* FOX *
17 - 01 - 2003, 02:28
إن الرسل الكرام, هم ـ كما يقول الإمام الشهرستاني ـ خيرة الله من خلقه, وحجته علي عباده, وكما يصطفيهم ـسبحانهـ من الخلق قولا بالرسالة والنبوة, يصطفيهم من الخلق فعلا بكمال الفطرة, ونقاء الجوهر, وصفاء العنصر, وطيب الأخلاق, وكرم الأعراق....
ومع أن العقلاء قد اتفقوا علي أن الأنبياء جميعا قد عصمهم الله ـتعاليـ قبل النبوة وبعدها من كل قول أو فعل يتنافي مع الشرف والمروءة والفضائل ومكارم الأخلاق... إلا أن المطالع لبعض كتب تفسير القرآن الكريم, يري أقوالا دخيلة بالنسبة لبعض الأنبياء ـعليهم الصلاة والسلام ـ, كما يري آراء لا أساس لها لا من النقل, ولا من العقل القويم.
2 ـ فمثلا: بالنسبة لآدم ـ عليه السلام ـ جاء قوله تعالى : وعصي آدم ربه فغوي[ سورة طه: الآية121] فظن بعض المفسرين عند تفسيره لهذه الآية الكريمة أن معصيةآدم تشبه معصية إبليس لربه عندما خالف أمره ـتعاليـ وأبي أن يسجد لآدم ـعليه السلامـ, فقد نقل الإمام أبو حيان في تفسيره البحر المحيط جـ6 ص285, أن بعضهم قال في تفسيره لهذه الآية: لا شبهة في أن آدم ـصلوات الله عليهـ لم يمتثل مارسم الله له, وتخطي ساحة الطاعة, وذلك هو العصيان, ولما عصي خرج فعله من أن يكون رشدا وخيرا, فكان غيا لا محالة, لأن الغي خلاف الرشد....
وهناك أقوال أخري حشا بها بعض المفسرين تفسيره, نري من الخير الإعراض عنها, كما نري من الخير ـأيضاـ عرض التفسير الصحيح لهذه الآية فنقول:
محال أن تكون معصية آدم ـ عليه السلام ـ التي وردت في الآية الكريمة, تشبه معصية إبليس, لأن معصية أدم ـعليه السلامـ كانت عن نسيان وضعف في العزيمة, أما معصية إبليس فكانت عن تعمد وإصرار, وعناد وتكبر وغرور وحسد لأدم ـعليه السلامـ.
والذي يقرأ الآيات التي وردت في سورة طه عن هذه القضية يري مصداق ما ذهبنا إليه, فقد افتتحت هذه الآيات بقوله ـتعاليـ: ولقد عهدنا إلي آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما أي: والله لقد عهدنا إلي آدم من قبل أن يخالف أمرنا بألا يأكل من شجرة معينة, فنسي العهد الذي أخذناه عليه, وغاب عن ذهنه ما نهيناه عنه, وهو الأكل من الشجرة, ولم نجد له ثبات قدم في الأمور, يجعله يصبر علي عدم الأكل من الشجرة, بل لانت عريكته, وفترت همته بسبب خديعة الشيطان.
ثم ذكر ـسبحانهـ بعد ذلك الأسباب التي أدت إلي نسيان آدم, وإلي ضعف عزيمته فقال: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي أي: فامتثل الملائكة جميعا لأمر ربهم إلا إبليس فامتنع تكبرا وغرورا.
3 ـ ثم قص علينا ـسبحانهـ ما قاله لآدم بعد امتناع إبليس عن السجود له فقال: فقلنا يا آدم إن هذا أي: إبليس عدو لك ولزوجك بسبب حسده لكما وحقده عليكما فلا يخرجنكما من الجنة فتشقي أي: فاحذرا أن تطيعاه, فإن طاعتكما له ستؤدي بكما إلي الخروج من الجنة فيترتب علي ذلك شقاؤك وتعبك.
وقال ـسبحانهـ: فتشقي ولم يقل فتشقيا كما قال: فلا يخرجنكما, لأن الكلام من أول القصة مع آدم وحده, أو لأن شقاء الزوج يدخل معه شقاء زوجته, كما أن سعادته سعادتها, أو لأنه هو الذي يمرد عليه التعب إذ هو المكلف بأن يقدم لزوجته ما تحتاجه من مطالب الحياة, كالمأكل والملبس والمسكن...
ورحم الله الإمام القرطبي فقد قال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: قوله ـتعاليـ فتشقي يعني أنت وزوجك, لأنهما في استواء العلة واحد. ولم يقل فتشقيا لأن المعني معروف, وآدم هو المخاطب, وهو المقصود. وأيضا لما كان هو المسئول عنها والكاسب لها كان بالشقاء أخص.
ثم قال ـرحمه اللهـ: وفي ذلك تعليم لنا بأن نفقة الزوجة علي الزوج, فمن يومئذ جرت نفقة النساء علي الأزواج, فلما كانت نفقة حواء علي آدم, كانت كذلك نفقات بناتها علي الذكور من بني آدم بسبب الزوجية[ تفسير القرطبي جـ11 ص253].
4 ـ ثم بين ـسبحانهـ ما أنعم به علي آدم في الجنة فقال: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعري. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحي.
أي: قال الله ـتعاليـ لآدم ـعليه السلامـ احذر أن تطيع إبليس فيحل بك الشقاء, وتخرج من الجنة التي لا يصيبك فيها شيء من الجوع, ولا شيء من العري أو العطش, ولا شيء من حر الشمس في الضحي, وإنما أنت فيها متمتع بكل مطالب الحياة الهنيئة الناعمة الدائمة.
قال صاحب الكشاف ـرحمه اللهـ: الشبع والري والكسوة والسكن ـهذه الأربعةـ هي الأقطاب التي يدور عليها كفاح الإنسان, فذكره استجماعها له في الجنة, وأنه مكفي لا يحتاج إلي كفاية كاف, ولا إلي كسب كاسب, كما يحتاج إلي ذلك أهل الدنيا[ تفسير الكشاف جـ3 ص92].
5 ـ ثم بين ـسبحانهـ أن آدم ـعليه السلامـ مع كل هذه الوصايا والتحذيرات تغلب عليه ضعفه البشري, فاستمع إلي وسوسة إبليس, فقال ـتعاليـ: فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك علي شجرة الخلد وملك لا يبلي؟ والوسوسة: هي الخواطر الرديئة التي تجول بفكر الإنسان. أي: فوسوس الشيطان إلي آدم, بأن قال له يا آدم: هل أدلك علي الشجرة التي من أكل منها عاش مخلدا لا يدركه الموت, وصار صاحب ملك لا ينتهي ولا يبلي؟ وشبيهة بهذه الآية ما قصه علينا القرآن الكريم في قوله ـتعاليـ: فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين[ سورة الأعراف: الآيتان21,20].
ثم بين ـسبحانه ـ أن وسوسة إبليس لآدم قد أدت إلي أن يأكل من هذه الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها فقال ـتعاليـ: فأكلا منها أي: فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما ربهما عن الأكل منها فبدت لهما سوءاتهما أي فظهرت لهما عوراتهما, وسميت العورة سوءة, لأن انكشافها يسوء صاحبها ويحزنه, ويجعل الناس تنفر منه.
وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة أي: وشرع آدم وحواء يلصقان علي جسديهما وأعضائهما من ورق الجنة لكي يسترا عوراتهما.
وعصي آدم ربه فغوي أي: وخالف آدم ـعليه السلامـ أمر ربه في اجتناب الأ كل من الشجرة فغوي أي: فأخطأ طريق الصواب, بسبب نسيانه وضعف عزيمته.
قال المحققون من المفسرين: ولكن آدم فيما فعل من الأكل من الشجرة كان متأولا, لأنه ربما اعتقد أن النهي عن الأكل من شجرة معينة لا عن النوع كله...
قالوا: وتسمية ذلك عصيانا لعلو منصبه, وقد قيل: حسنات الأبرار, سيئات المقربين.
كما قالوا: إن الأسباب التي حملت آدم علي الأكل من الشجرة, أن إبليس أقسم له بالله إنه ناصح له, فصدقه آدم ـعليه السلامـ لاعتقاده أنه لا يمكن لأحد أن يقسم بالله كاذبا, والمؤمن غر كريم, والفاجر خب لئيم, كما جاء في الحديث النبوي الشريف.
6 ـ ثم بين ـسبحانهـ جانبا من فضله وكرمه لآدم ـعليه السلامـ فقال: ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدي. والاجتباء معناه: الاصطفاء والاختيار. أي: ثم بعد أن أكل آدم من الشجرة, وندم علي ما فعل هو وزوجته, اصطفاه ربه ـعز وجلـ وقربه واختاره, وقبل توبته, وهداه إلي الثبات عليها, وإلي المداومة علي طاعة خالقه, فقد اعترف هو وزوجته بخطئهما, كما في قوله ـسبحانهـ: قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين[ سورة الأعراف: الآية21].
أي: قال آدم وحواء بعد أكلهما من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها: يا ربنا نلتمس منك المغفرة والرحمة, فقد أنزلنا الضرر والإساءة بأنفسنا بسبب ضعف عزيمتنا ونسياننا لنهيك, وإن لم تغفر لنا ما سلف من خطئنا, وترحمنا بأن تقبل توبتنا, لنصيرن من الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة.
وقد أوحي الله ـتعاليـ إلي آدم ـعليه السلامـ بكلمات, هذه الكلمات كانت السبب في قبول توبته, لأنه داوم علي هدايتها وما ترشد إليه من طاعات, وهذه الكلمات هي قوله ـتعاليـ: فتلقي آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم[ سورة البقرة: الآية37].
والتلقي في الأصل: التعرض للقاء, ثم استعمل بمعني أخذ الشيء وقبوله. تقول: تلقيت رسالة من فلان, أي: أخذتها منه وقبلتها.
والكلمات: جمع كلمة, وهي اللفظة الموضوعة لمعني. وأرجح ما قيل في تعيين هذه الكلمات, ما جاء في الآية التي ذكرناها قبل ذلك وهي قوله ـسبحانهـ: قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
والتوبة في أصل اللغة معناها: الرجوع. وإذا عدي فعلها وهو تاب كان معناها الرجوع عن المعصية إلي الطاعة. وإذا عدي بعلي ـكما في هذه الآيةـ كان معناها قبول التوبة, فالعبد يتوب عن المعصية, واللهـ تعاليـ يتوب علي العبد. أي: يقبل توبته.
وقوله ـتعاليـ: إنه هو التواب الرحيم: وارد مورد التعليل لقوله ـتعاليـ: فتاب عليه.
والتواب: وصف له ـتعاليـ من الفعل تاب, أي: قبل التوبة, وجاء التعبير بصيغة فعال, للإشعار بأنه ـعز وجلـ كثير القبول للتوبة عن عباده, وليدل علي أنه يقبل توبة العبد وإن وقعت بعد ذنب يرتكبه ويتوب منه, ثم يعود إليه بعد التوبة, ثم يتوب بعد العودة إليه توبة صادقة نصوحا.
7 ـ والخلاصة أن الذين يقولون بأي تشبيه بين معصية آدم ـعليه السلامـ ومعصية إبليس لخالقه ـعز وجلـ هم مخطئون...
وذلك لأن معصية إبليس لخالقه ـعز وجلـ كما سبق أن أشرناـ كانت عن جحود وعناد وتكبر وإصرار علي المعصية, أما معصية آدم ـعليه السلامـ فكانت عن نسيان وضعف في العزيمة, ولم تكن عن إرادة وقصد, والله ـتعاليـ بفضله وإحسانه لا يؤاخذ عباده علي الخطأ غير المقصود, أو علي النسيان, متي تاب هؤلاء العباد توبة صادقة يعقبها الندم علي ما سبق من خطأ, والإقلاع عن هذا الخطأ في الحال, وعدم العودة إليه في المستقبل.
وقد فعل آدم ـعليه السلامـ كل ذلك, فقبل الله ـتعاليـ توبته, وغفر له حوبته, واجتباه واصطفاء واختاره لحمل رسالته, وهداه إلي الثبات علي الصراط المستقيم, وأعطاه علما لم يعطه لملائكته, وأمرهم بالسجود له وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم..
http://www.ahram.org.eg/arab/ahram/2003/1/16/SMoSTntawe2ss.jpg
ومع أن العقلاء قد اتفقوا علي أن الأنبياء جميعا قد عصمهم الله ـتعاليـ قبل النبوة وبعدها من كل قول أو فعل يتنافي مع الشرف والمروءة والفضائل ومكارم الأخلاق... إلا أن المطالع لبعض كتب تفسير القرآن الكريم, يري أقوالا دخيلة بالنسبة لبعض الأنبياء ـعليهم الصلاة والسلام ـ, كما يري آراء لا أساس لها لا من النقل, ولا من العقل القويم.
2 ـ فمثلا: بالنسبة لآدم ـ عليه السلام ـ جاء قوله تعالى : وعصي آدم ربه فغوي[ سورة طه: الآية121] فظن بعض المفسرين عند تفسيره لهذه الآية الكريمة أن معصيةآدم تشبه معصية إبليس لربه عندما خالف أمره ـتعاليـ وأبي أن يسجد لآدم ـعليه السلامـ, فقد نقل الإمام أبو حيان في تفسيره البحر المحيط جـ6 ص285, أن بعضهم قال في تفسيره لهذه الآية: لا شبهة في أن آدم ـصلوات الله عليهـ لم يمتثل مارسم الله له, وتخطي ساحة الطاعة, وذلك هو العصيان, ولما عصي خرج فعله من أن يكون رشدا وخيرا, فكان غيا لا محالة, لأن الغي خلاف الرشد....
وهناك أقوال أخري حشا بها بعض المفسرين تفسيره, نري من الخير الإعراض عنها, كما نري من الخير ـأيضاـ عرض التفسير الصحيح لهذه الآية فنقول:
محال أن تكون معصية آدم ـ عليه السلام ـ التي وردت في الآية الكريمة, تشبه معصية إبليس, لأن معصية أدم ـعليه السلامـ كانت عن نسيان وضعف في العزيمة, أما معصية إبليس فكانت عن تعمد وإصرار, وعناد وتكبر وغرور وحسد لأدم ـعليه السلامـ.
والذي يقرأ الآيات التي وردت في سورة طه عن هذه القضية يري مصداق ما ذهبنا إليه, فقد افتتحت هذه الآيات بقوله ـتعاليـ: ولقد عهدنا إلي آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما أي: والله لقد عهدنا إلي آدم من قبل أن يخالف أمرنا بألا يأكل من شجرة معينة, فنسي العهد الذي أخذناه عليه, وغاب عن ذهنه ما نهيناه عنه, وهو الأكل من الشجرة, ولم نجد له ثبات قدم في الأمور, يجعله يصبر علي عدم الأكل من الشجرة, بل لانت عريكته, وفترت همته بسبب خديعة الشيطان.
ثم ذكر ـسبحانهـ بعد ذلك الأسباب التي أدت إلي نسيان آدم, وإلي ضعف عزيمته فقال: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي أي: فامتثل الملائكة جميعا لأمر ربهم إلا إبليس فامتنع تكبرا وغرورا.
3 ـ ثم قص علينا ـسبحانهـ ما قاله لآدم بعد امتناع إبليس عن السجود له فقال: فقلنا يا آدم إن هذا أي: إبليس عدو لك ولزوجك بسبب حسده لكما وحقده عليكما فلا يخرجنكما من الجنة فتشقي أي: فاحذرا أن تطيعاه, فإن طاعتكما له ستؤدي بكما إلي الخروج من الجنة فيترتب علي ذلك شقاؤك وتعبك.
وقال ـسبحانهـ: فتشقي ولم يقل فتشقيا كما قال: فلا يخرجنكما, لأن الكلام من أول القصة مع آدم وحده, أو لأن شقاء الزوج يدخل معه شقاء زوجته, كما أن سعادته سعادتها, أو لأنه هو الذي يمرد عليه التعب إذ هو المكلف بأن يقدم لزوجته ما تحتاجه من مطالب الحياة, كالمأكل والملبس والمسكن...
ورحم الله الإمام القرطبي فقد قال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: قوله ـتعاليـ فتشقي يعني أنت وزوجك, لأنهما في استواء العلة واحد. ولم يقل فتشقيا لأن المعني معروف, وآدم هو المخاطب, وهو المقصود. وأيضا لما كان هو المسئول عنها والكاسب لها كان بالشقاء أخص.
ثم قال ـرحمه اللهـ: وفي ذلك تعليم لنا بأن نفقة الزوجة علي الزوج, فمن يومئذ جرت نفقة النساء علي الأزواج, فلما كانت نفقة حواء علي آدم, كانت كذلك نفقات بناتها علي الذكور من بني آدم بسبب الزوجية[ تفسير القرطبي جـ11 ص253].
4 ـ ثم بين ـسبحانهـ ما أنعم به علي آدم في الجنة فقال: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعري. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحي.
أي: قال الله ـتعاليـ لآدم ـعليه السلامـ احذر أن تطيع إبليس فيحل بك الشقاء, وتخرج من الجنة التي لا يصيبك فيها شيء من الجوع, ولا شيء من العري أو العطش, ولا شيء من حر الشمس في الضحي, وإنما أنت فيها متمتع بكل مطالب الحياة الهنيئة الناعمة الدائمة.
قال صاحب الكشاف ـرحمه اللهـ: الشبع والري والكسوة والسكن ـهذه الأربعةـ هي الأقطاب التي يدور عليها كفاح الإنسان, فذكره استجماعها له في الجنة, وأنه مكفي لا يحتاج إلي كفاية كاف, ولا إلي كسب كاسب, كما يحتاج إلي ذلك أهل الدنيا[ تفسير الكشاف جـ3 ص92].
5 ـ ثم بين ـسبحانهـ أن آدم ـعليه السلامـ مع كل هذه الوصايا والتحذيرات تغلب عليه ضعفه البشري, فاستمع إلي وسوسة إبليس, فقال ـتعاليـ: فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك علي شجرة الخلد وملك لا يبلي؟ والوسوسة: هي الخواطر الرديئة التي تجول بفكر الإنسان. أي: فوسوس الشيطان إلي آدم, بأن قال له يا آدم: هل أدلك علي الشجرة التي من أكل منها عاش مخلدا لا يدركه الموت, وصار صاحب ملك لا ينتهي ولا يبلي؟ وشبيهة بهذه الآية ما قصه علينا القرآن الكريم في قوله ـتعاليـ: فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين[ سورة الأعراف: الآيتان21,20].
ثم بين ـسبحانه ـ أن وسوسة إبليس لآدم قد أدت إلي أن يأكل من هذه الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها فقال ـتعاليـ: فأكلا منها أي: فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما ربهما عن الأكل منها فبدت لهما سوءاتهما أي فظهرت لهما عوراتهما, وسميت العورة سوءة, لأن انكشافها يسوء صاحبها ويحزنه, ويجعل الناس تنفر منه.
وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة أي: وشرع آدم وحواء يلصقان علي جسديهما وأعضائهما من ورق الجنة لكي يسترا عوراتهما.
وعصي آدم ربه فغوي أي: وخالف آدم ـعليه السلامـ أمر ربه في اجتناب الأ كل من الشجرة فغوي أي: فأخطأ طريق الصواب, بسبب نسيانه وضعف عزيمته.
قال المحققون من المفسرين: ولكن آدم فيما فعل من الأكل من الشجرة كان متأولا, لأنه ربما اعتقد أن النهي عن الأكل من شجرة معينة لا عن النوع كله...
قالوا: وتسمية ذلك عصيانا لعلو منصبه, وقد قيل: حسنات الأبرار, سيئات المقربين.
كما قالوا: إن الأسباب التي حملت آدم علي الأكل من الشجرة, أن إبليس أقسم له بالله إنه ناصح له, فصدقه آدم ـعليه السلامـ لاعتقاده أنه لا يمكن لأحد أن يقسم بالله كاذبا, والمؤمن غر كريم, والفاجر خب لئيم, كما جاء في الحديث النبوي الشريف.
6 ـ ثم بين ـسبحانهـ جانبا من فضله وكرمه لآدم ـعليه السلامـ فقال: ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدي. والاجتباء معناه: الاصطفاء والاختيار. أي: ثم بعد أن أكل آدم من الشجرة, وندم علي ما فعل هو وزوجته, اصطفاه ربه ـعز وجلـ وقربه واختاره, وقبل توبته, وهداه إلي الثبات عليها, وإلي المداومة علي طاعة خالقه, فقد اعترف هو وزوجته بخطئهما, كما في قوله ـسبحانهـ: قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين[ سورة الأعراف: الآية21].
أي: قال آدم وحواء بعد أكلهما من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها: يا ربنا نلتمس منك المغفرة والرحمة, فقد أنزلنا الضرر والإساءة بأنفسنا بسبب ضعف عزيمتنا ونسياننا لنهيك, وإن لم تغفر لنا ما سلف من خطئنا, وترحمنا بأن تقبل توبتنا, لنصيرن من الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة.
وقد أوحي الله ـتعاليـ إلي آدم ـعليه السلامـ بكلمات, هذه الكلمات كانت السبب في قبول توبته, لأنه داوم علي هدايتها وما ترشد إليه من طاعات, وهذه الكلمات هي قوله ـتعاليـ: فتلقي آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم[ سورة البقرة: الآية37].
والتلقي في الأصل: التعرض للقاء, ثم استعمل بمعني أخذ الشيء وقبوله. تقول: تلقيت رسالة من فلان, أي: أخذتها منه وقبلتها.
والكلمات: جمع كلمة, وهي اللفظة الموضوعة لمعني. وأرجح ما قيل في تعيين هذه الكلمات, ما جاء في الآية التي ذكرناها قبل ذلك وهي قوله ـسبحانهـ: قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
والتوبة في أصل اللغة معناها: الرجوع. وإذا عدي فعلها وهو تاب كان معناها الرجوع عن المعصية إلي الطاعة. وإذا عدي بعلي ـكما في هذه الآيةـ كان معناها قبول التوبة, فالعبد يتوب عن المعصية, واللهـ تعاليـ يتوب علي العبد. أي: يقبل توبته.
وقوله ـتعاليـ: إنه هو التواب الرحيم: وارد مورد التعليل لقوله ـتعاليـ: فتاب عليه.
والتواب: وصف له ـتعاليـ من الفعل تاب, أي: قبل التوبة, وجاء التعبير بصيغة فعال, للإشعار بأنه ـعز وجلـ كثير القبول للتوبة عن عباده, وليدل علي أنه يقبل توبة العبد وإن وقعت بعد ذنب يرتكبه ويتوب منه, ثم يعود إليه بعد التوبة, ثم يتوب بعد العودة إليه توبة صادقة نصوحا.
7 ـ والخلاصة أن الذين يقولون بأي تشبيه بين معصية آدم ـعليه السلامـ ومعصية إبليس لخالقه ـعز وجلـ هم مخطئون...
وذلك لأن معصية إبليس لخالقه ـعز وجلـ كما سبق أن أشرناـ كانت عن جحود وعناد وتكبر وإصرار علي المعصية, أما معصية آدم ـعليه السلامـ فكانت عن نسيان وضعف في العزيمة, ولم تكن عن إرادة وقصد, والله ـتعاليـ بفضله وإحسانه لا يؤاخذ عباده علي الخطأ غير المقصود, أو علي النسيان, متي تاب هؤلاء العباد توبة صادقة يعقبها الندم علي ما سبق من خطأ, والإقلاع عن هذا الخطأ في الحال, وعدم العودة إليه في المستقبل.
وقد فعل آدم ـعليه السلامـ كل ذلك, فقبل الله ـتعاليـ توبته, وغفر له حوبته, واجتباه واصطفاء واختاره لحمل رسالته, وهداه إلي الثبات علي الصراط المستقيم, وأعطاه علما لم يعطه لملائكته, وأمرهم بالسجود له وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم..
http://www.ahram.org.eg/arab/ahram/2003/1/16/SMoSTntawe2ss.jpg