الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا

محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :

فإن من نعمة الله تعالى على المسلمين والمؤمنين أن مَنَّ عليهم بهذا الدين العظيم ، والذي ارتضاه لهم


فقال : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فهذه من أجلّ النعم

التي يجب أن يقوم أهلها بحقّها من تبليغ ودعوة ونصرة ، وإن من أعظم الوسائل والطرق التي يحب

الله تعالى أن يبسط فيه دينه في الأرض هي الجهاد في سبيل الله تعالى ، فرسالتنا مثل ما قال

ربعيّ بن عامر رضي الله عنه : ( الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد لعبادة رب العباد )

وإن من أعظم البلايا وأشنع الرزايا أن ينقلب حال أمّة التوحيد من مُجاهِدين إلى مُجاهَدين ، ومن


مبلغِين إلى مبلغِين ، ومن آمرين إلى مأمورين ، ومن قادة إلى مقودين !

وذلك بتسلط الكفار على المسلمين ، تسلطا عسكريا ، وثقافيا فكريا ، واقتصاديا ، واجتماعيا ،

وسياسيا ، وحكميا قانونيا ، ودينيا !! .. الخ ،

فالتسلط العسكري : ما يحدث في فلسطين وأفغانستان والعراق والشيشان وغيرها ، وأيضا

في القواعد العسكرية في بلادنا !

والتسلط الثقافي الفكري : يتمثل في العولمة وما جرته علينا من قدوم مذاهب الليبرالية والعلمانية

والاشتراكية حتى أصبح لهم نفوذ في الدول يؤثرون على القرارات الداخلية ، وفي ذلك عمالة غير

واضحة للكفار .

والتسلط الاقتصادي : لا يحتاج كثير كلام وبيان لفتة سريعة إلى النفط الخليجي وشركات النفط

تفي بالغرض .

والتسلط الاجتماعي : يتضح من خلال حركات التغريب والتحرر سواء للمجتمع بشكل عام أو

المرأة بشكل خاص ، فأثر ذلك على الأسرة المسلمة المحافظة وعلى سلوك الفرد المسلم .

والتسلط السياسي : فلا ناقة لهم ولا جمل في القرارات السياسية والإقليمية العالمية ولا تأثير

بل حتى فيما يتعلق بشئون المسلمين فهم تبع للكفار والأمم المتحدة .

قال الله سبحانه وتعالى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا } في هذه الآية العظيمة

بيّن سبحانه أنه لن يجعل الكفار يتمكنّون من المؤمنين ما تمسكوا بإيمانهم ودينهم ، والآية تشمل

الدنيا والآخرة على الصحيح ، فلا وجه لمن خصص بأحدهما ، فلن يتمكنوا من إبادتهم والقضاء

عليهم في الدنيا ، وكذلك يكون الفوز العظيم للمؤمنين في الآخرة على الكافرين ، قال

ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره للآية :

( أي : في الدنيا، بأن يُسَلَّطُوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض
الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة ) ،

واختلاف أهل العلم في الآية : هل هي تشريعية أم قدرية أو تشملهما ؟!

فمن قال أنها قدرية اختلفوا على أقوال : فمن قائل أنها في الآخرة

وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما ، ومن قائل أنها في الدنيا وأصحاب

هذا القول اختلفوا على أقوال : فقيل : لن يجعل عليهم حجة شرعية ولا عقلية يستظهرون بها

على المسلمين ، وقيل : لن يتمكنوا من دولة المسلمين ويستأصلوهم ويستبيحوهم ، وقيل :

أنه لن يجد الكفار على المؤمنين سبيلا ما قاموا بالإسلام والإيمان والأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر فإن تقاعسوا وتخلوا وولوا سلط الله الكفار عليهم ، ومن قال أنها تشريعية

– وهم جمع من العلماء - استدلوا بها على حرمة بيع العبد المسلم للكافر وفساد العقد لما

في ذلك من التسليط عليه والإذلال ، وممن قال بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه .

والراجح - والله أعلم - ما قررته في بداية الفقرة ، لأن الله تعالى علّق عدم السبيل على اسم

الإيمان (المؤمنين) فما تمسك المسلمين بإيمانهم ودينهم فلا يجد الكفار عليهم سبيلا ، لذلك قال

ابن عاشور رحمه الله تعالى في تفسيره :

( فإن قلت : إذا كان وعداً لم يجز تخلّفه . ونحن نرى الكافرين ينتصرون على المؤمنين انتصراً

بيّناً ، وربما تملّكوا بلادهم وطال ذلك ، فكيف تأويل هذا الوعد ؟ قلتُ : إن أريد بالكافرين

والمؤمنين الطائفتان المعهودتان بقرينة القصّة فالإشكال زائل ، لأنّ الله جعل عاقبة النصر

أيّامئذٍ للمؤمنين وقطع دابر القوم الذين ظلموا فلم يلبثوا أن ثقفوا وأخذوا وقتّلوا تقتيلاً ودخلت

بقيتهم في الإسلام فأصبْحوا أنصاراً للدين؛ وإن أريد العموم فالمقصود من المؤمنين المؤمنون

الخلّص الذين تلبّسوا بالإيمان بسائر أحواله وأصوله وفروعه ، ولو استقام المؤمنون على ذلك

لما نال الكافرون منهم منالاً ، ولدفعوا عن أنفسهم خيبة وخبالاً . )

فعلى هذا .. لننظر إلى حالنا اليوم ، ما الذي نقص من إيماننا وديننا ؟!

الشيء الذي جعلنا أذل الناس وأحقرهم وأذلهم بين الأمم الكافرة ؟!

أفلا نتفكر ؟

وننظر في واقعنا الأليم ؟

ماذا تركنا من الإيمان وأطبقنا عليه ؟ .

هي وقفة بسيطة وسرد بسيط لأعظم الأمور خللا ونخرا ونقضا لإيماننا :

1-
ترك الحكم بشريعة الله تعالى
فقد أعرضنا كل الإعراض عن توحيد الله تعالى في حكمه ، بل وأشركنا معه قوانين وضعية

وهو الذي يقول : { ولا يشرك في حكمه أحدا } ، إن لم نكن أعرضنا بالكلية عن شريعته .
بل لم نكتف بهذا وزدنا عليه التحاكم إلى شرائع الغاب في الأمم الملحدة ، فحسبنا الله ونعم الوكيل .

2-
ترك الجهاد في سبيل الله تعالى :
وقعدونا وتخلفنا عنه ، وهو أمر جلل وعظيم ، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه سمع
النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع
وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) ، فهي معادلة ، ترك
للجهاد فتسليط ذل !

لعلي ذكرت أهم سببين أراهما على مستوى العالم الإسلامي مما سبب لنا الذل ونقض الإيمان ،

وإلا فهناك أمور كثيرة منها : انتشار شرك القبور ودعاء غير الله تعالى ، وانتشار الخمور

والرقص والزنا والخنا ، وانتشار الأفكار الدخيلة البدعية والعلمانية والباطنية .. الخ .

فالشاهد من هذا كله أن بحسب الخرم والنقص يكون الذل والهوان على المسلمين ، لذلك ما نراه

من حملة صهيوصليبية وصفوية على الأمة يدل على اتساع الخرق وعظمة الشق .

يقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله :

( فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم فهم جعلوا
لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى ، فالمؤمن عزيز غالِب مؤيّد منصور مكفيّ
مدفوع عنه بالذات أين كان ، ولو اجتمع عليه من بأقطارها إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته
ظاهرا وباطنا ، وقد قال تعالى للمؤمنين :
{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } وقال تعالى :
{ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم }
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله يحفظهم بها ولا يفردها
عنهم ويقتطعها عنهم فيبطلها عليهم ، كما يتر الكافرين والمنافقين أعمالهم إذ كانت لغيره ولم
تكن موافقة لأمره . )

ففي « أحد » مثلاً كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي

الطمع في الغنيمة .

وفي « حنين » كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل!

ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا . .

نعرفه أو لا نعرفه . . أما وعد الله فهو حق في كل حين .

نعم . إن المحنة قد تكون للابتلاء . . ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة ، هي استكمال حقيقة

الإيمان ، ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أحد وقصه الله على المسلمين - فمتى اكتملت

تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه ، جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين .

على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك . . إنما أعني بالهزيمة

هزيمة الروح ، وكلال العزيمة . فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في

النفوس هموداً وكلالاً وقنوطاً .

فأما إذا بعثت الهمة ، وأذكت الشعلة ، وبصرت بالمزالق ، وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة

المعركة وطبيعة الطريق . . فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد . ولو طال الطريق!

كذلك حين يقرر النص القرآني : أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً . .

فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر؛ والفكرة المؤمنة هي التي تسود .

وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصوراً وشعوراً؛ وفي

حياتها واقعاً وعملاً . وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها .

فالنصر ليس للعنوانات . إنما هو للحقيقة التي وراءها . .

وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان ، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان .

ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك . . ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة

ونستكمل القوة . ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء؛ وألا نطلب العزة إلا من الله .

ووعد الله هذا الأكيد ، يتفق تماماً مع حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون . .

إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى ، التي لاتضعف ولا تفنى . .

غير أنه يجب أن نفرق دائماً بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان .

إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية .

ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل .

وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها . .

ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن « حقيقة » الكفر تغلبه ، إذا هي صدقت مع طبيعتها

وعملت في مجالها . .

إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق . وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر

مصير المعركة بينه وبين الباطل .

مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون . .

{ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق }

{ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } . . ) ا.هـ

أسأل الله تعالى أن يمكّن للمؤمنين المجاهدين في سبيل الله تعالى ، وأن ينصرهم ويسددهم ويحفظهم

وأن يرفع الذل عن المسلمين ويحفظ ديارهم وأعراضهم وأموالهم .. وأسأله أن يخزي أعداء الدين

من الكفار والمشركين .


منقول