النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: انعكـاس ... مـرآة جـانبية

  1. #1
    الصورة الرمزية Omani princess
    Title
    عضو شرف
    تاريخ التسجيل
    05- 2007
    المشاركات
    2,564

    انعكـاس ... مـرآة جـانبية

    انعكاس ... مرآة جانبية

    لم أكن لأتصور أنه بهذا الطول المفرط، وبتلك السمرة المحروقة على صفحة وجهه، وأنه مع ذلك بعيد عن سيماء الإنسان الذي عاشرته، وأنه فوق ذلك كله، - بذلك الصمت الآتي من الأعماق السحيقة، الصمت الذي يشبه السوس المستوطن فينا دون أن نعلم، دون أن نحرك ساكنا إزاء النخر الذي بدأ يأكلنا ـ ميت بعيد عن بيته الذي تمنى دائما أن يضم أنفاسه الأخيرة.
    في المرآة الجانبية انعكس انحناء ظهر أخي، كان مقوسا كمن يداري ألما كبيرا ويخشى أن تلمحه العيون وتشفق عليه، نزلتُ من السيارة استبقتهم، فتحت باب السيارة على اتساعه، كانت الشراشف البيضاء ما زالت تملأ السرير، وتلف جسده النحيل. أصر أخي أن يأخذه كما أتي به - قبل أسبوع مضى - بثوب صياد السمك ذاته، بنفس رائحته وببقايا الروح التي تطوف به وبنا، كما كان وكما أصبح، كما أراد له أن يوسدوه، وأن يحيطه بذراعه، مثل أم تحضن وحيدها المريض، أذكر أنه جلس في المقعد الخلفي من السيارة وضم قدميه إلى بعضهما البعض بقوة مع ارتخاء واضح في أصابعه هي تسوي الرأس المائلة ثم طلب من المُمرِضْين المرافقين له بوضع رأسه على فخذه وتسويته على نحو يلائم جلسته، وحين نظر إلى قدميه ثم إليً سارعتُ إليهم تاركا موقعي عند باب السيارة، شعرت وأنا أمسك بقدمي أبي ببرد عميق يشمل كياني، توجستُ من ملمس الجسد اللين، لم أفعل شيئا سوى التحديق الأبله إليهما وأنا أعود لأمسك بباب السيارة من جديد، مسترقا بين لحظة وأخرى النظر إلى الجسد الرخو، الطيع مع كل حركة يد تلمسه .
    عندما أصبحتُ وراء مقود السيارة لاح لي انعكاس صورة النخلتين الطوليتين في المرآة الجانبية مرة أخرى ومن ورائهما كانت الخضرة تغمر الرؤية - ومرة أخرى ركض طفلنا، طفل الأحلام المستحيلة، تدحرجت طابته على الأرض، جرى خلفها، من خلفه امرأة يغمرها عمق الحلم، ويخالط بياض عيونها صفرة قاتلة ، مددت يدي إلى المرآة الجانبية، نظرتْ المرأة نحوي، قالت بحركة شفاهها كلمة صامتة لم أفهمها، داعبتْ شعر الطفل واختفتْ .كان كل شيء منذر بصمت مطبق فجر هذا اليوم منذ أوقفت سيارتي في أحد مواقف المستشفى لم أر إلا النخيل وأضغاث الأحلام والصمت، وعندما تكلم أخي أخيرا رأيتُ زوايا وجهه في المرآة، تكلم دون أن ينظر إلي، خيل إليه أنه يناجي رأس أبي الساكن فوق فخذه، حرك ظهره المقوس مرة أو مرتين كما لو أنه يتوقع وشوك انهيار شيء ما في داخلي أو داخله، لم أتبين من كلامه إلا:

    ـ مات ... لم يتعذب ولم يعذب أحدا.
    كنت في وقتها ما أزال مستيقظا، الساعة قد قاربت على الثالثة صباحا وأنا ما زلتُ أحدق في سقف غرفتي، أشابك أصابعي وأفكها، أتحسس نفسا معطرا جاء في غفوة مباغته، كانت هي فاطمة، جميلة، مبتسمة، مرحة، وكان هو طفل الأحلام الذي كان يجب أن ننجبه بعيدا عن حساب الناس والزمن والعقبات، بسواد شعرها هي بالصفرة المركزة في العينين الواسعتين، عندما ظهرتُ أمامها بخطوات متعثرة، ارتجفتْ شفتاها، ظننتُ أنها تناديني كما كانت سابقا، أنها تقدم اعتذارا ما، وأني أسامحها، كلانا يفتح صفحة بيضاء ويهديها الى الآخر، قلت لها بتوسل مر:
    ـ لا عيب في الفقراء إذا لم يحسدوا الأغنياء .
    اقتربتُ منها، اقتربت هي من الطفل، اقترب هو من طابته المتدحرجة على الممر الطويل، عندما أحاولتُ أن أضع يدي على كتفها، عندما أحاولت أن أشاطرها أرقي وحرارة الحمى المزمنان في داخلي منذ افترقنا، أراها تنحني تأخذ الطفل والطابة، تداعب شعره ويختفيان ، تبقى رائحتها ورائحته عابقة في المكان .
    لساعة بعد أن أتاني صوت أخي حزينا ومجروحا من تجريب البكاء أمامي لأول مرة جست خلال الغرفة بعثرت فراشي، بحثت تحت وسادتي عن نفسي، عن تقاسيم أبي، وصورة أمي، عن الرؤية المؤلمة وعن الوجوه الحبية والمحبوسة والنائية في داخلي. صعدت درجات سطح البيت، تعثرت بأولى درجاته، ارتقيت ما بقي منه، لفني الظلام وغمر المسافة بيني وبين السماء، وبكيت وحيدا .
    في المرأة الجانبية لسيارتي انعكست سيارات الأخرى، والكلمات المتبادلة من أفواه قائديها، القلق والتوتر البادي على بعض الوجوه، والابتسام والضحك على الوجوه الأخرى وعندما واتتني الشجاعة أخرجت يدي إلى المرآة ومسحت زجاجها ، خلت أن وجه فاطمة معلق فيها، صدرت همهمة صغيرة من المقعد الخلفي، عرفت أن أخي يبكي بصمت فوق رأس أبي، حينئذ عدت إلى الطريق الممتد أمامي وقدرت في ذهني أن هذا اليوم سيكون طويلا ولن أستطيع فيه الاختلاء بنفسي، سيشابه يوم موت أمي، ستكون هنالك وجوه الأهل التي توارت عنا منذ فترة طويلة، ربما ضج المكان بنحيب مرتفع من جهات مختلفة وربما عبر أحدهم عن حزنه بمعانقة شخص آخر أو رفس الأرض تحته بقدمين واهنتين .
    مثلما أصر أخي على العودة بأبي إلى بيته بثياب صياد السمك، كنت أكثر إصرارا منه على نقل جسده في سيارتي، وعندما وقفت على حافة القبر كان هو متماسكا وقويا وفي اللحظة التي أهيل التراب فوق الجسد شد من قبضة يديه وتقلصت عضلات وجهه، شددت بدوري من أزره بوضع يدي خلف ظهره، ابتعد قليلا عن حافة القبر، بينما خالجني إحساس كبير بالنسيان المفاجئ، شعرتُ أن العالم فارغ من كل محتوياته وأني إنسان مليء بالخواء الأجوف، نسيتُ أبي وتكاثف الحزن في نفسي، موته يشبه موت أمي، يشبه موت كل إنسان، رطب ومؤذٍ ولكنه مغلف بالنسيان، الموت يذكرني دائما بالأحياء وهو يضعنا أمام تحد كبير، تحدي البتر، الفقد الذي نبدأ بالتأقلم معه كلما رسخت في ذاتنا كلمة الموت بمعناها الصحيح وعندما نقذف الأسئلة في وجه الموت نجد للأموات أعذارا، يخلق لهم الموت ألف مبرر، نعتقد يقينا أن التراب أخذهم ومحا أثارهم وأننا في مطلق الخيال نستحضر أرواحهم بجانبنا في وقت نشاء، لذا شعرت أن أبي موجود معنا بشكل أو بآخر، معي حتى قبل أن يدفن، أذكر جيدا أني شعرت بوجوده وأنا في المقهى القريب من المستشفى أحتسي فنجان الشاي وأدخن سيجارتي وقبل أن يمدد في سيارتي همست لنفسي:
    ـ في الموت حياة ...حتى للموتى .
    في هذه الليلة نبحث عن أشيائنا الحبيبة، عن الإنسان الأول الذي أعاد صياغتنا، عن انعكاس وجوهنا الباسمة في مرايا القلوب، عن الأشخاص الذين يتركوننا دون عذر موثق ومقنع لنا، أولئك الذين لا يجدي معهم عذر الموت ولا يشمل النسيان العميق الذي يتبعه، ننسحب ببطء حتى لا نكتشف أنا أصبحنا رمادا، أو لا نكتشف أنهم أصبحوا مستحيلا لا نراه إلا في المرايا جلست مع أخي بعد أن غادرنا الناس، احتلتني فكرة أن أجدهما، فاطمة وطفل الأحلام وأن أتبع تأويل الرؤيا، بينما سيطرت على أخي فكرة زيارة قبر والده في تلك اللحظة، نهض، سار إلى الباب الخارجي للبيت، عاد ليسألني مرارا وتكرارا وهو ينتحب:
    ـ كيف مات؟



    رحمة المغيزوي*
    * قاصة عمانية

  2. #2
    الصورة الرمزية أمل الحياة
    Title
    نبض كاتـــب
    تاريخ التسجيل
    02- 2003
    المشاركات
    851

    رد: انعكـاس ... مـرآة جـانبية

    مساءك عطر / أميرتنا العزيزة ..
    ومشاركة بأختيار رائع جدا ..
    فعلا أسلوب رائع ..
    وتصاوير تجبرنا على التخيل معها والأحساس بتلك اللحظة رغم وجعها المثقل ..
    لك شكر .. وتحية من عبق روحك الكريمة ..

  3. #3
    الصورة الرمزية Lazio
    Title
    نبض جديــد
    تاريخ التسجيل
    11- 2006
    المشاركات
    295

    رد: انعكـاس ... مـرآة جـانبية

    قصة رائعة ........ واختيار جميل .............. تحياتي

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML