\
.
.
.
.
فنْجانُ قهْوة فارغ إِلّا مِنْ بِضع قَطَرَاتٍ غفلتْ عنهَا ساعاتُ الأرقِ ؛
كُوبُ شَايِ مُمْتَلِئٍ إِلَى مُنْتَصَفِهِ مَهْجُورٍ مِنْ سَاعَاتٍ عَدِيدةِ ؛ تماماً كهذا الشّارعِ الذي لا تزورهُ سوى الظّلالٌ و لا تسكُنه سوى الذّكرى ...
و أكوامٌ من أوراقٍ و كتبٍ مبعثرةٍ بميزانِ ( العبثِ) على كلِّ ركنٍ كفِيلةٍ لِجعلِ رُؤْيةِ مادَّةِ صُنْعِ الطَّاوِلةِ أَمْراً شِبْهَ مُسْتحِيلٍ ...
هذا ما استقر عليه حال مكتبي فِي لَيْلتِي هذِه !
جلستُ لحظاتٍ أظنّها كانتْ طويلةً على كرسيّ المكْتبِ أتأمّلُ هذه الفوضى العارِمة التي لا أَدري كيفَ حلّت بهذا المكتبِ المسالِمِ و لا متى ؛
باذل جهوداً مستميتة في أنّ أتزحزحَ من مكاني و أرتّب المكان ؛ إلّا أنِّي سرعانَ ما فررتُ ببقايا هشّةٍ من روحِي نحو ذاكِرةٍ صدئةِ أكْثر ممّا يطيقُه بشرٌ.
.
.
.
النّسيانَ نعمةٌ أسبغَ اللهُ بها على كثيرٍ من العبادِ المحظُوظين بيدَ أنِّي للأسفِ لستُ من ضمنهم،
بلْ في كثيرِ من الأحيان أدعو اللهَ مخلِصً أنْ أفيقَ يوماً لأجد أنَّ كلّ البؤر السّوداء في دماغِي قدْ مُحيَتْ للأبدِ و الثُّقُوبِ التِّي شمِلتْ رُوحي رُتِّقتْ ؛ حَتَّى تِلْكَ النّدوبُ المنتشِرةُ على صَفْحةِ هذا القلبِ الذي لازلتُ أكافحُ لحمله في زمنٍ السّواد الأعظمُ فيه تنكّر لقلبِه ؛ انْدمَلتْ !
صعبٌ جدّاً أنْ تجد نفسِك الوحِيدَ الوفيَّ للماضي بأدَقِّ تفَاصيله ؛ في حين أنّ الجميع و بدُونِ استثناء ٍيمْتهِنُونَ النِّسيانَ !
و الأصْعَبُ مِن كلَّ هذا حين تَحْذُو حذوهم و تفْتعِل أَنْتَ الآخر النِّسيان ؛
فَتتعذَّب وقتها مرّتينِ :
الأولى بِسببِ ذاكَ المِهماز الذِي يَلكزُ القلْبَ قبل الذّاكرةِ ليُفيقَها على هشَاشةِ تَصَوُّراتِها و حِلْكةِ المَاضي و سَوادٍ قاتمٍ يتوعَّدُكَ بمزيدٍ مِنَ الْأَسى فِي الغدِِ ...
و الثّانية لأنّكَ وقْتَها لن تَسْتطيع البَوْحَ بأنَّ الذِّكْرى لا تزالُ مُوجِعةً و حيَّةً بيْنَ جَنْبَيْكَ ؛ خَوفاً مِنْ تِلْكَ الأعْيُنِ المغْرورقَةِ المُصابَةِ بِتُخْمةِ ( الأَلمِ) ...فتضْطَرّ َلابْتلاَعِ الغُصَّةِ دُونَ ( آه) !
مُتْعِبٌ جِدّاً أنْ تتألَّمَ بِتُهْمَةِ الحَياةِ مَع سَبْقِ الإِصْرارِ و التَّرصُّدِ ؛ في حِين أنَّ جِنايَتكَ فِي وَاقعِ الأَمْـرِ هي مجِيئُكَ إلى هَذه الحَياةِ مُقمّطاً في كفَنٍ !
قَديماَ قِيلَ (حينَ كانُوا يقْرنُون الأقْوالَ بالأَفْعالِ) :
[ حِين تَبْكِي السَّماءُ تُقِيمُ الأرضُ الأَعْراسَ ]
فما أشبَهَ حَالنا بحَال هذه الأرضِ ، كثيراً من الأحيانِ تجدنا نقيمُ الأفراح لنعيِ الأتراح و ننثرُ الابتساماتِ لسَمـاعِ ( آهٍ) انُطلقَتْ مِلْئَ قلبِ مُنْفَطِرٍ !
لذا تَجِدُني أقولُ ـ أَنا ( بيّاعُ الكَلامِ بشَهادةِ الشُّهودِ) ـ :
الأرضُ لا تّقيم الأفراحََ البتّةَ كما يُوحِي إلينا نظرُنا القاصِر ؛ فكلّ تلك المراسمِ ما هي سوى استجداءات للسّماءِ في أن ترحم الأرض من طوفانٍ قد يذهبُ بها إلى قرار هاويةٍ سحيقة !
نفس تلك الأمطارِ القادرة على إحياء الأرض تستطيع أن تودي بها إلى الحتف من أوسعِ الأبواب !
.
.
.
ينتشِلني صوتُ وقعِ أقدامٍ آتٍ من بعيد من مهاوي التيه ؛
أتفحصُّ ما حولي جيّدا !
لا شيء تغيّر ها هنا؛ كلّ شيء مكسوّ بالفوضى كما كان عليه !
فلكم أحتاجُ إلى لملمةِ روحي أوّلا قبلَ الشّروعِ في ترتيبِ هذا المكتب...
[ يستمرُّ العزف على أوتارِ حزنٍ مقيتٍ ؛ يصكُّ كلَّ الأسماعِ و يشنّف خاصّتي]
*
*
لكلِّ من مرّ ؛ من لم يمرّ و من لن يمرّ _أعطرُ التّحايا _