كلمة حق
16 - 10 - 2005, 18:05
الحمد لله رب العالمين ، إله الأولين والآخرين ، هو الأول بلا ابتداء ، والآخر بلا انتهاء ، كل
شيء هالك إلا وجهه ، له الحكم وإليه المرجع والمآب .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه
ما فاحت الأزهار ، وما أشرقت الأنوار ، وما تعاقب الليل والنهار ، وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
إن من نظر إلى الدنيا بعين البصيرة لا بعين البصر ، أيقن أن نعيمها ابتلاء ، وحياتها
عناء ، وعيشها نكد ، وصفوها كدر ، وأهلها منها على وجل ، فالدنيا إما نعمة زائلة
أو بلية نازلة أو منية عاجلة أو آجلة .
من اطمأن إليها أقلقته ، ومن ركن إليها ذلته ، ومن وثق بها خانته ، ومن استعان
بها تركته ، ومن استنصر بها خذلته ، ومن فرح بها أحزنته ، ومن أراد منها الوصال
هجرته ، ومن أراد منها القرب أبعدته .
أخي إن من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته ، واشتدت عليه حسراته ، وأي حسرة
على العبد أعظم من أن يكون عمره عليه حجة ، وتقوده أيامه إلى مزيد من الردى والشقوة .
أخي في الله : هل تذكرت الموت وسكراته ؟! وشدة هوله وكرباته ؟!
وشدة نزع الروح منك ؟!
فإن الموت كما قيل أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير ، وقرض
بالمقاريض ، فتفكر يا مغرور في الموت وسكرته ، وصعوبة كأسه ومرارته ، فالموت
لا يخشى أحدا ، ولا يبقى على أحد ، ولا تأخذه شفقة بأحد ، وصدق الله حيث يقول سبحانه :
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت ) آل عمران / 185 ، نعم ( كل نفس ذائقة الموت ) لا فرق
بين نفس ونفس ، لا فرق بين صغير وكبير ، وعظيم وحقير ، وغني وفقير ، فجدير
بمن الموت مصرعه ، والتراب مضجعه ، والدود أنيسه ، ومنكر ونكير جليسه ، والقبر
مقره ، وبطن الأرض مستقره ، والقيامة موعده ، والجنة أو النار مورده ، أن
لا يكون له فكر إلا في ذلك ، ولا استعداد إلا له .
أخي المسلم :
هل تذكرت القبر وظلمته ؟! وضيقه ووحشته ؟ هل تذكرت ذلك المكان الضيق ، الذي
يضم بين جوانبه جثث الموتى من عظيم وحقير ، ومالك ومملوك ، والقبر إما روضة
من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، وإما دار كرامة وسعادة ، أو دار إهانة وشقاوة .
فواعجباً لأهل المعاصي يعلمون أنهم إلى القبر صائرون !
ثم واعجباً لأهل الغفلة والإعراض ، كيف لا ينتبهون من غفلتهم ويستيقظون من
سباتهم ، وهم يعلمون أنهم غداً في بطون اللحود مقيمون ؟!
أخي : هل تذكرت أول ليلة في القبر ؟!
حيث لا أنيس ولا جليس ، ولا صديق ولا رفيق ، ولا زوجة ولا أطفال ، ولا أحبة
ولا أعوان ، ولا أقارب ولا خلان ..
( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) الأنعام / 62 .
فيا أخي الحبيب ! تخيل نفسك بعد ثلاثة أيام وأنت في قبرك وقد جردت
من الثياب ، وتوسدت التراب ، وفارقت الأحباب ، وتركت الأصحاب ، ولم يكن
معك جليس ولا أنيس إلا عملك الذي قدمته في الدنيا ، فماذا تحب أن تقدم لنفسك
وأنت في زمن الإمهال حتى تجده في انتظارك يوم انتقالك إلى دار الجزاء والحساب ؟!
( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ
لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) آل عمران / 30 .
أخي في الله ! هل تذكرت النفخ في الصور ؟! والبعث يوم النشور ؟! وتطاير الصحف !
والعرض على الجبار جل جلاله والسؤال عن القليل والكثير ، والصغير والكبير ، والفتيل
والقطمير ! ونصب الموازين لمعرفة المقادير ! ثم جواز الصراط ، ثم انتظار النداء
عند فصل القضاء ! إما بالسعادة وإما بالشقاء .
أخي : فمثل نفسك وقد بعثت من قبرك مبهوتاً من شدة الصاعقة ، شاخص البصر
نحو النداء ، وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبر ، مفزوعين من شدة النفخ ، ووقفوا
في ذل وانكسار منتظرين بما يقضى عليهم فكيف حالك وحال قلبك ؟!
فتأمل يا مسكين في طول هذا اليوم ، وشدة الانتظار فيه ، والخجل والحياء
من الافتضاح عند العرض على الجبار جل جلاله ، ثم انظر كيف يساقون بعد البعث
والنشور حفاة عراة غرلاً إلى أرض المحشر ، أرض بيضاء قاعاً صفصفا
لا ترى فوا عوجاً ولا أمتا .
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله علية وسلم
" يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصية النقى ليس فيها علم لأحد "
رواه البخاري (6521) ومسلم (6686) .
وقرصة النقي هو الدقيق النقي من الغش والنخال .
قال تعالى : ( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً . وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً )
مريم /85 ، 86 ،
فعندئذ أصبح الغيب شهادة ، والسر علانية ، والمستور مكشوفاً ، والمخبأ
ظاهراً ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا
أهل النار خلود بلا موت .
فيا أخي : هل خلوت بنفسك يوماً فحاسبتها عما بدر منها من الأقوال والأفعال ؟
وهل حاولت يوماً أن تعد سيئاتك وزلاتك ومعاصيك كما تعد حسناتك ؟
بل هل تأملت يوماً في طاعتك التي تفتخر بها وبذكرها فوجدت أن كثيراً منها
مشوباً بالرياء والسمعة وحظوظ النفس ؟
فكيف تصبر على هذه الحال ، وطريقك محفوف بالمكاره والأخطار ؟
وكيف القدوم على الله وأنت محمل بالأثقال والأوزار ؟
قال تعالى
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) الحشر/18 .
وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى
يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وماله من
أين أكتسبه وفيما أنفقه ، وماذا عمل فيما علم " أخرجه الترمذي (7/145) (2416)
وأبو يعلى (9/178) (5271) والطبراني في الصغير (1/269) وغيرهم , والحديث
قواه الألباني بشواهده في "الصحيحة"(946) .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا "
وفي رواية " وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، فإنه أهون عليكم في الحاسب
غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر "
( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ) الحاقة / 18 . أخرجه الترمذي (7/201) .
فحري بك يا عبد الله أن تقف مع نفسك هذه الوقفة ، وتحاسب نفسك هذه
المحاسبة ، فما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار .
كان ميمون بن مهران رحمه الله تعالى يقول : يا معشر الشيوخ ، ما ينتظر من
الزرع إذا ابيض ؟ قالوا : الحصاد ، فنظر إلى الشباب وقال : إن الزرع قد تدركه
الآفة قبل أن يستحصد ، وقبيح بالشباب تأخير التوبة ، وأقبح منه تأخير الشيوخ .
نعم : أخي الكريم ، خذ من صحتك لمرضك ومن فراغك لشغلك ، ومن حياتك لموتك ، ومن
غناك لفقرك ، وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ، فإذا أصبحت فلا
تنتظر المساء ، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وقل لنفسك :
ألا يا نفس ويحك ساعديني ** بسعي منك في ظلم الليالي
لعلك في القيامة أن تفوزي ** بطيب العيش في تلك العلالي
فيا أخي الكريم : هذا شهر رمضان قد أقبل عليك بعد طول غياب ، جاء إليك بالخير
والبشر والبركات ، فيه تتنزل الرحمات ، وتغفر الذنوب والسيئات ، وتقال فيه
العثرات , وتفتح فيه أبواب الجنان , وتغلق فيه أبوب النيران , وتصفد فيه مردة
الشياطين ، فهلا أخذت من رمضان وقفة للمحاسبة ، وفرصة للمصالحة
مع الله ، وفتح صفحة جديدة من صفحات حياتك ، تكون بداية التوجه الصحيح
إلى الله جل جلاله ، فرمضان وقفة للمحاسبة لمن أراد أن يحاسب نفسه
ويسير بها على طريق الجادة .
فيجب عليك أخي الكريم : أن تجلس مع نفسك من حين لآخر وتعقد جلسة محاسبة
مع نفسك ، تحاسبها بداية عن الفرائض ، مثل التوحيد والصلاة والزكاة والصوم
وغير ذلك مما افترضه الله عليك فإن وجدت نقصاً وتقصيراً تداركته ، وبعد ذلك
تحاسب نفسك على ما أنت واقع فيه من المعاصي والذنوب كعقوق الوالدين ، وقطعية
الرحم ، وأكل الربا , والكذب , والغيبة والنميمة , والنظر إلى الحرام ، وارتكاب
الفواحش ، وشرب المحرمات كالدخان والمسكرات والمخدرات ، وغير ذلك من
الكبائر والصغائر التي نهاك عنها المولى جلا وعلا ، فيجب عليك أن تقلع
على الفور ، وتتدارك ذلك بالتوبة والأوبة والرجوع إلى الله والندم من ما قد
جنت يداك ، وعليك أن تكثر من الاستغفار والذكر والدعاء بأن يتوب الله
عليك ، وأن يقبل توبتك ، وتدعوه أن يصرفك عن السوء بما شاء وكيف
شاء ، وتحاسب نفسك كذلك على الغفلة والإعراض عن الله وعن
طاعته ، وتدارك ذلك بالمسارعة في فعل الخيرات والحسنات الماحيات ، وتحاسب
نفسك على حركات الجوارح ، ككلام اللسان ومشي الرجلين ونظر العينين ، وسماع
الأذنين ، وغيرهما من الجوارح .. وتسأل نفسك عند كل كلمة أو فعلة أو حركة ..
ماذا أردت بهذا ؟ ولمن فعلته ؟ وعلى أي وجه فعلته ؟ وما الفائدة من فعله ؟
فهذه الأسئلة تجعلك دائماً أبداً متيقظاً لنفسك آخذاً بخطامها ، وعليك أن تلجم
نفسك بلجام التقوى , حتى تكون من الفائزين
( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) النور/ 52 .
هذا وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
منقول
شيء هالك إلا وجهه ، له الحكم وإليه المرجع والمآب .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه
ما فاحت الأزهار ، وما أشرقت الأنوار ، وما تعاقب الليل والنهار ، وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
إن من نظر إلى الدنيا بعين البصيرة لا بعين البصر ، أيقن أن نعيمها ابتلاء ، وحياتها
عناء ، وعيشها نكد ، وصفوها كدر ، وأهلها منها على وجل ، فالدنيا إما نعمة زائلة
أو بلية نازلة أو منية عاجلة أو آجلة .
من اطمأن إليها أقلقته ، ومن ركن إليها ذلته ، ومن وثق بها خانته ، ومن استعان
بها تركته ، ومن استنصر بها خذلته ، ومن فرح بها أحزنته ، ومن أراد منها الوصال
هجرته ، ومن أراد منها القرب أبعدته .
أخي إن من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته ، واشتدت عليه حسراته ، وأي حسرة
على العبد أعظم من أن يكون عمره عليه حجة ، وتقوده أيامه إلى مزيد من الردى والشقوة .
أخي في الله : هل تذكرت الموت وسكراته ؟! وشدة هوله وكرباته ؟!
وشدة نزع الروح منك ؟!
فإن الموت كما قيل أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير ، وقرض
بالمقاريض ، فتفكر يا مغرور في الموت وسكرته ، وصعوبة كأسه ومرارته ، فالموت
لا يخشى أحدا ، ولا يبقى على أحد ، ولا تأخذه شفقة بأحد ، وصدق الله حيث يقول سبحانه :
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت ) آل عمران / 185 ، نعم ( كل نفس ذائقة الموت ) لا فرق
بين نفس ونفس ، لا فرق بين صغير وكبير ، وعظيم وحقير ، وغني وفقير ، فجدير
بمن الموت مصرعه ، والتراب مضجعه ، والدود أنيسه ، ومنكر ونكير جليسه ، والقبر
مقره ، وبطن الأرض مستقره ، والقيامة موعده ، والجنة أو النار مورده ، أن
لا يكون له فكر إلا في ذلك ، ولا استعداد إلا له .
أخي المسلم :
هل تذكرت القبر وظلمته ؟! وضيقه ووحشته ؟ هل تذكرت ذلك المكان الضيق ، الذي
يضم بين جوانبه جثث الموتى من عظيم وحقير ، ومالك ومملوك ، والقبر إما روضة
من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، وإما دار كرامة وسعادة ، أو دار إهانة وشقاوة .
فواعجباً لأهل المعاصي يعلمون أنهم إلى القبر صائرون !
ثم واعجباً لأهل الغفلة والإعراض ، كيف لا ينتبهون من غفلتهم ويستيقظون من
سباتهم ، وهم يعلمون أنهم غداً في بطون اللحود مقيمون ؟!
أخي : هل تذكرت أول ليلة في القبر ؟!
حيث لا أنيس ولا جليس ، ولا صديق ولا رفيق ، ولا زوجة ولا أطفال ، ولا أحبة
ولا أعوان ، ولا أقارب ولا خلان ..
( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) الأنعام / 62 .
فيا أخي الحبيب ! تخيل نفسك بعد ثلاثة أيام وأنت في قبرك وقد جردت
من الثياب ، وتوسدت التراب ، وفارقت الأحباب ، وتركت الأصحاب ، ولم يكن
معك جليس ولا أنيس إلا عملك الذي قدمته في الدنيا ، فماذا تحب أن تقدم لنفسك
وأنت في زمن الإمهال حتى تجده في انتظارك يوم انتقالك إلى دار الجزاء والحساب ؟!
( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ
لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) آل عمران / 30 .
أخي في الله ! هل تذكرت النفخ في الصور ؟! والبعث يوم النشور ؟! وتطاير الصحف !
والعرض على الجبار جل جلاله والسؤال عن القليل والكثير ، والصغير والكبير ، والفتيل
والقطمير ! ونصب الموازين لمعرفة المقادير ! ثم جواز الصراط ، ثم انتظار النداء
عند فصل القضاء ! إما بالسعادة وإما بالشقاء .
أخي : فمثل نفسك وقد بعثت من قبرك مبهوتاً من شدة الصاعقة ، شاخص البصر
نحو النداء ، وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبر ، مفزوعين من شدة النفخ ، ووقفوا
في ذل وانكسار منتظرين بما يقضى عليهم فكيف حالك وحال قلبك ؟!
فتأمل يا مسكين في طول هذا اليوم ، وشدة الانتظار فيه ، والخجل والحياء
من الافتضاح عند العرض على الجبار جل جلاله ، ثم انظر كيف يساقون بعد البعث
والنشور حفاة عراة غرلاً إلى أرض المحشر ، أرض بيضاء قاعاً صفصفا
لا ترى فوا عوجاً ولا أمتا .
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله علية وسلم
" يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصية النقى ليس فيها علم لأحد "
رواه البخاري (6521) ومسلم (6686) .
وقرصة النقي هو الدقيق النقي من الغش والنخال .
قال تعالى : ( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً . وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً )
مريم /85 ، 86 ،
فعندئذ أصبح الغيب شهادة ، والسر علانية ، والمستور مكشوفاً ، والمخبأ
ظاهراً ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا
أهل النار خلود بلا موت .
فيا أخي : هل خلوت بنفسك يوماً فحاسبتها عما بدر منها من الأقوال والأفعال ؟
وهل حاولت يوماً أن تعد سيئاتك وزلاتك ومعاصيك كما تعد حسناتك ؟
بل هل تأملت يوماً في طاعتك التي تفتخر بها وبذكرها فوجدت أن كثيراً منها
مشوباً بالرياء والسمعة وحظوظ النفس ؟
فكيف تصبر على هذه الحال ، وطريقك محفوف بالمكاره والأخطار ؟
وكيف القدوم على الله وأنت محمل بالأثقال والأوزار ؟
قال تعالى
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) الحشر/18 .
وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى
يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وماله من
أين أكتسبه وفيما أنفقه ، وماذا عمل فيما علم " أخرجه الترمذي (7/145) (2416)
وأبو يعلى (9/178) (5271) والطبراني في الصغير (1/269) وغيرهم , والحديث
قواه الألباني بشواهده في "الصحيحة"(946) .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا "
وفي رواية " وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، فإنه أهون عليكم في الحاسب
غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر "
( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ) الحاقة / 18 . أخرجه الترمذي (7/201) .
فحري بك يا عبد الله أن تقف مع نفسك هذه الوقفة ، وتحاسب نفسك هذه
المحاسبة ، فما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار .
كان ميمون بن مهران رحمه الله تعالى يقول : يا معشر الشيوخ ، ما ينتظر من
الزرع إذا ابيض ؟ قالوا : الحصاد ، فنظر إلى الشباب وقال : إن الزرع قد تدركه
الآفة قبل أن يستحصد ، وقبيح بالشباب تأخير التوبة ، وأقبح منه تأخير الشيوخ .
نعم : أخي الكريم ، خذ من صحتك لمرضك ومن فراغك لشغلك ، ومن حياتك لموتك ، ومن
غناك لفقرك ، وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ، فإذا أصبحت فلا
تنتظر المساء ، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وقل لنفسك :
ألا يا نفس ويحك ساعديني ** بسعي منك في ظلم الليالي
لعلك في القيامة أن تفوزي ** بطيب العيش في تلك العلالي
فيا أخي الكريم : هذا شهر رمضان قد أقبل عليك بعد طول غياب ، جاء إليك بالخير
والبشر والبركات ، فيه تتنزل الرحمات ، وتغفر الذنوب والسيئات ، وتقال فيه
العثرات , وتفتح فيه أبواب الجنان , وتغلق فيه أبوب النيران , وتصفد فيه مردة
الشياطين ، فهلا أخذت من رمضان وقفة للمحاسبة ، وفرصة للمصالحة
مع الله ، وفتح صفحة جديدة من صفحات حياتك ، تكون بداية التوجه الصحيح
إلى الله جل جلاله ، فرمضان وقفة للمحاسبة لمن أراد أن يحاسب نفسه
ويسير بها على طريق الجادة .
فيجب عليك أخي الكريم : أن تجلس مع نفسك من حين لآخر وتعقد جلسة محاسبة
مع نفسك ، تحاسبها بداية عن الفرائض ، مثل التوحيد والصلاة والزكاة والصوم
وغير ذلك مما افترضه الله عليك فإن وجدت نقصاً وتقصيراً تداركته ، وبعد ذلك
تحاسب نفسك على ما أنت واقع فيه من المعاصي والذنوب كعقوق الوالدين ، وقطعية
الرحم ، وأكل الربا , والكذب , والغيبة والنميمة , والنظر إلى الحرام ، وارتكاب
الفواحش ، وشرب المحرمات كالدخان والمسكرات والمخدرات ، وغير ذلك من
الكبائر والصغائر التي نهاك عنها المولى جلا وعلا ، فيجب عليك أن تقلع
على الفور ، وتتدارك ذلك بالتوبة والأوبة والرجوع إلى الله والندم من ما قد
جنت يداك ، وعليك أن تكثر من الاستغفار والذكر والدعاء بأن يتوب الله
عليك ، وأن يقبل توبتك ، وتدعوه أن يصرفك عن السوء بما شاء وكيف
شاء ، وتحاسب نفسك كذلك على الغفلة والإعراض عن الله وعن
طاعته ، وتدارك ذلك بالمسارعة في فعل الخيرات والحسنات الماحيات ، وتحاسب
نفسك على حركات الجوارح ، ككلام اللسان ومشي الرجلين ونظر العينين ، وسماع
الأذنين ، وغيرهما من الجوارح .. وتسأل نفسك عند كل كلمة أو فعلة أو حركة ..
ماذا أردت بهذا ؟ ولمن فعلته ؟ وعلى أي وجه فعلته ؟ وما الفائدة من فعله ؟
فهذه الأسئلة تجعلك دائماً أبداً متيقظاً لنفسك آخذاً بخطامها ، وعليك أن تلجم
نفسك بلجام التقوى , حتى تكون من الفائزين
( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) النور/ 52 .
هذا وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
منقول