قصة من ادب المقاومة
شاهدعيان يروي تفاصيل مجزرة هولاكو فيبغداد
شبكة البصرة
كلشان البياتي
الإهداء: ضحايا المجزرة
كل أب يورث أبناءه، وكل أبن وارث ثروة أبيه.. هذه سنة من سنن الحياة لا يختلف عليها اثنان.. وثروة الأب، قد تكون ثروة مادية : مالا وعقارات وما شابه ذلك أو تكون ثروة معنوية كالحكمة والموعظة والمعرفة .. وكلها ثروة لا يُستغنى عنها لمواجهة المصير الأسود، وفي اليوم الأسود يحتاج المرء إلى سلاح .. والمال سلاح والحكمة سلاح والحياة مشقة والدنيا دار الشقاء وبيت الأحزان .. بهذا المنطق ، كان جدي يتعامل مع أبنائه ويشجعهم على العمل والحفاظ على الثروة الضخمة التي سوف يرثونها بعد مماته.
كان يقول إن الحكمة والمعرفة كنزان فمن أمتلكهما امتلك ثروة وجاها وراحة بال ، ومن افتقدهما افتقد السكينة والطمأنينة والثروة . . عندما اشتد به المرض وشعر انه على أبواب سفر ابدي حيث لا رجعة منه ، وزع ثروته على أبنائه وبناته وكانت ثروة كبيرة لا تعد ولا تحصى . . بالحكمة والمعرفة والعمل الصالح استطاع أن ينمي ويكثر الثروة الضئيلة التي ورثها عن أبيه .. وقبل أن يدفع لأبي حصته أشترط عليه شرطا غريبا أذهل الجميع ..
قال لأبي :- إنني أهبك ثروتي على شرط ألا تورث هنداً شيئا من هذه الثروة عندما تورث أنت أبناءك أيضا .
وكان يقصدني أنا .. حفيدته الصغيرة من أحد أبنائه الخمسة قال هذا أمام الجميع وكتب وصية ألزم أبي بتنفيذها.. وقال لأبي هذا شرطي لترث ثروتي.
استغرب أبي وأراد أن يستفسر منه عن الحكمة في هذا، لكن جدي لزم الصمت وأوصد باب المناقشة في هذا الموضوع وقال لهم:- إن هند هي أحبكم جميعا إلى قلبي .. فيها الخير كله وفيها الأمل والمرتجى.
في وقت أخر، ألح أبي عليه أن يغير الشرط والوصية لان ذلك يخالف الشرع والقانون ويناقض المنطق، لكن جدي تمسك برأيه وقال له :- سيغضب عليك قلبي بعد الموت إذا خالفت الشرط .. ولن أسامحك أبدا .. تذكر أن وصية الميت واجبة التنفيذ ..
قرأت الحزن و الأسف في عيني أبي وكان ساهما كثير الشرود ، يتحدث إلى نفسه و يتساءل كيف يا ناس أحرم ابنتي من الإرث وأخالف شرع الله ؟ أية حكمة في هذا وكيف يعقل هذا ثم لماذا أصغر بناتي .. لماذا هي من دون سائر أبنائي وبناتي ..؟
كان حال أبي يؤلمني ، ويحز في نفسي موقف جدي الذي أدهشني أنا أيضا مع أني كنت أثيرة إلى قلبه ، قريبةً إلى نفسه . .. وكنت أستغرب موقفه المفاجئ و أتساءل هل يتغير حال الناس بين ليلة وضحاها .. وكان جدي حزينا ، يقضي الليل متأملا ساهرا لا ينام
عرض عليه أبي أن يتنازل عن أرثه طالما أنه سيتسبب في ألم لإحدى بناته وهي أحبهن إلى قلبه ألا أن جدي رفض العرض وأصر على أبي أن يتسلم الإرث المقدر له شرعا ..
حدث أن استدعاني مرة إلى حجرته وكان أبي خارج الدار وضمني إلى صدره بقوة ورأيت الدموع تسيل من عينيه بغزارة وتبلل لحيته ..
قلت له:- أتبكي يا جدي .. ؟
أنا لا أريد الثروة .. لا أحتاجها ، سأبقى أحبك إلى الأبد .. لن تغير الثروة من حبي لك..
قال :- أنا أحبك أيضا . وكنت واثقة من حب جدي لي وشعرت أنه يخفي سرا كبيرا في قلبه لا يريد أن يبوح به لأحد ..
قلت له :- ها ، يا جدي ألا تبوح بالسر .. ؟
تلكأ في الكلام وقال :- أي سر .. ؟
قلت له :- السر الذي يؤرقك ويجعلك لا تنام .. أنت تتعذب وتعذب الآخرين معك .. !
قال :- من قال لك إن هناك سرا أصلا ..
قلت له:- إحساسي ، أنا أشعر أنك تحمل سرا عظيما يهز جبلا ..
قال:- حفيدتي الصغرى أكثر إحساسا بي وضحك هازا رأسه .. ثم أردف قائلا :- لم يحن الأوان بعد ..لكل شيء أوان .
وكنت لا أعرف الأوان الذي يقصده جدي ، وأخشى أن يفارق الحياة قبل أن يبوح بالسر الذي كان سببا في حرماني من الإرث ..
وذات يوم .. حضر أبي إلى الجامعة ولمحته يبحث عني بين الطلبة والعرق يتصبب من جبينه .. شعرت أن هناك خطرا كبيرا قد داهم العائلة وجعل أبي يهرع الي مسرعا.. وتبادر إلى ذهني فورا أن جدي خذلني .. مات قبل أن يبوح لي بالسر .. أحسست بهول الكارثة والفاجعة لو صدق حدسي ومات جدي قبل أوانه .. بدرت مني صرخة غير إرادية استفزت أبي ..
-لماذا خالفت الوعد يا جدي .. لماذا خذلتني .. ؟

شتت صوت أبي مسار أفكاري وغير اتجاهاته .. قال إنه يبحث عني منذ ساعة .. وطلب مني أن أرافقه إلى البيت .. وأردف أن جدي غفا كالعادة وأستيقظ فجأة وألح في طلب حضوري ..
كان الفضول وحب الاستطلاع يدفعاني لمعرفة السر الذي يخفيه جدي ولم يبح به لأحد .. وشعرت أنه يستدعيني ليبوح لي بالسر وشعرت بالزهو والفرح وانتشيت أكثر عندما أعلمني أبي أنه لا يعرف بوجود سر في قلب جدي ..
ترك أبي خلفه عشرات السيارات تدق أبواقها وترسل زعيقاً يملأ الهواء الطلق واجتاز الإشارات الضوئية وقامات رجال المرور وهو يردد مع نفسه والشرر يتطاير من عينيه .. من بين كل الرجال الذين يحيطون به يختار طفلة ليبوح لها بالسر .. رغم إحساسي بالإهانة ألا أني شعرت بالزهو ثانية وأدركت أن جدي رجل عبقري وفذ وصاحب عقل راجح ..
وقفت سيارة أبي أمام الباب وكانت أعداد هائلة من سيارات الأقارب والأصدقاء والجيران قد تراصفت واحدة بعد الأخرى كأن الجميع قد أيقنوا بوفاة جدي .. وكان البيت بأروقته وصالاته وغرفه الواسعة والفسيحة وبممراته ومماشيه وحديقته الرحبة مليئة بالزوار الذين تقاطروا من كل حدب وصوب وكان جدي قد طلب حضور أبناء الأسرة كافة ، أبنائه وبناته وأحفاده وحفيدته فضلا عن إخوانه وأخواته والأقارب والأصدقاء ليلقي عليهم نظره أخيرة كأنه كان متيقنا من موته مع أنه كان يتعرض إلى مثل هذا الموقف وينتكس وضعه الصحي ويعاني الاحتضار ثم يعود ويسترد صحته من جديد إلا أن الأمر هذه المرة كان مختلفا تماما ..
وتذكرت أنه قال لي أكثر من مرة :- لكل شيء أوان وللموت أوان أيضا ..
اقتحمتُ باب الصالة التي تضج بالزوار .. رجال ملثمون يقفون في ركن منها ورجال جالسون فوق الأرائك ، وعلى الأرض ، وعلى المساند .. ونساء ملثمات غرقن في الحزن .. جدتي ومعها نسوة أخريات يجهشن بالبكاء .. دخلت وعشرات العيون تحدق بي وترصد خطواتي .. وفي أعينهن سؤال واحد ما الذي بيني وبين جدي .. ؟
دخلت غرفة جدي الذي كان غائبا عن الوعي إلاّ أنه استرده عندما سمع صوتي وأعتدل جالسا كأنه أعيد إلى الحياة وبعث ثانية ولمحت نورا يتلألأ من عينيه ..تصاعدت تكبيرة الله أكبر إلى السماء ودُهش الجميع لحال جدي بينما نظر الى ما حوله واستغرب وجود كل هذا الحشد من الناس في غرفة لا تتسع ألا لعدد محدود كأنه نسيَ أنه هو الذي أرسل في طلبهم .. ثم طلب إخلاء الغرفة ممن فيها وأظل أنا معه فقط .. تسمروا في أماكنهم محدقين في وجوه البعض ..
قال لأبي :-غادروا الغرفة وأوصدوا الباب علينا ..
وقال لي :- أوصدي الباب من الداخل وتأكدي من خلو الغرفة ..
أوصدت الباب بالمفتاح و اطمأن جدي إلى أننا وحدنا .. وقبل أن يبوح بالسر التفت يمينا وشمالا وقال لي ثانية :- هل أنت متأكدة من خلو الغرفة. قلت له :- نعم ، أنا وحدي في الغرفة ..
صعقت لكثرة تحوطات الأمان التي أتخذها جدي ليبوح لي بالسر .. راودتني وساوس وظنون كثيرة تخيلت أحيانا أن جدي قد أرتكب فواحش عظيمة في حياته لا يستطيع أن يكشفها أمام أبنائه و اختارني أنا لكوني أفوقهم حكمة ومعرفة ..
قال جدي :- يغرس الله الحكمة والمعرفة والعقل الراجح في أحد أفراد الأسرة .. في كل بيت هناك فرد نابغة وذكي وحكيم ..
وقبل أن يبوح لي بالسر.. قال لي :-سأبوح لك بالسر ولم أبح به لسواك أبدا ولا ينبغي أن تبوحي به لأحد .. حفظ السر أمانة .. و إذا بحت به لأحد سأغضب منك في لحدي ولن يسامحك الله .. وسيحدث مالا تحمد عقباه ..
قلت له :- أعدك ألا أبوح به لأحد ... لأنك اخترتني لتبوح به لي أنا بالذات ..
قال :- أنا لم أخترك ، وإنما أنت قد اخترت..
قلت له :- ماذا اخترت .. ؟
أطرق ساكتا ولم يجب .
طلب مني أن أرفع الغطاء وأمد يدي تحت الفرش وأخرج قطعة مستطيلة الشكل ملفوفة بقماش أسود .. مددت يدي وأخرجت القطعة وناولته إياها.. ثم أعادها إلي وطلب أن أحتفظ بها .
نظرت إلى القطعة فإذا هي مستطيلة الشكل لكن لا أعرف المادة التي صُنعت منها .. لا هي من الخشب ولا هي من البلاستيك ، ولا هي من الطين وليست ملساء أو صلبة ولكن شكلها يشبه شكل (الكاسيت) الذي نستعمله اليوم في جهاز التسجيل .. الشكل والتصميم نفسهما .. ولكن ليست كاسيتا .. بالتأكيد ليست كاسيتا ! أشك أنها كاسيت لكن شكلها يوحي بأنها كاسيت ..
سألت جدي : ما هذه القطعة .. ؟
قال :- لا أعرف ، سلمني أبي هذه القطعة كما أسلمها أنا لك وتسلمها هو من أبيه .. وتسلمها من أبيه بالطريقة نفسها .. وأنا أسلم هذه القطعة لك اختارني أبي من بين عشرة إخوة وإخوات وسلمني القطعة كما اخترتك أنت من بين كل هؤلاء الأبناء والبنات لتحمليها .. وأنت سوف تسلمينها بألاسلوب والطريقة نفسها .. هذه القطعة تتداول بهذه الطريقة .. وستبقى تتداول من جيل إلى جيل إلى أن يأذن الله ويتسلمها الشخص المختار .. إنها قطعة للتداول المحدود ولكن لا أحد يعلم إلى متى ستبقى تُتداول .. علمها عند الله علام الغيوب ..واعلمي أن .. أبي لم يخترني بنفسه ، وأنا لم أخترك وأنت لا تختارين .. نحن لسنا مخيرين بل مسيرون .. نحن ننقاد لا أرادة لنا ولا قوة ..
وقال أيضا .. إنه حاول أن يرفض تسلم القطعة من أبيه ويعتذر لأنه كان مشغولا بأمور أخرى وليس لديه الوقت الكافي علاوة على أنه يخشى أن تسرق منه أو لا يستطيع هو حفظ السر أو حفظ القطعة وقد يموت أو يتعرض لحادث .. حاول أن يعتذر إلا أن أباه أبى أن يصغي إلى هذا الكلام وقال له أنا لن أستطيع أن أعفيك لأني لم أخترك وأبي لم يخترني وأنت ليس بمقدورك أن ترفض .. أنا وأنت وهو وهم جميعا مهيئوون لهذا الحدث .. لقد وردتني الإشارة في الحلم بأن أسلم الأمانة إليك ..
وأردف قائلا :- أنه عندما تسلم القطعة قيل له إنك سوف تسلمها إلى شخص حدد لك .. سيحدث شيء كأن تردك إشارة أو علامة في الحلم أو اليقظة .. وقد يظهر لك كائن ما بهيأة إنسان أو طير أو فأر أو حيوان أخر أويقع حدث معين في الحلم أو اليقظة .. وقد يظهر صوت أنسان أو حيوان في الحلم أو اليقظة ..علامات معينة تكون بمثابة دلالة أو علامات ليوم محدد .. يعلمك باسم الشخص الذي يواصل المسير .. وقد تظهر هذه العلامات وأنت
نائم أو يقظ ، واقف أو جالس .. وفي وقت لا يعلمه إلا الله .. وقبل أن تموت ولن تموت إلا أذ سلمت ما في جعبتك و إذا سلمتها ونفذت ما فيها وبدقة ورغبه فسوف تموت بعدها كأنك لم تكن وكأن شيئا لم يحدث .. والشخص الذي يحدد لحمل القطعة شخص محدد لا يستطيع غيره أن يحملها و إذا حدث وأن تعرضت القطعة إلى سرقة أو فقدان فأن السارق سوف يموت والعاثر على القطعة سوف يموت والقطعة ترجع للشخص المحدد .. أن آلية عمل هذه القطعة تتغير من شخص المسلم إلى المتسلم .. فمن حملها أكتسب عقلا راجحا وحكمة وجاها وعزا وثروة وسيكون مباركا ومبجلا وذا شأن عظيم ..
سكت جدي وأغمض عينيه و انتابني الخوف والفزع وتصورته قد مات وسلم الروح ولم يكمل السر .. تذكرت أنه أوحى لي عندما يسلم الشخص الأمانة فأنه يموت مباشرة .. وبدرت مني صرخة وقلت لماذا ورطتني يا جدي بهذا الحمل الثقيل .. فتح عينيه وقال لا تخافي يا صغيرتي سيكون الله معك وسيقف معك كل الأنبياء والأولياء والصالحين .. ستكونين امرأة مباركة وشريفة وغنية وحكيمة .. وستكونين محبوبة من الجميع .. يحبك الرجال ويسعون إلى إرضائك ، وتغار منك النساء وسيحاولن الكيد لك ألا أن الله منجيك منهن وهو خير حافظ ..
وقال إن في القطعة رسالة أو علامة أو إشارة أو صوتاً لا يعرف ما تكون لكنها مشفرة .. عند ظهور العلامة أو قرب ظهورها ستصيبك رجفة أو قشعريرة، ستنبئك بأن القشرة الخارجية للقطعة قد زالت وعندما تزال هذه القشرة ضعي القطعة داخل جهاز التسجيل ..
قلت لجدي:- أي جهاز .؟
قال :- أي جهاز تسجيل متوفر عندنا في البيت .
ضحكت بملء قوتي وقلت لجدي هل أضع قطعة مثل هذه في جهاز التسجيل .. الجهاز لن يعمل بل سيصاب بالعطل .. الجهاز المتوفر عندنا والأجهزة جميعها الموجودة في أيامنا هذه مصممة لنوع معين من الكاسيتات ..
- هذه القطعة يستحيل أن تعمل في الجهاز ..
قال :- الإشارة وردت هكذا .. القطعة تعمل داخل جهاز التسجيل . وقد وصف لي الجهاز وحددت مواصفاته .. وأنا مثلك عارضت أبي وهو عارض أباه .. وحاولت أن أقنعه أن الجهاز حديث ، ابتكار علمي جديد أكتشف حديثا وشكل القطعة يدل على أنها قديمة العهد ..
قال :- صحيح ، أنها قديمة ، تعود لسنة 1258 م ، 656هـ ..
صعقت لهول المفاجأة و انتابني الغضب .. وقلت له وكيف تريد أن أُدخلها في جهاز أكتشف حديثا ولم يكن مكتشفا عند ابتكار القطعة إلا أن جدي صمم وأصر أن أنفذ ما قاله لي حرفيا .. القطعة تدخل داخل جهاز التسجيل ويعمل الكاسيت الحديث بالطريقة نفسها ..
قلت له :- هل أنت متيقن أن الجهاز الموصوف لك في الحلم هو هذا الجهاز .
يمكن أن لا يكون جهازا أخر موجودا في السوق ..
قال :- لا ، هو الجهاز نفسه الذي نستعمله في البيت ، وقلت له :- القطعة اكتشفت قبل الجهاز .. إن من صمم القطعة كان عبقريا يعلم أنه بعد زمن غير محدد سيقوم عالم ما باكتشاف وصنع جهاز يلائم قطعته .. وربما كانت هناك سرقة علمية .. قد يكون جهاز التسجيل مكتشفاً منذ ذلك الحين وأن ( ماركوني ) كذب وافترى على العالم .. كيف استطاع أن يخدع الناس كل هذه السنين ..
قال:- الرجل لم يسرق ولم يكذب ، لا تحاولي أن تخلطي الأوراق والدفاتر .. كانت هناك نبوءة باكتشاف واختراع جهاز للتسجيل .. الناس في ذلك الزمن كانوا أكثر انسجاما وتوافقا وكانوا أهل علم وتقوى وصلاح .. وكانوا مؤمنين أيمانا خالصا بالله .. كان الخير كثيراً والمحبة وارفة الظلال بين الناس .. ربما أن الله أوحى إلى أحدهم وأعطاه علم اليقين أن جهازاً مثل هذا سوف يكتشف في زمن ما ..
نهرني جدي وطلب مني أن أكف عن الاستهزاء والسخرية .. وقال عندما تردك العلامة أو الإشارة بإزالة القشرة الخارجية للقطعة ..أدخليها مباشرة إلى جهاز التسجيل و انتبهي إلى أن الجهاز موصل بالكهرباء .. القطعة تحتاج إلى تيار كهرباء مناسب لكي تعمل ثم اضغطي على زر التشغيل .. و انتظري برهة أو لحظة أو ساعة .. وقت غير محدد وستنطق القطعة وتتسلمين رسالة ما وتنفذين ما فيها .. هذا إذا وردت الإشارة بإزالة القشرة وإذا لم ترد فهذا يعني أن الرسالة يستلمها شخص أخر سيردك بإشارة أيضا وقد لا ترد الإشارة إلى مستلم القطعة منك فوقت إزالة القشرة الخارجية غير معلوم .. هناك علامات دالة ستقع تنبيء بحدوث الكارثة الأزلية ..
سألته : هل هناك كارثة ما ستقع .. ؟
قال:- لا أعلم .. الله يعلم ما في داخل هذه القطعة من أية أو نبوءة .. يحمينا الله وينجينا من سوء العاقبة .. وقال :- لا تنسي أن تتوضئي قبل أن تلامسي القطعة النظافة والطهارة صفتان محببتان ..
وسألته :- ألم تحاول أن تجرب 00 وتشغل القطعة في جهاز التشغيل لتعرف محتوياتها ..؟
قال :- لا ، القطعة لا تعمل إلا بالطريقة التي وصفتها لك.. والرسالة هذه موجهة إلى أقوام معينين .. وستعمل في وقت مناسب يحتاج فيه الناس إلى آية تحفزهم على العمل ..
سمعت مزلاج الباب يتحرك وشعرت أن أحدهم يتنصت علينا من الخارج ..
وسألته ثانية :- كيف استطعت أن تحتفظ بالقطعة كل هذه السنين ألم تلاحظها جدتي أو أحد أبنائك ..
قال :- القطعة هذه لا ترى ولا تستطيع العين المجردة أن تراها ولو أنها بهذا الحجم .. هذه القطعة تذوب وتتلاشى إذا وقعت عليها عين شخص غير الشخص المحدد .. هذه القطعة غير مرئية إطلاقا وتحرك مزلاج الباب ثانية .. انتفضت من مكاني وحاولت أن أنهر من كان يحرك المزلاج وأقول له هذا التصرف غير لائق وغير جائز ولكن تذكرت أنهم زوار جاءوا لتشييع جدي الذي يحتضر وسوف يموت . وقبل أن أصل إلى الباب وأمد يدي إلى المزلاج أنفتح الباب وتدافع من كان في الخارج إلى داخل الغرفة وأحاطوا بجدي من كل جانب وكنت ما أزال أقف في مكاني وسمعت أحدهم يقول لا حول و لا قوة ألا بالله .. ثم تقدم نحوه أحدهم وكان يعمل جراحا في أحد المستشفيات ومس يديه وفحص تنفسه.
قال الجراح إنه فارق الحياة قبل أكثر من ساعة . أي منذ أن دخلت غرقته بالتحديد .
اندهشت وقلت له كان يتحدث معي قبل دقيقة واحدة فقط .. ليس من المعقول وكدت أن أقول له وأبوح بالسر أمامه وأقدم له القطعة التي سلمني إياها إلا أني تراجعت عندما شعرت أن عينيه تحدقان بي وتمنعاني من ذلك ثم أخذوه وشيعوه إلى مثواه الأخير ..
حاول عمي الكبير أن يعرف السر الذي باح لي جدي به قبل وفاته بحجة أنه أكبر أبناء أبيه وأنه سيجلس في مكانه في الديوان وسيتولى أمر العشيرة .. وقال من المخجل أنه الابن الأكبر لأبيه ولا يعرف شيئا من حدث غامض كان موجودا في حياة أبيه .. بينما تعرفه فتاة صغيرة .. اعتذرت وقلت له :- أعذرني أنا لا أستطيع أن أخالف وعدا قطعته أمام جدي ، أنت تعرف عاقبة من تفشي السر وتخون الأمانة .. وصية الميت واجبة التنفيذ .. وحاول عمي أن يغريني ماديا ومعنويا وقال أنت زوجة أبني مستقبلا وستكونين فردا في أسرتي وسأورثك أن لم يورثك أخي .. وألح أبي وألحت أمي وألحت جدتي وأعترضت و احتجت .. كيف يفشي جدي سرا لإحدى حفيداته وهي أصغرهن ولا تعرف هي شيئا عنه وهي التي قضت معه العمر بحلوه ومره وهي زوجته وأم أولاده وبناته .. إلا أن الجراح قال لهم لا يوجد هناك سر ولم يبح الجد بأي شيء .. اتركوا الفتاة في حالها..
وقال له أبي كيف يحدث هذا وقد أشترط حرمانها من الإرث إن لم يكن هذا سرا .. أكيد هناك سر وقد باح به لها .. ملعونة ترفض أن تفشي سر جدها ..
التزمت الصمت ووجدت أن أبي قد تغير وراح يرمقني بنظرات غريبة .. يتودد لي أحيانا ويحاول أن يعرف مني شيئا عن السر إلا أني كنت أخذله وكان يتراجع بعد أن ينهرني بقوة ويقول أنت لست ابنتي .. ثم يدفع أمي ويحرضها لتعرف السر مني بحجة أن العلاقة بين الام وأبنتها علاقة وطيدة وتتسم بالجدية أكثر من علاقة الأبناء بالأب .. وقد قال لها يوما وهو غاضب إذ كانت تخفي سرا مثل هذا عليك ، فالله يعلم كم من الأسرار تخفي هذه الشقية .. ثم يقول إنه أخطأ في تربيتي وكان سبب فسادي بتدليلي .. كنت أحيانا أتأثر لموقف أبي والآخرين مني وأبكي مستنجدة بجدي وأقول له سأبوح بالسر وليحصل ما يحصل فليس من المعقول أن أخسر علاقتي بأبي وأمي و الآخرين بسبب هذا السر .. هذا السر يهدد حياتي .. لكن أسمع صوت جدي وهو يقول .. ليس هذا عهدي بك .. لقد تم اختيارك لحمل هذه الأمانة والتف حولي شباب العشيرة الذين سمعوا بالخبر وتقدموا واحدا بعد أخر ووجدت نفسي موضع محبة الجميع .. بل أن الآباء تسابقوا إلى خطبتي لأبنائهم وحدث شجار ونزاع عنيف بين الأبناء وبين الآباء والأبناء وبين الإخوة في البيت الواحد ثم لمحت علامات الحنق والغيرة تدب في قلوب شقيقاتي اللواتي يكبرنني في السن .. أغاضهن أن أتزوج أنا أصغرهن سنًا لأني بعد أن تسلمت القطعة زدت جمالا على جمالي وصرت أجذب الآخرين حولي فضلا عن المال الذي كان يأتيني من حيث لا أدري بالطبع كما أخبرني جدي إن من يحمل هذه الأمانة سيكسب جاها وثروة وجمالا ..
علمت أن بعضهم قد أعتقد وتصور أن جدي يمتلك ثروة نقدية كبيرة لم يدخلها ضمن الإرث الذي تركه لأبنائه وأن سبب حرماني من الإرث هو هذه الثروة المخفية التي لا يعرفون عنها شيئا .. وكان هذا الاعتقاد يدور في خلد الكثيرين ومنهم أبي .. عندما سألني ذات مرة عن مقدار الثروة التي تركها لي جدي قلت له ترك لي كنزا لا يقدر بثمن ..
مضت سنة وبضعة أشهر على وفاة جدي وأنا أتعقب أية علامة أو إشارة مجهولة تظهر في الأفق وتنبئ بما قاله لي جدي .. زوال القشرة الخارجية من القطعة المكسوة .. طرأ علي تغير ملحوظ انتبه إليه الجميع .. كنت شديدة الحرص والدقة .. أتمعن وأتفرس في كل شيء حولي .. أراقب نفسي وأدقق هل حدثت لي رجفة أو قشعريرة .. أحيانا كنت أصدق ما قاله الجراح من أن جدي مات ولم يبح بأي سر وأني أعيش في وهم و يتراءى لي ذلك ويزول هذا عندما المس القطعة وأقلبها بين يدي وأعود وأنفي الوهم ..
وعندما أجلس إلى نفسي و أتساءل هل ما قاله لي جدي شيء منطقي وعلمي يعقله العقل .. هل حدث شيء من هذا القبيل .. ؟
أذهب إلى المكتبة وأمعن النظر في عناوين الكتب والمراجع و أتساءل وأقع في حيرة .. هل هذا حدث علمي أو عمل الهي أم من أعمال الشيطان وأقرأ في كتب الدين ثم أتصور أن جدي رجل مشعوذ من مشعوذي هذا الزمان وأتخيله هكذا مشعوذا ودجالا كبيرا وأعود وأنفي هذا عندما أتذكر أن جدي حج إلى بيت الله مرتين وكان كثير الصلاة والصوم والصدقات ..

ولأني لا أستطيع أن أبوح بالسر لأحد أو أسأله عن شيء من هذا القبيل قررت أن أكتب قصة أو أدون الحدث في ورقة واستطلع رأي بعض الناس فيها لكني عندما حاولت مسك القلم والكتابة وجدت أن القلم لا يكتب وأن ما أكتبه لا يقرأ بتاتا .. فاقتنعت أن ما قاله لي جدي صحيح من أن السر لا يخرج من نطاق الشخص المحدد حتى إذ حاول هو أن يفشيه أو عندما يحاول أن يفشيه فأنه سينسى تفاصيل الحدث ولن يتذكر منه إلا مقتطفات لا يفهم منها ..
عندما ينتابني فرح أو سعادة مفاجئة وأشعر بنشوة كبيرة أعتبرها علامة من العلامات وعندما ينتابني هم أو ضيق مفاجئ وتسود الدنيا في وجهي أتصورها علامة وعندما أشعر برجفة أو برودة تلسع وتدب في جسدي ونحن في قيض صيف حار ذي هواء سام أعتبره علامة من علامات اليوم العظيم .. وعندما يصيبني الوهن وتتدهور صحتي وأشعر أن الموت يدنو مني أشعر أنها علامة ..وعندما يشتد بي المرض وأراجع الطبيب وينفي وجود مرض في جسدي ويقول أنها وعكة طارئة لم نسمع عنها أعتبر ذلك علامة أو إشارة .
في الليل أجلس إلى التلفاز وأتابع السهرة أو أسمع نشرة الأخبار يصيبني الملل والضجر وأنا أنقل زر المذياع بين الموجات وأسمع الإذاعات تبث أخبارا شتى .. أمريكا تهيئ نفسها لشن عدوان عسكري على العراق وأن بغداد مستهدفة ثانية وثالثه والعالم منقسم بين معارض ومؤيد .. تقول الإذاعات متفقة على رأي واحد بغداد ستدافع عن نفسها وستقاتل بكل ما أوتيت من قوة تثور فيّ الحماسة والرغبة وأتمنى لو أتمكن من فعل شيء لأوقف عنجهية أمريكا تلك .. وتحتشد في ذاكرتي صورة ليلة تحولت فيها سماء بغداد إلى قطعة حمراء لهول ما ألقي من القنابل والصواريخ .. ثم أسأل نفسي لماذا بغداد تستهدف دائما وأجد نفسي أجيب لأنها جميلة ورائعة وفيها الحضارة التي تغيظ الأعداء .. ثم أقوم إلى المكتبة وأسحب كتابا أتذكر أني تركت القراءة منذ وفاة جدي .. أقرأ العناوين واحدا بعد آخر وأشعر أني أعرفها جميعا وأني قد هضمت كل ما فيها من معلومات ثم تقع عيني على عنوان غريب لم تألفه سابقا . أسحب الكتاب من المكتبة وأجد غلافه قديما ومهترئا يعود إلى زمن سحيق في القدم .. أستغرب ويأخذني العجب فأنا واثقة أني أنجزت قراءة كتب المكتبة لأكثر من مرة ..هذا الكتاب دخيل على المكتبة .. عندما قلبت صفحاته انتابتني رهبة وشعرت أني أرتجف ، وأقشعر بدني من الخوف وأردت أن أصرخ من الذي جاء بهذا الكتاب الى المكتبة .. ؟
كان الكتاب يدور عن فن التحنيط .. تحنيط الجسد بعد الموت .. موضوع لم أكن أعرف عنه إلا شيئا يسيرا .. فقرة في الكتاب تشير إلى أن أقدم مثال للتحنيط هو مومياء الملكة (( حتب حرس )) زوج الملكة سنفرو ، وأم الملك خوفو .. وقد وجدت أحشاء هذه الملكة محنطة ومودعة في صندوق من المرمر عرف (( بالصندوق الكانوبي)) تستغرق عملية التحنيط (70) يوما وكان الكهنة في أثنائها يرتلون الصلوات مرتدين أقنعة على شكل رؤوس أبن آوى .. والتحنيط كان يستهدف في الدرجة الأولى المحافظة على الجسد من عوامل البلى عن طريق تجفيفه وهناك طريقة أخرى لمنع التعفن هي طريقة التبريد في صفائح بعد تعقيم محتوياتها فضلا عن طريق التخليل والتمليح والتدخين وهناك مواد كيميائية تمنع التعفن كالجليسرين والكحول والزيوت الطيارة والتوابل وحامض الجاويك وثاني أوكسيد الكاربون .. وتجري على المومياء بعد أنتهاء كل العمليات السابقة والطقوس التي تصاحبها عملية (( فتح الفم )) التي يلمس فيها الكاهن الأعظم فم المومياء بقضيب خاص ويقول له أنت الأن ترى بعينيك ، وتسمع بأذنيك ، وتفتح فمك لتتكلم وتأكل وتحرك ذراعيك وساقيك أنت تحيا .. أنت الآن حي وقد عدت صغيرا مرة أخرى وستعيش إلى الأبد ..
أقتحم أبي الغرفة ..وسألني عن الكتاب الذي بين يدي .. قلت له كتاب خارجي من المكتبة .. قال لي :- اهتمي بقراءة الكتب المنهجية،أنت على أبواب الامتحانات .. أعدت الكتاب إلى المكتبة وغادر الغرفة إلى الخارج ..
عندما عدت ثانية لأستعير الكتاب من المكتبة لم أجده كأن يدا امتدت وسحبته .. بحثت عنه في أرجاء البيت فلم أجده .. فتصورت أحد علامات بزوغ اليوم .. وتذكرت مقولة جدي .. إن هناك علامات ستظهر تدل على قرب حدوث الواقعة قد تكون علامة واحدة أو علامتين وربما عشر علامات لكن هناك علامة دالة كبيرة تكون هي المفتاح .
بعد الاغتسال ..شعرت أن المشط لا يتخلل خصلات شعري رغم أن أسنانه منفرجة والمسافات بين الأسنان كبيرة .. عندما وقفت أمام المرآة لأمشط شعري لاحظت أن وجهي لا يظهر في المرآة .. لا أرى صورتي فيها .. مددت يدي ولمست سطحها فوجدتها صقيلة وملساء أثناء مرور أصابعي فوق السطح برز وجه مشوش غير محدد الملامح ، وجه صارم ملامحه لا توحي بشيء .. إحدى عينيه مفقوءة لكن الجفن في العين الأخرى يرمش باستمرار انتابني الفزع وشعرت أني مسكونة وبدأت أتخيل أشياء وتتراءى لعيني أشياء ثم وجدت نفسي أمشي وكأن قوة خفية تدفعني باتجاه الصندوق .. مددت يدي لأخرج القطعة و اكتشفت أن يدي لا تصل للصندوق .. وتذكرت مقولة جدي . . توضئي قبل أن تلمسي القطعة . بعد الوضوء ، أخرجت القطعة وكانت القشرة الخارجية التي تكسو القطعة قد زالت .. أخذت القطعة ونفذت ما قاله جدي :- أدخلي القطعة داخل جهاز التسجيل وستنطق بقوة القادر .. عندما وضعت القطعة في الجهاز وجدت أن القطعة دخلت صندوق الجهاز وكأنها مصممة أساسا للجهاز .. كأنها كاسيت حديث ولكنها ليست كاسيتا .. وضغطت الزر وأشتغل الجهاز .. أنتظرت بعض الوقت .. دقيقة أو دقائق لا أعلم .. إلى أن سمعت همسة داخل الجهاز .. وسمعت صوتا يتهيأ للحديث ثم جاء الصوت واضحا ومفهوما ..
بسمل الرجل وصلى على الرسول محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) وقال يا سامعي الصوت صلوا على محمد الرسول وعلى آله وصحبه وعلى الأنبياء والأولياء .. ثم حمد الله وأثنى عليه وسبح بحمد الله .. و قال :- أنطق بأذن الله تعالى.. وأتكلم باسمه جل شأنه وعلا إنه القادر على كل شيء .. أنقل لكم رسالة وأروي واقعة من يسمعها منكم يحفظها عن ظهر القلب لأني أنطق مرة واحدة وإذا نطقت وأفرغت ما في جعبتي من كلام يبطل مفعولي وأصاب بالخرس وأنسى الأشياء والأحداث وأصبح قطعة عادية لا فائدة ترجى مني .. ومن يسمعها يحفظها عن ظهر قلب ويكون ملزما بتنفيذ ما جاء فيها .
أنا أحد شهود عيان مجزرة بغداد الدامية .. أنا روح ذلك الشاهد بل أنا لسانه .. أحد الذين نجوا وشهد مجزرة بغداد بعد أن استباحها هولاكو سنة 1258 م ، 656هـ وفعل فعلته التي يندى لها جبين كل أنسان شريف .
أنا أحد الذين نجوا بأعجوبة وبقوة القادر وحفظه مع بعض من أهالي بغداد ونجا معي كل من عبد العزيز بن إبراهيم الخالدي وسيط الخليفة المستعصم بالله وعميد الدين سعيد بن محمد السلمي البغدادي والمنجم بن نائب وأخي ابن الفوطي بدر الدين عبد الوهاب بن عبد الرزاق الفوطي .. نحن فقط نجونا وبقينا أحياء من أهالي بغداد بعد أن دخلها هولاكو وفتك بأهلها قتلا وذبحا .. لا تضيع أثار جريمة هولاكو تحدثنا إلى بعض لمؤرخين الذين عاصرونا في تلك الفترة وهم أبن كثير وابن رسولي وابن العبري غريغوريوس ليؤرخوا الحدث وليبقى عالقا في الأذهان . مدى الأجيال .. ولكي لا يشوش أحد الأحداث أو يحرف فيها و يزور تفاصيلها ولا سيما من مؤرخي التتر والمغول الذين عاصروا الحدث وشهدها ومنهم رشيد الدين الهمذاني وزير هولاكو .. استخدمنا طريقة تحنيط الجسد .. وقد تطوعت أنا لهذه المهمة الجسيمة بعد أن أنصرف زملائي الآخرين لواجب أخر . لقد تفرقوا في أرجاء المعمورة .. في المغرب ، والأندلس ، ومصر ، والشام ، والقسطنطينية ليحكوا لأهالي تلك البلاد عن أبشع جريمة قام بها المغول والتتر في بغداد .. ولكون الجسد معرضا للنهب والسرقة حتى بعد الموت وبعد التحنيط .. قمنا بتحنيط اللسان واخترنا أفضل طريقة للتحنيط المستخدم عند الإخوة المصريين و أبتكرنا طريقة نحفظ فيها اللسان المحنط من الضياع.. ونظمنا الطريقة التي استخدمت لتداول القطعة من شخص إلى أخر .. إلى أن يحصل المطلوب .. نعم، لقد لفقنا طريقة وكلاما نوهم به أي شخص تسول له نفسه أن ينهب القطعة أو يرفض تسلمها ولفقناها بطريقة صدقها الجميع .. إنها قطعة عادية لا تضر ولا تنفع لكنها مجرد لسان محنط .. لسان الحق المبين الذي ينطق بالحق والصدق .

سيكشف الحقائق وينقل الوقائع و الأحداث بكل تفاصيلها ومجرياتها ...
إذا ظهر هولاكو ثانية ، وسيظهر ، أو يظهر أحفاد له .. أقتلوه ، اقتلوا كل أحفاده .. اقتلوا كل شبيه به .. هولاكو المجرم السفاح الذي دمّر وخرّب وقتل مدة أربعين يوما في بغداد .. لقد عمل السيف في أهل بغداد، وقتل الرجال والنساء والصبيان والأطفال، حتى قيل أن عدد القتلى زاد على ثلاثين إلف نفس عدا عن ألفين من الغلمان .. ومن هلك في القني والآبار وسراديب الموتى جوعا ، وعطشا ، ووقع الوباء فيمن تخلف بعد الواقعة من شم روائح القتلى وشرب الماء الممتزج بالجيف وكثرة الذباب .. لقد مال المغول على بغداد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشباب ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش وقنى الوسخ وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون .. وكان الجماعة من الناس يجتمعون في الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فيفتحها التتر أما بالكسر وأما بالنار ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطح حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة ، وكذلك في المساجد والجوامع .. ولم يكتف هولاكو ولا جنده المغول والتتر بالقتل ونهب البيوت وحرقها وحرق الكتب أو إلقائها في الأوحال والبرك ونهر دجلة أنما أمر هولاكو قواده وجنده بمداهمة المساكن واستباحة مدينة بغداد بكاملها وقتل وذبح كل من يجدونه واختطاف النساء وسبيهن عذرا وات أو عازبات أو متزوجات أو مترملات ، محصنات أو غير محصنات ، فالكل سواء نساء عربيات يلدن رجالا عربا..
فيا أهالي بغداد الكرام .. أهالي مدينة السلام، ويا أهل العراق ، إن هولاكو الذي مات بعد ثلاث سنوات من جريمته النكراء لم يمت ، بل هو حي لأن روحه الشريرة لا تزال تكره بغداد الجميلة .. وتحنق على أهلها .. هولاكو يبغض حضارة بغداد وأصالتها ومجدها الأزلي.. فإذا ظهر، وسيظهر، أو يظهر أحد من أحفاده أو نسله فأقتلوهم..
اقتلوا هولاكو، أقتلوه، ومزقوه أربا أربا.
كلشان البياتي
كاتبة صحفية عراقية