يقول الله تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ، وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ، كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلمُونَ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 85 ـ 99).
كتب ـ المحرر السياسي:
لطالما عانى العرب والمسلمون آفات إنسانية واجتماعية خطيرة أبرزها المقال في غير مقامه، والجدال في غير موضعه، والنزال في غير موقعه، ولنقس على ذلك ما لا يعد ولا يحصى من مواقف غابت عنها روح المبادرة الحقيقية والنافعة، واختزلت قضايا الحق والخير والعدل في سويعات تنفيس صاخبة مشحونة بالعواطف المحمومة، وأحيانًا المنفلتة عن كل قاعدة أخلاقية، والتي قد تتحول فيها دفة الأمور إلى حيث لا تحتسب ريح الأحداث بضررها الذي يذهب بالنزر اليسير من نفعها، وفي المقابل يستثمر (الآخر) تجاوزات (إن لم نقل سقطات) تلك السويعات في قلب الحقائق وترسيخ صورة ذهنية بدائية عن سيرة قوم فاتهم قطار التاريخ، وتذيلوا موكب الحضارة الإنسانية!!
ولعل الصدق مع النفس، يقتضي الإقرار بأن ما تشهده أمتنا من غضب جارف وجامح بعد تكرار الإساءات مؤخرًا للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، قد تم توجيهه إلى ما لا ينبغي أن يكون عليه الغضب النبيل من خير أمة أخرجت للناس، بعد أن انقلبت حمم الغضب خلال التظاهرات والمسيرات السلمية إلى كرات لهب تحرق أيادي الغاضبين وتجعل من هبتهم لنصرة نبيهم الكريم محفلًا انتحاريًّا تسيل فيه دماؤهم وتزهق فيه أرواحهم، بل ويأخذ الغضب مداه إلى حد اقتحام مقر البعثات الدبلوماسية الغربية في عدد من الدول وقتل أفرادها، فيما المسيئون الحقيقيون من متطرفي وغلاة الغرب يركنون إلى مقاعد وثيرة في غرفهم المكيفة متندرين ومتاجرين بتلك المشاهد نحو مزيد من التشويه والتشهير، فَلِمَ العجب إذن وقد سلمنا خناجر الطعن بأيدينا ودون عناء؟!!
ومع مشروعية الشجب والإدانة للإساءة لديننا الحنيف ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، بل وازدراء الأديان كافة، بما يمثله ذلك من خروج عن أبسط المبادئ الإنسانية والحريات المدنية (وفق المفهوم الغربي) وهو حق الاعتقاد، فإن حساب النفس يقتضي التساؤل حول أمر قوم كفى الله رسولهم العظيم كل سخرية وإهانة في محكم التنزيل (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين)، ورغم ذلك أصرَّ نفر على إخراج طريقة مواجهة المستهزئين عن سياقها المتحضر المبني على الحكمة والأسلوب المقنع، بل إنهم تسببوا في رد فعل عكسي يتمثل أولًا في تسليط الأضواء على نكرات الإساءات والبذاءات وإبرازها وتحويلها إلى مسرح للشهرة وحديث للربان، وثانيًا التوظيف الغربي لرد الفعل في بناء خطط وأجندات جديدة تجاه الأمة العربية والعالم الإسلامي.
القدر المتيقن من الإنصاف، أن تلك السلوكيات المتشنجة والدخيلة على هذه الأمة السمحة والمتسامحة تسوقها تيارات وأصابع خارجية تسكب الزيت على النار وتتاجر في الغضب والكراهية، لتصرف الأنظار عن حقيقة أن عاطفة الحب للإسلام ونبي الإسلام قد تم توظيفها وجرفها إلى غير مبتغاها، فغطت موجات الصراخ وزهق الأرواح على المبادرات الخلاقة نحو رد نوعي على الإساءة بدفع مادي ضخم ومعنوي حاشد لإنشاء قنوات إعلامية كبيرة أو إنتاج أعمال سينمائية متميزة تطوف العالم لتعرف بحقيقة ديننا الحنيف ورسوله؛ رسول الرحمة، صاحب الرسالة الإنسانية السمحة؛ رسالة الإسلام والسلام، وعاداتنا وتقاليدنا الكريمة، وما أغنى أمتنا بنفطها وكوادرها البشرية التي يمكن توجيهها لهكذا هدف سامٍ، بدلًا من حشد تلك الموارد وتجييشها في بعض فضائياتنا العربية لبث الفتنة والفرقة وتبرير التناحر والاقتتال بين أبناء الوطن الواحد تحت أستار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي في واقع الحال أدوات تمرير المخططات الغربية الدنيئة لتقسيم وتفتيت أوصال عالمنا العربي والإسلامي، ومثال سوريا ليس ببعيد.
لقد آن الأوان أن نقف وقفة حقيقية مع النفس تنظر للحاضر والماضي لتبحث عن المستقبل، وما حديث المستقبل سوى قدر من التفكير العاقل وتحسس مواطئ الأقدام قبل أي خطوة، لحظات فقط ننظر خلالها في مرامي ديننا الحنيف وتقاليدنا الراسخة وواقعنا المعاش، ثم نكتب عقدًا جديدًا لدخول مستقبل نتلقى فيه الاستهزاء باستصغار ونرده صفعات حضارية موجعة تنتصر للدين والوطن بصورة عصرية تنزلنا في منزل أكبر من ردة فعل ندفع أثمانها باهظة.