قصة قصيرة

مقاطع على هامش حياة صغيرة


مقطع السيجارة

ـ يا أولاد الحلال ..سيجارة ...سيجارة واحدة لأتكلم لا غير.
"عندما نودي على اسمه في بداية وقوفه في هذا المكان لم يجد ما يفعله في لحظتها إلا ابتلاع ريقه ببطء وبصوت بدا له مسموعا لدى جميع المخلوقات، نظر إلى السقف الأزرق المرتفع بلا أعمدة فوقه، أخفض بصره ليتمعن في وجوه من حوله، ثم عاد وابتلع ريقه للمرة الثانية وبحركة ظاهرة في وسط حنجرته، عندما امتدت إليه يد بالميكرفون ليقول شيئا أمام الحضور، ارتبك، كاد أن يتعثر بخطوته الثانية وهو يسير قاطعا المسافة بينه وبين الميكروفون، اقترب، ابتسم، عدل في أثناء سيره من وضع عمامته المائلة جهة اليمين قليلا، حك ذقنه غير الحليق في موضعين أو أكثر، ربت على علبة السيجارة في جيبه باستغاثة مكتومة، عد في سره خطواته في محاولة لطرد التوتر الرابض على هيئة رعشة في أنامله خاصة، فكر بعمق فيما سيقوله لطابور الأجساد الصغيرة وللرجال الواقفين بجانبه في وقار حسدهم عليه في كل خطوة داس بها وجه الرخام الأزرق في أرضية الطابور .
في تلك اللحظة بالذات - والميكرفون بين يديه - لم يشته إلا سيجارة بين شفتيه هذا اليوم، سيجارة لا غير تجيره من الحر المتصاعد داخله منذ الأمس، وتنهي كل شيء على خير أمام الحاضرين. استشعر طعم السيجارة التي دخنها قبل أن يدخل المدرسة شعر لبرهة بنفسه كالمنعتق من منغصات الحياة كليا، أحس بجسده ليس بالقصير ولا الطويل، ليس بالخفيف ولا الثقيل، شعر أنه بلا جسد مرئي أو اسم ملتصق باسم أمه، إنه بلا عقل حتى أنه حر ويستطيع التحليق والطيران إلى أن تنتهي الدنيا ويفنى الخلق.
شجعته عينا مديرة المدرسة المبتسمة على الكلام، ركز بصره على ابنته التي دفعتها يد المعلمة برفق إلى جانبه لتلتقط لهما صورة ذكرت أنها ستعلقها في لوحة التميز، لحظة وعندما طلبت منه المعلمة أن يضع يده على كتف ابنته شعر بتوجس الجسد الصغير المحاذي له، صمت برهة، دار - بانفعال خفي - طرف إزاره الذي ظهر من تحت "دشداشته " ، لخطوة ابتعدت ابنته عنه وغطت بكفها النحيل بقعة طحين يابسة على ثوبها المدرسي ، حدث نفسه بأسى كبير أنه أهملها ، حضر حفل تفوقها بعد إلحاح متواصل منها ومن أمه ، رفع الميكرفون إلى فمه بحذر كبير ونظر ذات اليمين وذات الشمال وكرر بصوت مهزوز، وهو يمج في خياله سيجارة ضخمة.
- شكرا ...شكرا .

مقطع من حبة قمح

أمه ..
لم تكن تشبه النساء الأخريات ، لا يذكر أنه رآها تبكي علنا أو تتذمر من حياتهم أمام جاراتها ، سمعها كثيرا وهي تتحدث عن قدرة الإنسان على تكوين نفسه حتى من حفنة سراب ، علمتهم دائما أن يمسكوا بستار الليل الأسود ليداروا دموعهم عن البشر ، قالت لهم دائما وصفا أصبح حكمة في الأفواه " أنبت لكم لحما على عظامكم الغضة من لفح النار في القيظ والشتاء " . بمرارة طاف بخاطره طائف من الطفولة " وهو صغير أمسك بالورق وبقطع الكرتون المقوى أحيانا ، لفها وثناها على بعضها ، أشعل النار فيها وصنع سيجارته التي لا تبعث الريب والشك، مع دخانها المتصاعد من فمه لم يضيره أبدا أن يحمل أكياس الطحين من بيوت القرية إلى بيتهم ، ولم تثره رائحة الخبز الساخنة التي طالما عبقت في أنفه ، فيما بقي مسيره المتواصل طوال تلك السنوات لجمع جريد النخيل ليستخدموه كوقود للفرن توفيرا للغاز . ذكرى بدون لون في مخيلته " .
في أيامه تلك وهو يجلس القرفصاء أمام فرن أمه فكر دائما كم من المؤذي جدا أن تكون حبة قمح صغيرة وضعيفة وقابلة للكسر والطحن والانحناء والمضغ أخيرا، استعرض وأنامل والدته ملطخة بالطحين الرطب وأصابع أخته الصغرى المبللة بالماء، حياة حبة قمح منذ أنضجتها حرارة الشمس في الحقول إلى أن تنضجها حرارة الفرن، أعاد التفكير مرارا وحرارة الأرغفة الساخنة تثير جلد راحة يده، أكد لنفسه:
ـ كم هي قاسية حياة حبة القمح !

مقطع النسيان

غادة يوم الاثنين المنصرم منذ سنين لا يعرفها ، كانت طريقته الخاصة للاحتجاج جد غريبة ومؤثرة ، لم يكتشف للآن كيف أنتجها عقله المتواضع وكيف ابتدعها واستمر بها كنمط تعايش غير محايد ، قابل للتكرار كلما أراد أن يقول للآخرين أنه موجود دون أن يبكي أو يتذمر أو يحرك لسانه بتأتأة غير مفهومة لديهم .
أخيرا أقنع نفسه أنها كانت وليدة الساعة التي خرج فيها والده إلى بيت جديد وزوجة أخرى تاركا أفواههم الصغيرة معلقة كحبال من مسد مع ثلاث كلمات طلاق في عنق امرأة ضئيلة الجسد طوال سنين عجاف . تذكره الناس جليا كيف دخل غرفته وهو صامت وكيف خرج وقد جز أحد حاجبيه ، دار بخلده أن يقطع إحدى أذنيه أو أحد أصابعه ولكنه ببساطة غير معتادة أمسك شفرة حلاقته ومررها لمرتين أو ثلاث على الشعر الكثيف النابت فوق عينه اليمني. وفي الوقت الذي ضحك الناس منه بكى هو مطولا في داخله باحثا عن ستار الليل الذي افتقده في عز نهار مشمس ، بحاجب واحد كث ومبعثر الشعر أخذ يسير حافيا بين رمال القرية التي تحولت تحت أقدامه إلى مسامير .
و غداة يوم مر عليه عشر سنوات كاملة خرج إلى الناس وقد جز حاجبيه الاثنين احتجاجا على الموت الذي أخذ زوجته وترك في عنق أمه مجددا أربع أفواه باكية.

مقطع من ضباب
في إغفاءات الفجر المتتالية رآها جليا ، كانت روحا صرفة ، جميلة وحنونة ، كأن تجرد الموت من مادية الأجساد أستل منها صفرة المرض المزمن كما استل منهما كل ما راكمته الأيام من المشاحنات والأحداث . ذكرته بابتسامة طيبة وواسعة أن القلوب تشابهت كثيرا منذ أن وعى على الحياة ، وذكرها بحنان وافتقاد بأن قبلها تشابه مع الهواء الذي ضاق به صدرها
سألها ذات مرة لماذا رحلت ؟ ، بقيت تنظر إليه دون إجابة ، اقترب من طيفها وسألها هل أحبته ؟ أومأت إليه بالإيجاب ، واختفت ، عندها تنفس دموعا كثيرة في وجه الفجر. وساعة أضاءت الشمس المكان، أصبح يقينه مكتملا بأنه كالشمس أحبها، لم يألف بعدها شيئا ، ربما لأنها حاضرة وغائبة ، مشرقة وراحلة، تعلم منها أن طول المكوث في مكان ما يخلف الألفة ولكنه يورث الملل، لذلك رحلت ، تركته وحيدا ، وترك من بعدها الدنيا دون يملك شجاعة كافية ليعود في محاولة ناجحة إلى شفرة حلاقته ليقطع ما يصله بالوجود. لعشر سنوات أحبها وأهملها كما أحب وأهمل ابنته الواقفة بمحاذاته في الصورة، و كما أحب وعصى أمه، الفرق أن مرضها كان مثل الشيب قدم في الحياة وقدم في الممات وكلاهما يحمل مذاق القبر، و أن أمه عجزت عن جعله عكازا تستند عليه في شيبها .
في الوقت الذي مازالت ابنته تبتسم لرفيقاتها مدارية بكفها النحيل بقعة طحين يابسة على ثوبها المدرسي، حدث هو فيه نفسه - متحسسا بيد مرتجفة موضع حاجبيه - بصوت بدا واضحا للحضور:
ـ يا أولاد الحلال .. سيجارة ... سيجارة واحدة لأعيش بينكم لا غير .



_____________________
رحمة المغيزوي*
* قاصة عمانية