في الأمصار وأحرقت كتبهم واتهموا بالهرطقة فلم تقم لهم قائمة بعدئذ. وبالتالي فالمشاكل المذهبية التي تعاني منها مجتمعاتنا في العراق أو لبنان أو الخليج العربي أو حتى الباكستان وأفغانستان، الخ... قديمة ولها جذور عميقة في التاريخ. ولا يمكن حلُّها فعلياً إلا بعد عملية النبش عن جذورها أو الحفر الأركيولوجي عليها ولكن هذه مسألة عويصة قد تستغرق الاربعين او الخمسين سنة القادمة.

    [4] - عبارة بول كلوديل هي التالية: "آرثررامبو كان صوفياً في الحالة البدائية المتوحشة، كان نبعاً صادراً عن أرض شبعانة".
    وقد ظهرت مقالة كلوديل عن رامبو في شهر يوليو من عام 1912 في المجلة الفرنسية الجديدة La nouvelle revue française واعتبرها النقاد الفرنسيون بمثابة عملية سطو على رامبو لا أكثر ولا أقل. فرامبو لم يكن مؤمناً ولا صوفياً بالمعنى الديني الذي يقصده..

    [5] - من بيت رائع لأدونيس يختتم به قصيدة متفجرة تعود إلى مراحله الأولى حين كان يكتب الشعر العبقري الذي سيخلِّده. عنوان القصيدة هو التالي "نوح الجديد" وهي تنتهي بالمقطع التالي، وكان بودي لو أستشهد بها كلها:
    " موعدنا موتٌ، وشطآنننا
    يأسٌ ألفناه، رضينا به
    بحراً جليدياً حديد المياه
    نعبره نمضي إلى منتهاه،
    نمضي ولا نصغي لذاك الإله
    ثِقنا إلى ربٍّ جديدٍ سواه".
    (من ديوان: أغاني مهيار الدمشقي، الأعمال الكاملة لأدونيس، دار العودة، بيروت).
    والواقع أن أدونيس، في أدبنا العربي الحديث، هو أكبر ناقد للترسبات أو التراكمات التراثية. وهو من هذه الناحية يشبه رامبو في تمرده على مسيحية عصره ورفضه لكل قداسة مشحونة بالكبت والإرهاب ومفروضة عليك من الخارج فرضاً دون أي نقاش. هذا الجو الخانق للدين نهض ضده أدونيس مثلما نهض رامبو وبنفس العنف أو العنفوان. يكفي ان نقرأ هذا المقطع لكي نعرف كيف ينفصل أدونيس عن التراث بكل قوة وبشكل لا مرجوع عنه :
    سحر تاريخك انتهى
    ادفنوا وجهه الذليل وموروثه الأبلها
    واعذري واغفري
    يا قرون الغزالات
    يا أعين المهى..
    ثم هذا المقطع الذي لا أجد له مثيلاً في الشعر العربي الحديث كله:
    "خرجوا من الكتب العتيقة حيث تهترئ الأصول
    وأتوا كما تأتي الفصول
    حضن الرماد نقيضه
    مشت الحقول إلى الحقول:
    لا، ليس من عصر الأفول
    هو ساعة الهتك العظيم أتت
    وخلخلة العقول!"...
    كل الفكر النقدي الراديكالي للتراث متضمن في هذه الأبيات التي تبلغ الذروة في تشخيص الوضع العربي ماضياً وخاضراً. وبالتالي فالشحنة التحريرية الشعرية موجودة لدى أدونيس مثلما هي موجودة لدى رامبو على الرغم من اختلاف الظروف والمعطيات والحيثيات الخاصة بالساحة الثقافية الفرنسية أو الساحة الثقافية العربية. ولكن ما نفع الشعر إن لم يكن توسيعاً لمساحة الحرية –أو لهامش الحرية- لدى كل أمة من الأمم؟ ما ضرورته إن لم يكن تفكيكياً لطبقات القمع المتركمة فوق رؤوسنا على مدار العصور؟ ما معناه إن لم يكن قادراً على فتح ثغرة –ولو صغيرة- في جدار التاريخ المسدود؟
    وبالتالي فعودة أدونيس إلى الصوفية لا ينبغي أن تخدعنا. فهي لا تعني الاستسلام للدين أو العودة إليه وإنما هي تدخل في استراتيجيته العامة للغم التراث الديني المتحنّط الذي يهيمن علينا بحكم العطالة الذاتية وتطاول القرون الانحطاطية والانقطاع عن حركة الحياة والإبداع
    التعديل الأخير تم بواسطة الـعـمـيــــــــــــد ; 22 - 12 - 2008 الساعة 11:30

  3. #3
    الصورة الرمزية قلم يتجسد
    Title
    نبض نشيـط
    تاريخ التسجيل
    07- 2008
    العمر
    34
    المشاركات
    621

    رد: الثقافة العربية المعاصرة وبعض التساؤلات

    اعطيني يومين اقرأ الموضوع وارد عليك

  4. #4
    الصورة الرمزية ميتباع الخبر
    Title
    نبض جديــد
    تاريخ التسجيل
    11- 2010
    العمر
    39
    المشاركات
    2

    مستقبل العراق

    مستقبل العراق


    إن الناظر لأول وهلة إلى واقع الحال في العراق الحبيب يجد أنه يعيش في نفق مدلهم الظلام لا بصيص لأمل عودته وتعافيه إلا بمعجزة ربانية تنقلب فيها أحوال الناس من سيء إلى حسن ومن طلاح إلى صلاح، فالاحتلال الأمريكي الغاشم لازال جاثما على صدور العراقيين وهو يسعى لأن يتنصل عن وعوده وعهوده التي قطعها بالانسحاب من العراق نهاية هذا العام أو حتى إبقاء جزء من جيوشه الكافرة الظالمة تسرح وتمرح في بلدنا العزيز الأغر، بل إن مما يتوقعه الناس اليوم أن الكافر المحتل إذا خرج من بلادنا فإن احتلالاً آخر قد هيأ نفسه وأعد عدته لدخول العراق بكل ما أوتي من قوة وهو الغزو الصفوي الإيراني وبمباركة أمريكية صهيونية لإتمام مخططهم في قتل الروح الإسلامية والغيرة العربية في قلوب شعبنا الحر الأبي وتقسيم العراق، وإن كان التدخل الاستخباراتي والاقتصادي والأمني بل حتى السياسي لدولة إيران الصفوية قائماً اليوم في بلدنا على قدم وساق وهو ظاهر لكل قاصٍ ودانٍ، بل ان الأمر يزداد تعقيدا حينما يعتقد كثيرٌ من أبناء شعبنا الحبيب من شدة البلاء الواقع بهم أن الاحتلال حتى إن خرج فقد ترك عملاءه يكملون مهمته في تدمير العراق وسرقة خيراته وإضعافه وتمزيقه، وهم يسمعون اليوم الدعوات المبهرجة الغبية التي ينادي بها كثير ممن مدوا رقابهم للكافر المحتل ورضوا بأن يكونوا مطايا لأسيادهم في تقسيم العراق على أسس فيدرالية وأقاليم كل يحكم نفسه بنفسه فهي دعوات لتقسيم المقسم وتجزأة المجزأ الذي بدوره يصب في خدمة أعداء العراق وإضعاف هذا البلد الذي كانت تهابه أوربا وأمريكا والصهاينة وكل المارقين من الدول المهيمنة الاستعمارية، وكل من لم يرضخ لهذه المخططات الاستعمارية إما أن يصفى ويغتال وإما أن تذوق محافظته الويلات تلو الويلات من تفجيرات واعتقالات وظلم وخراب كما حصل لكثير من محافظاتنا الحبيبة كالبصرة والأنبار وصلاح الدين وواسط ونينوى، هذا الحال كثيرا ما يصرح به كثيرٌ من أبناء العراق حتى سياسيوه ومثقفوه ومتعلموه والحقيقة أن هؤلاء كلهم ينظرون إلى الأمور من الخارج نظرة سطحية بسبب خبث الإعلام الموجه ضد العراق والعراقيين، والأمر على ما نراه نحن جيش رجال الطريقة النقشبندية أحد فصائل القيادة العليا للجهاد والتحرير يختلف اختلافا جذريا عما يعتقده أولئك الكثر الذين غرر بهم إعلام المحتل فأخذوا يطبلون له ولخططه من حيث لا يشعرون فإننا داخل الساحة العسكرية والإعلامية المتفحصة للغث والسمين والسياسية التي تنظر بعين الواقع لا المثاليات، فكل الحقائق المموهة الآن بدأت تتضح لشعبنا الحبيب وبدأت تتساقط اوراق المحتل واعوانه وبسرعة كبيرة جداً، فاليوم انتفض الشعب لكي يغير، وهو الذي سيغير واقع الحال السياسي والاجتماعي، وهو الذي سيطرد الفاسدين ويقضي على كل اشكال الفساد، والشعب هو اليوم الذي يطالب بالوحدة لا الفيدرالية والأقاليم، وإرادة الشعب أقوى من إرادة الطغاة، أما الجانب العسكري فمما لا يختلف عليه اثنان أن الجيش الأمريكي الخبيث قد ولى هاربا يجر أذيال خيبته والدعوات الإعلامية لبقاء قسم من جيشه ما هي إلا لتغطية فشله وفضيحته وهزيمته النكراء التي مني بها بهمة وشجاعة رجالات المقاومة العراقية الباسلة وعلى رأسهم أبطال جيش رجال الطريقة النقشبندية أحد فصائل القيادة العليا للجهاد والتحرير الذين دكوا قواعدهم ودمروا حصونهم وقتلوا علوجهم حتى ساحت على أرض العراق دماؤهم لكي تثأر الأرض لأبنائها الذين سفكت دماؤهم عليها ولتتحرر أمتنا العربية والإسلامية من التبعية لأمريكا وتخرج من خنوعها وخضوعها للكافر المحتل، فالمحتلون لم يبق منهم إلا شريد يجمع لهم ما تبقى من متاعهم وعددهم، واما جانب التدخلات الصفوية فإن قيادتنا الشرعية قد جعلت لكل مرحلة علاجا ناجحا نافعا وهي تدرك إدراكا كاملا أن المحتل الإيراني الصفوي هو أقل شأنا وأضعف جندا وأهون همة من قرينه الأمريكي الذي خرج خائبا مذعورا من بلد الأنبياء والأولياء، أما عملاء المحتل الذين نصبهم على رقاب أبناء بلدنا فهم يدركون أن بقائهم ببقاء أسيادهم وعندما يرحل أسيادهم فلا بد أن يرحلوا لأن للشعب عليهم ثارات وثارات وهو ما نراه وما نسمعه اليوم بخروج كثير من عملاء المحتل السياسين إلى خارج البلد آخذين معهم سحتهم الذي سرقوه من بلدنا ويعتقدون أنهم سيتهنون به ولكن ولات حين مناص، وختاما أقول إننا لا نعيش في نفق مظلم بل في ساحة غناء نعرف طريقنا الذي نسلكه وندرك أين سيوصلنا هذا الطريق لأنه طريق الجهاد طريق مرضاة الله تعالى وكرمه ورحمته وإننا قادمون ولراية الحق رافعون ولإجل ديننا وشعبنا وأمتنا سنبقى مجاهدين حتى يتحقق ما يريده الله لنا من العزة والكرامة وما تريده أمتنا العربية والإسلامية من الفخر والحرية والسيادة والاستقلال، والله أكبر والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين .وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا كثيرا.

    هذه المقالة منقولة من المجلة النقشبندية العدد 55

    لتحميل المجلة

    اضغط هنا






معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML