المناضل
10 - 04 - 2005, 03:48
فى الرابع من فبراير عام 1987، روى الكاتب الكبير الراحل صالح مرسى قصته مع أدب الجاسوسية، وكيف ظهرت إلى الوجود قصته الخالدة عن عميل المخابرات رأفت الهجان. كانت القصة مثيرة، وكان الكاتب الكبير حسبما يقول قد قرر وقتها أن يتوقف عن كتابة هذا النوع من الأدب، لولا لقاء بالمصادفة جمعه بشاب لطيف من ضباط المخابرات المصرية أخذ يلح عليه وبشدة أن يقرأ ملخصا لعملية من عمليات المخابرات، ويقول صالح مرسى أصررت على الرفض وأصر هو على الإلحاح على مدى ثلاثة أشهر كاملة. تحت الإلحاح قرر صالح مرسى أن يقرأ القصة.ذات ليلة حمل الدوسيه الذى يحوى تفاصيلها إلى غرفة نومه وشرع فى القراءة. ويقول الكاتب الكبير عن تلك الليلة: عادة لا أحمل معى إلى غرفة نومى إلا الجرائد والمجلات لكنى قبل أن استريح قليلا من القيلولة وقعت عيناى على الدوسيه، وبدأت اقرأه ولم أشعر بنفسى حتى دخلت زوجتى الحجرة وفوجئت بدموعى تتساقط. يومها تساءلت زوجته فى لهفة عن السبب؟ رد مرسى قائلا: إنت فاكرة إنك متجوزة راجل، وإن اللى حوالينا دول رجالة؟ هناك رجالة لهم طعم تانى خالص، وهناك رجالة نوعيات مختلفة. وكان صالح مرسى محقا إلى حد كبير، فالرجل الذى يضع رقبته تحت المشنقة لمدة 20 عاما ويعيش داخل إسرائيل وهى لا تعرف أنه مصرى، ويموت فيها وهى لا تعرف عنه شيئا، أقل ما يقال عنه إنه اسطورة.
ثم انتقلت إلى صفحة أخرى جعلت قلبى يقفز من مكانة!! فقد وجدت فيها اخطارا بنية العدوان الثلاثى على مصر قبل وقوعه بثلاثة أيام، وكانت المعلومات الواردة به عن الخطة والتآمر أقرب ما يمكن لما وقع بالفعل بصورة تدعو إلى الدهشة والإعجاب، وهنا أصبح الأمر شخصيا بالنسبة لى، فقد كنت أحد ضحايا هذا العدوان كمصاب وأسير، كان الوقت فى الهزيع الأخير من الليل وأنا مازلت اتنقل بين صفحات الملف على قلة عددها وقد انتابنى الكثير من الهواجس والأفكار.
ما حكاية أمر هذا الشخص؟ إن الملف لا يعطى صورة أكثر من أنه مصرى مسلم تم زرعه حسب تعبيرات المخابرات بشكل ما فى أرض الأعداء، وليس هناك أية تفاصيل.. كيف يعيش؟ كيف يزاول عمله، كيف يؤمن نفسه؟ أسئلة لاشك إجابتها عند شخص ما. ولكن كيف اقتنع بأنه جبان كما وصفه النموذج، وقد ارتضى أن يعيش فى أرض عدو يعلم الله وحده ماذا سيفعل به إذا وقع؟.. وكيف اقتنع بأنه لا يسعى إلى المعلومات ويكتفى بسماع الشائعات، وقد حصل على خطة العدوان بما لا يمكن أن ينزل إلى مستوى الشائعات؟
ويتدخل الجانب الشخصى فى الموضوع.. كيف لم تستعد الدولة منذ هذا الاخطار الغريب بما يجنبها العدوان وبالتالى كان يمكن أن يجنبنى الأسر؟
وكان الفجر قد لاح، وزاد من اندماجى فى هذه الأفكار ذلك الهدوء الشامل الذى يعم المكان، فقد كنا نزاول العمل من فيلا منعزلة فى إحدى الضواحى الزراعية لمدينة القاهرة وهو ما يطلق عليه بتعبير المخابرات المنزل الآمن وذلك إمعانا فى الأمن وتعويد جميع الأفراد على السرية والكتمان. كنت شبه شارد الفكر وأنا أنظر إلى عينى ذلك الشخص فى الصورة المثبتة على النموذج، وكأن شبح الابتسامة على شفتيه يدعونى إلى التعارف، عندما نبهنى صياح الديوك فى المزارع فى الصباح وخروج الفلاحين لمباشرة أعمالم، ولا شك أنه سيكون لى مع بعضهم حديث شيق، فأويت إلى فراش بسيط فى غرفة مجهزة لذلك، وبين النوم واليقظة ظلت تتوارد على رأسى فيما يشبه الأحلام أفكار شتى عن العمل السرى داخل أرض العدو..
نشاط حذر يقظ.. اتصالات سرية محكمة.. رجل وحيد فى خضم المخاطر.. عيون مضادة تراقب.. حرص شديد واجب.. اكتشاف افتضاح اعتقال.. تعذيب.. اعتراف.. مشنقة.. ثم تنقلب الصورة فتتوارد الأفكار المتفائلة.. تطوير.. انتشار.. شبكات.. لحسابنا فى مختلف الميادين، سيل من المعلومات، العدو أمامنا ككتاب مفتوح.. معركة.. انتصار.. ولكنى فى الصباح تلقيت صدمة مخيبة لكل آمالى.. توجهت إلى محمد كساب، رئيسى المباشر، وقد تأبطت الملف وجهزت نفسى بالعديد والبديل من مقترحات لدفع هذه العملية وتطويرها، ولكن من ما إن بدأت الحديث معه حتى بادرنى قائلا:
- آه.. إنها تلك العملية الفاشلة التى نريد وضع وحد لها وانهاءها بأنسب الطرق واعادة هذا الشاب إلى مصر وقطع صلتنا به.
-.........
- أعلم ذلك ولكنها مرة وحيدة لم تتكرر ولم يحدث بعدها أن وافانا بأية معلومات ذات قيمة.
-............
- كلا.. كلا.. إنه جبان لا يرجى منه مثل ما تتصور ومن الخطأ أن نعول عليه.
-...........
- بالعكس.. إنه أنانى لا يفكر إلا فى تأمين نفسه، وطماع لا يمل طلب النقود..
-..........
- لا.. لا... فهو من نوعية فاسدة وقد جبل على الالتواء ولا سبيل إلى اصلاح أمره خاصة وهو متمرس فى الانحراف وليس بالحدث الصغير.
-.........
- لا داعى لأن تضيع وقتك فى عملية فاشلة، وبدلا من ذلك فكر فى خطة لإنهائها ووضع حد لعلاقتنا به.
-........
- أعلم أن الملف قاصر لا يفيد، ولكن يمكنك أن تستعين بمعلومات الزميل محسن ممتاز، فهو الذى قام بتجنيده وارساله إلى هناك ويعلم كل شيء عنه.
البحث عن محسن ممتاز:
لم أكن قد قابلته بعد، فقد كان فى مهمة طويلة الأمد خارج البلاد بدأت قبل التحاقى بهذا العمل، ولكن وصوله كان منتظرا خلال أيام ليمضى فترة قصيرة بالقاهرة يعود بعدها لمزاولة عمله ولكننى كنت قد سمعت الكثير عنه وعرفت بعض صفاته... ذكى... جريء.. قوى الشخصية.. متطرف فى وطنيته.. سخى البذل فى عمله... شديد الايمان برسالته.. صريح.. صعب المراس!!
وقررت أن أترك هذا الأمر لحين بحثه معه لدى حضوره، خاصة أننى شعرت فى حديث محمد كساب بنغمة تحامل واضحة. وقد حدث فى تلك الأثناء أن نقل كساب إلى عمل آخر، وحل محله الزميل حسن القطان المعروف بالذكاء الهادئ العميق، ولما ناقشته فى الأمر أيد فكرة بحث الموضوع مع محسن ممتاز، وإن كان قد أبدى ميلا طفيفا نحو آراء محمد كساب.
تأثرت بشخصية محسن ممتاز بعد دقائق من بدء مقابلتى الأولى معه.. وما أن فتحت معه الموضوع حتى نظر إلى نظرة جادة سائلا: هل أنت مسئول الآن عن هذه العملية؟ ولما أجبته بالايجاب بادرنى سائلا: وماذا فعلت بها حتى الآن؟ وماذا تنوى أن تفعل؟
فقلت له إنى لم أعمل بها أى شيء لسببين، أولهما هو حداثة احتكاكى بها، وثانيهما أننى أكاد لا أعرف عنها شيئا لخلو الملف من المعلومات اللازمة عنها ولعل حديثى مع محسن ممتاز قد كشف له عن تلهف واهتمام من جانبى ينبئان بأننى قد أدفع بهذه العملية فى اتجاه مضاد للاتجاه الذى ساد فى تلك الآونة لوقف العملية، وكان ذلك ما دفعه إلى الاسترسال معى فى سرد طويل عبر عدة جلسات لم يحجب فيها أية تفاصيل مهما قلت أهميتها، ولم يبخل بالخبرات والدروس التى اكتسبها خلال ممارسته لهذه العملية، وإزاء حماسه النابع من كونه صاحب أصل هذه العملية ومنشئها من العدم، جلست منه مجلس التلميذ من الأستاذ، وانتقل الحماس منه إلى بما جعلنى أنا الآخر، ودون أن أدرى، عنصرا من عناصر هذه العملية وأحد مكوناتها.
نهاية لجزء أول من القصة:
كانت تلك هى المقدمة والفصل الأول بخط يد عبدالعزيز الطودى المتخفى باسمه عزيز الجبالى الذى راح يروى على مدى عشرة فصول مخطوطة وعلى 208 ورقات فلوسكاب ما حدث على مدى ما يقرب من عشرين عاماً.
أنظر إلى عمر عبدالعزيز الطودي وألح عليه بأن مصر ولادة أشد على يديه قبل أن أمضى وأقول.. تصبح على نصر.
*...........
كان يعشق مصر، عرفته منذ عشرات السنين، أدى واجبه ولم يمل لحظة من العطاء، فاستمر كى يعرف الجيل الحالى والقادم من هى مصر ومن هم المصريون إذا ما هيئت لهم الأرض، هذا ما ذكره لى عمر حجاج.
وهكذا بدأت رحلة الكاتب الكبير رأفت الهجان. لم يكن الأمر سهلا، وإذا كانت المشكلة الأولى حسبما يقول صالح مرسى تتمثل فى اقناع الرجل الذى رافق رأفت الهجان خلال رحلته الطويلة بأن أكتب القصة بأسلوبى أنا، وبإعادة خلق فنى جديد لها على أن ينتمى هذا العمل لى وقد كان ذلك من أصعب ما يمكن لأن ذلك معناه أن انتزع ابنه منه لأنسبه إلى. لقد كان الأب هو عبدالعزيز الطودى المتنكر تحت اسم عزيز الجبالي والابن هو الدموع الخمس باسم رأفت الهجان.
نقطة تصلح للبداية
مساء 18 سبتمبر المنصرم كان مسجد الشاذلية الحامدية يضج بالمعزين من مختلف السحنات، لكن العجائز من الحضور كان باستطاعتهم أن يميزوا جيدا أن أغلب الحضور رجال مخابرات سابقون قدموا لمصر فى الزمن الجميل، ووضعوا مصائرهم فداء لمصر. كان الجميع يشاركون فى وداع عبدالعزيز الطودى الشهير بعزيز الجبالى. ولد الطودى فى 3 نوفمبر من عام 1932، ومن السعدية الثانوية التحق بالكلية الحربية عام 1951 ليتخرج فيها عام 53 ليلتحق بمدرسة مدفعية الميدان من يونيو إلى ديسمبر من نفس العام، وليعمل بعدها مدرسا بمدرسة المدفعية من يناير 54 إلى نوفمبر 1955 فى ذلك العام انتقل الطودى إلى دير البلح فى قطاع غزة ثم إلى رفح ومنها إلى خان يونس ثم غزة فى 15 يونيو 1956 بناء على طلب منه بعد اعتداء إسرائيل على قرى غزة، وقتها استطاع العدو تدمير فرقة مدفعية فصدرت الأوامر باستبدال الفرقة بأخرى ليتقدم عبدالعزيز الطودى. كانت تلك المعركة من أهم المعارك التى ظل عزيز يذكرها بفخر، لقد كان الضابط المصرى الشجاع يملك وقتها أربعة رشاشات فقط لكنه راح يناور بطلقاته حتى ظن العدو أن حجم الأسلحة ضخم للدرجة التى استطاع معها تدمير موقع عوزي الضابط الصهيونى الذى قام بتصميم الرشاش المشهور باسمه. فى 3 نوفمبر من عام 1956 سقط عزيز فى الأسر، لكنه عاد إلى مصر فى يناير من العام 1957 لينتقل بعدها إلى موقعه بالمخابرات العامة الذى استمر به حتى العام 1977. فى العام 1962 استدعى بصحبة زميله على زكى لمكتب السيد سامى شرف ومنه دخلا إلى مكتب الزعيم جمال عبدالناصر ليغلق عليهم الباب كى يتلقيا مهمة الذهاب إلى الجزائر لمساندة أحمد بن بلا، وبالفعل سافرا إلى أوروبا ومنها إلى جبل طارق فى المغرب ومنها إلى الجزائر، وقتها كان محمد أفقير وزيرا للداخلية بالمغرب وكان على علم بمهمة كل من عزيز وعلى زكي إلا أن أجهزة الوزير ظلت ترصد كل تحركاتهما لدرجة الضيق، لكنهما نجحا فى المهمة وعادا ثانية إلى مصر.
بداية أخري
-أين ولدت؟.
-- وأنت مالك.
سأل صالح مرسى بلهفة ورد عبدالعزيز الطودى بخفة ظل معهودة، قبل أن يمتد الحوار بينهما ليروى ضابط المخابرات المصرى الجميل قصة ميلاده بمنزل جده الشيخ إبراهيم الجبالى أحد علماء الأزهر، وكيف مات والده الشيخ محمد حسن الطودى وهو لم يبلغ من العمر أربع سنوات، مما دفع والدته للانتقال إلى منزل والدها الشيخ إبراهيم بمنيل الروضة. فى هذا المنزل القريب من منزل المستشار حسن النشار أخو الرئيس جمال عبدالناصر من الرضاعة ذلك المنزل الذى عاش به عبدالناصر لفترة قصيرة من عمره، كان يذهب خلالها إلى منزل الشيخ إبراهيم لزيارة زميله فؤاد الطودى الذى أصبح فيما بعد واحدا ممن اعتمد عليهم عبدالناصر فى تأميم قناة السويس. تربى عبدالعزيز فى منزل جده حتى تزوج من ابنة خاله محمود جعفر الجبالى مؤسس نظام الضرائب بالمملكة السعودية فى نهاية الأربعينيات، ثم انتقلت الأسرة إلى منزل الخال بالمهندسين لينجب عبدالعزيز هناك عمر مؤلف وعازف موسيقى وهبة.
ثم انتقلت إلى صفحة أخرى جعلت قلبى يقفز من مكانة!! فقد وجدت فيها اخطارا بنية العدوان الثلاثى على مصر قبل وقوعه بثلاثة أيام، وكانت المعلومات الواردة به عن الخطة والتآمر أقرب ما يمكن لما وقع بالفعل بصورة تدعو إلى الدهشة والإعجاب، وهنا أصبح الأمر شخصيا بالنسبة لى، فقد كنت أحد ضحايا هذا العدوان كمصاب وأسير، كان الوقت فى الهزيع الأخير من الليل وأنا مازلت اتنقل بين صفحات الملف على قلة عددها وقد انتابنى الكثير من الهواجس والأفكار.
ما حكاية أمر هذا الشخص؟ إن الملف لا يعطى صورة أكثر من أنه مصرى مسلم تم زرعه حسب تعبيرات المخابرات بشكل ما فى أرض الأعداء، وليس هناك أية تفاصيل.. كيف يعيش؟ كيف يزاول عمله، كيف يؤمن نفسه؟ أسئلة لاشك إجابتها عند شخص ما. ولكن كيف اقتنع بأنه جبان كما وصفه النموذج، وقد ارتضى أن يعيش فى أرض عدو يعلم الله وحده ماذا سيفعل به إذا وقع؟.. وكيف اقتنع بأنه لا يسعى إلى المعلومات ويكتفى بسماع الشائعات، وقد حصل على خطة العدوان بما لا يمكن أن ينزل إلى مستوى الشائعات؟
ويتدخل الجانب الشخصى فى الموضوع.. كيف لم تستعد الدولة منذ هذا الاخطار الغريب بما يجنبها العدوان وبالتالى كان يمكن أن يجنبنى الأسر؟
وكان الفجر قد لاح، وزاد من اندماجى فى هذه الأفكار ذلك الهدوء الشامل الذى يعم المكان، فقد كنا نزاول العمل من فيلا منعزلة فى إحدى الضواحى الزراعية لمدينة القاهرة وهو ما يطلق عليه بتعبير المخابرات المنزل الآمن وذلك إمعانا فى الأمن وتعويد جميع الأفراد على السرية والكتمان. كنت شبه شارد الفكر وأنا أنظر إلى عينى ذلك الشخص فى الصورة المثبتة على النموذج، وكأن شبح الابتسامة على شفتيه يدعونى إلى التعارف، عندما نبهنى صياح الديوك فى المزارع فى الصباح وخروج الفلاحين لمباشرة أعمالم، ولا شك أنه سيكون لى مع بعضهم حديث شيق، فأويت إلى فراش بسيط فى غرفة مجهزة لذلك، وبين النوم واليقظة ظلت تتوارد على رأسى فيما يشبه الأحلام أفكار شتى عن العمل السرى داخل أرض العدو..
نشاط حذر يقظ.. اتصالات سرية محكمة.. رجل وحيد فى خضم المخاطر.. عيون مضادة تراقب.. حرص شديد واجب.. اكتشاف افتضاح اعتقال.. تعذيب.. اعتراف.. مشنقة.. ثم تنقلب الصورة فتتوارد الأفكار المتفائلة.. تطوير.. انتشار.. شبكات.. لحسابنا فى مختلف الميادين، سيل من المعلومات، العدو أمامنا ككتاب مفتوح.. معركة.. انتصار.. ولكنى فى الصباح تلقيت صدمة مخيبة لكل آمالى.. توجهت إلى محمد كساب، رئيسى المباشر، وقد تأبطت الملف وجهزت نفسى بالعديد والبديل من مقترحات لدفع هذه العملية وتطويرها، ولكن من ما إن بدأت الحديث معه حتى بادرنى قائلا:
- آه.. إنها تلك العملية الفاشلة التى نريد وضع وحد لها وانهاءها بأنسب الطرق واعادة هذا الشاب إلى مصر وقطع صلتنا به.
-.........
- أعلم ذلك ولكنها مرة وحيدة لم تتكرر ولم يحدث بعدها أن وافانا بأية معلومات ذات قيمة.
-............
- كلا.. كلا.. إنه جبان لا يرجى منه مثل ما تتصور ومن الخطأ أن نعول عليه.
-...........
- بالعكس.. إنه أنانى لا يفكر إلا فى تأمين نفسه، وطماع لا يمل طلب النقود..
-..........
- لا.. لا... فهو من نوعية فاسدة وقد جبل على الالتواء ولا سبيل إلى اصلاح أمره خاصة وهو متمرس فى الانحراف وليس بالحدث الصغير.
-.........
- لا داعى لأن تضيع وقتك فى عملية فاشلة، وبدلا من ذلك فكر فى خطة لإنهائها ووضع حد لعلاقتنا به.
-........
- أعلم أن الملف قاصر لا يفيد، ولكن يمكنك أن تستعين بمعلومات الزميل محسن ممتاز، فهو الذى قام بتجنيده وارساله إلى هناك ويعلم كل شيء عنه.
البحث عن محسن ممتاز:
لم أكن قد قابلته بعد، فقد كان فى مهمة طويلة الأمد خارج البلاد بدأت قبل التحاقى بهذا العمل، ولكن وصوله كان منتظرا خلال أيام ليمضى فترة قصيرة بالقاهرة يعود بعدها لمزاولة عمله ولكننى كنت قد سمعت الكثير عنه وعرفت بعض صفاته... ذكى... جريء.. قوى الشخصية.. متطرف فى وطنيته.. سخى البذل فى عمله... شديد الايمان برسالته.. صريح.. صعب المراس!!
وقررت أن أترك هذا الأمر لحين بحثه معه لدى حضوره، خاصة أننى شعرت فى حديث محمد كساب بنغمة تحامل واضحة. وقد حدث فى تلك الأثناء أن نقل كساب إلى عمل آخر، وحل محله الزميل حسن القطان المعروف بالذكاء الهادئ العميق، ولما ناقشته فى الأمر أيد فكرة بحث الموضوع مع محسن ممتاز، وإن كان قد أبدى ميلا طفيفا نحو آراء محمد كساب.
تأثرت بشخصية محسن ممتاز بعد دقائق من بدء مقابلتى الأولى معه.. وما أن فتحت معه الموضوع حتى نظر إلى نظرة جادة سائلا: هل أنت مسئول الآن عن هذه العملية؟ ولما أجبته بالايجاب بادرنى سائلا: وماذا فعلت بها حتى الآن؟ وماذا تنوى أن تفعل؟
فقلت له إنى لم أعمل بها أى شيء لسببين، أولهما هو حداثة احتكاكى بها، وثانيهما أننى أكاد لا أعرف عنها شيئا لخلو الملف من المعلومات اللازمة عنها ولعل حديثى مع محسن ممتاز قد كشف له عن تلهف واهتمام من جانبى ينبئان بأننى قد أدفع بهذه العملية فى اتجاه مضاد للاتجاه الذى ساد فى تلك الآونة لوقف العملية، وكان ذلك ما دفعه إلى الاسترسال معى فى سرد طويل عبر عدة جلسات لم يحجب فيها أية تفاصيل مهما قلت أهميتها، ولم يبخل بالخبرات والدروس التى اكتسبها خلال ممارسته لهذه العملية، وإزاء حماسه النابع من كونه صاحب أصل هذه العملية ومنشئها من العدم، جلست منه مجلس التلميذ من الأستاذ، وانتقل الحماس منه إلى بما جعلنى أنا الآخر، ودون أن أدرى، عنصرا من عناصر هذه العملية وأحد مكوناتها.
نهاية لجزء أول من القصة:
كانت تلك هى المقدمة والفصل الأول بخط يد عبدالعزيز الطودى المتخفى باسمه عزيز الجبالى الذى راح يروى على مدى عشرة فصول مخطوطة وعلى 208 ورقات فلوسكاب ما حدث على مدى ما يقرب من عشرين عاماً.
أنظر إلى عمر عبدالعزيز الطودي وألح عليه بأن مصر ولادة أشد على يديه قبل أن أمضى وأقول.. تصبح على نصر.
*...........
كان يعشق مصر، عرفته منذ عشرات السنين، أدى واجبه ولم يمل لحظة من العطاء، فاستمر كى يعرف الجيل الحالى والقادم من هى مصر ومن هم المصريون إذا ما هيئت لهم الأرض، هذا ما ذكره لى عمر حجاج.
وهكذا بدأت رحلة الكاتب الكبير رأفت الهجان. لم يكن الأمر سهلا، وإذا كانت المشكلة الأولى حسبما يقول صالح مرسى تتمثل فى اقناع الرجل الذى رافق رأفت الهجان خلال رحلته الطويلة بأن أكتب القصة بأسلوبى أنا، وبإعادة خلق فنى جديد لها على أن ينتمى هذا العمل لى وقد كان ذلك من أصعب ما يمكن لأن ذلك معناه أن انتزع ابنه منه لأنسبه إلى. لقد كان الأب هو عبدالعزيز الطودى المتنكر تحت اسم عزيز الجبالي والابن هو الدموع الخمس باسم رأفت الهجان.
نقطة تصلح للبداية
مساء 18 سبتمبر المنصرم كان مسجد الشاذلية الحامدية يضج بالمعزين من مختلف السحنات، لكن العجائز من الحضور كان باستطاعتهم أن يميزوا جيدا أن أغلب الحضور رجال مخابرات سابقون قدموا لمصر فى الزمن الجميل، ووضعوا مصائرهم فداء لمصر. كان الجميع يشاركون فى وداع عبدالعزيز الطودى الشهير بعزيز الجبالى. ولد الطودى فى 3 نوفمبر من عام 1932، ومن السعدية الثانوية التحق بالكلية الحربية عام 1951 ليتخرج فيها عام 53 ليلتحق بمدرسة مدفعية الميدان من يونيو إلى ديسمبر من نفس العام، وليعمل بعدها مدرسا بمدرسة المدفعية من يناير 54 إلى نوفمبر 1955 فى ذلك العام انتقل الطودى إلى دير البلح فى قطاع غزة ثم إلى رفح ومنها إلى خان يونس ثم غزة فى 15 يونيو 1956 بناء على طلب منه بعد اعتداء إسرائيل على قرى غزة، وقتها استطاع العدو تدمير فرقة مدفعية فصدرت الأوامر باستبدال الفرقة بأخرى ليتقدم عبدالعزيز الطودى. كانت تلك المعركة من أهم المعارك التى ظل عزيز يذكرها بفخر، لقد كان الضابط المصرى الشجاع يملك وقتها أربعة رشاشات فقط لكنه راح يناور بطلقاته حتى ظن العدو أن حجم الأسلحة ضخم للدرجة التى استطاع معها تدمير موقع عوزي الضابط الصهيونى الذى قام بتصميم الرشاش المشهور باسمه. فى 3 نوفمبر من عام 1956 سقط عزيز فى الأسر، لكنه عاد إلى مصر فى يناير من العام 1957 لينتقل بعدها إلى موقعه بالمخابرات العامة الذى استمر به حتى العام 1977. فى العام 1962 استدعى بصحبة زميله على زكى لمكتب السيد سامى شرف ومنه دخلا إلى مكتب الزعيم جمال عبدالناصر ليغلق عليهم الباب كى يتلقيا مهمة الذهاب إلى الجزائر لمساندة أحمد بن بلا، وبالفعل سافرا إلى أوروبا ومنها إلى جبل طارق فى المغرب ومنها إلى الجزائر، وقتها كان محمد أفقير وزيرا للداخلية بالمغرب وكان على علم بمهمة كل من عزيز وعلى زكي إلا أن أجهزة الوزير ظلت ترصد كل تحركاتهما لدرجة الضيق، لكنهما نجحا فى المهمة وعادا ثانية إلى مصر.
بداية أخري
-أين ولدت؟.
-- وأنت مالك.
سأل صالح مرسى بلهفة ورد عبدالعزيز الطودى بخفة ظل معهودة، قبل أن يمتد الحوار بينهما ليروى ضابط المخابرات المصرى الجميل قصة ميلاده بمنزل جده الشيخ إبراهيم الجبالى أحد علماء الأزهر، وكيف مات والده الشيخ محمد حسن الطودى وهو لم يبلغ من العمر أربع سنوات، مما دفع والدته للانتقال إلى منزل والدها الشيخ إبراهيم بمنيل الروضة. فى هذا المنزل القريب من منزل المستشار حسن النشار أخو الرئيس جمال عبدالناصر من الرضاعة ذلك المنزل الذى عاش به عبدالناصر لفترة قصيرة من عمره، كان يذهب خلالها إلى منزل الشيخ إبراهيم لزيارة زميله فؤاد الطودى الذى أصبح فيما بعد واحدا ممن اعتمد عليهم عبدالناصر فى تأميم قناة السويس. تربى عبدالعزيز فى منزل جده حتى تزوج من ابنة خاله محمود جعفر الجبالى مؤسس نظام الضرائب بالمملكة السعودية فى نهاية الأربعينيات، ثم انتقلت الأسرة إلى منزل الخال بالمهندسين لينجب عبدالعزيز هناك عمر مؤلف وعازف موسيقى وهبة.