الجزء العاشر : صفاء المرأة الجديدة
اقترب محسن رويدا رويدا من لمى ،كالنمر الذي يريد أن ينقض على فريسته، كانت عيون معلمه الكبير تنظر إليه تحثه على الانقضاض ،عدمإضاعة الوقت، هيا انظر لها بعينين قويتين ،آسرتين، هيا لقد روضتها جيدا لك، هيا ،استغل ضعف قوتها وانقض عليها ، كل ذلك سمعته لمى من عيون أبيها وهي تلاحق محسن وخجله، لا يريد أن يخسر معركته ، كأن ذلك الزواج المدبر خاص به هو بجواد ، وليس محسن ولمى !!تحرك جواد، اقترب من محسن أمسك بيده ، ومشى معه نحو لمى ، الواقفة باستسلام، وكأن الموضوع لا يعنيها ، تنتظر نهاية مسرحية طالت كثيرا ، مسرحية سمجة ،عنيفة ، للأسف الشديد هي بطلتها !!
زغردت الأم مرة أخرى ،باركت وهللت، كل ذلك لتشجيع محسن، أمسك جواد بيدها ، ناولها لمحسن ، الذي أمسك بها بكل ضعف، لأول مرة تلمس يدها يد رجل غريب عنها ، شعرت أن روحها انسلت من يدها ، ماتت تلك اليد فليأخذها ،ظل ممسكا بيدها ويقف صامتا، رفع عينيه ببطء شديد، كانت تنظر إليه باستغراب!!من أنت أيها المحسن الذي قلب ليلي نهارا ؟ من أين جئت وكيف أنتصر عليك؟ رغم ضعفك الظاهر، وجهلك ، وترددك، انتصرت علي وعلى إرادتي ، فعلا إن لله جنودا لا يعلمها إلا هو!!فمن هم جنودك يا محسن، أمك ، جواد، فاطمة، كلهم يعملون من أجلك؟
جلست على تلك الكنبة الكبيرة ، جلس بجوارها ، شمت رائحة غريبة، أهي رائحته ؟؟سمعت أنفاسا متلاحقة أهي أنفاسه؟زفير بشع،وشهيق طويل أبشع !شعرت بقميصه يحتك بثوبها ، كل جسمها نفر من ذلك الشعور ، وبكل هدوء انسحبت قليلا، ظل مكانه!
هناك في الطرف الآخر من الغرفة جلس العصفوران الصغيران جواد وفاطمة، يتضاحكان ويتبادلان أطراف الحديث بحب وشوق، قامت الأم أحضرت قهوة عربية بفناجين مذهبة وألوان غريبة ، صبت القهوة ، شرب والدها وكانه يريد أن يثمل، من أنت يا جواد، أي جواد كاسر أنت، أي امرأة تستطيع ترويضك؟؟أهي فاطمة؟؟ ضحكت ،لقد روضك فورا ، ها أنت شمة وصفاء رقم ثلاثة ، والبقية تأتي،ما سر قوتك؟؟
خيم الصمت الرهيب عليها وعلى محسن ،ظل صامتا ثم تكلم، وتكلم ،لكنها لم تسمع شيئا من حديثه ،بل حتى لم تره ،
بعد مدة طويلة من الزمن ، أحسبها مرت دهرا على لمى ، قامت ، اقتربت من والدها ، نظرت إليها فاطمة ، كالقطة الشرسة بعينين مستنكرتين،ماذا تريدين ؟؟لم تأبه لتساؤل عينيها ، همست لوالدها :أريد أن أنام أشعر بتعب شديد .
سكت جواد، كان في قمة تألقه ،تمنى ليلا لا ينتهي ، يا لليل العشقين القصير ،تبادل النظرات مع خطيبته التي فهمت ،أومأت بعينيها لوالدتها ،
قالت الأم: غرفة الضيوف جاهزة ،للنوم ، تفضل يا أبا عبادة ، ولتنم لمى معي في غرقتي أو غرفة فاطمة ، المنزل كبير ولله الحمد !
شعرت لمى بهلع شديد ، لالالالا صرخت بصوت مخنوق لالالا أريد النوم عندكم دعوني وشأني ، نظرت لوالدها الذي سمع صيحتها ، فقال متداركا ، شكرا شكرا ،ننام هنا، نظر لفاطمة ضاحكا !
خافت لمى ، نوم أين ننام ؟؟أسرعت بإجابة تلك المراة: لننام في منزل خالتي شمة !!
رد جواد بعصبية ، خالتك شمة ؟؟لالا ؟
ردت العجوز:طبعا ناموا هنا ؟؟ما رأيك يا جواد ، بعد أسبوع سيكون الزواج بإذن الله ، فلتناموا عندنا هذه الليلة بل كل ليلة !
ضحك جواد ،احمر وجه فاطمة قال جواد : هذا ما أتمنى وأحلم يا عمتي ،
أسرع محسن :عمي جواد، هناك غرفة للضيوف.
رفضت لمى بإصرار :أريد أن أنام في منزل خالتي شمة ، نظرت لأبيها بإصرار وبلغة العيون، حسنا لقد نفذت لك ما تريد ، نفذ الآن أنت ما أريد أنا !
خاف جواد من تهورها ، شعر بقلق من نظرات عينيها ،لقد صارت تجيد هذا الفن ، الذي هو أستاذ فيه ، أوامر صامتة قوية من عينين صارمتين بلا كلام !!
حسنا حسنا ، تصبحون على خير ،
لحقت فاطمة جواد حتى باب الغرفة ، خرجت لمى تنتظره بالخارج في البرد القارص وبجوارها محسن الذي لا يزال يثرثر بلا صوت ، ظل الزوجين العاشقين فترة داخل الغرفة ، وقفت العجوز بجوار لمى ، أكدت عليها بتناول طعام الغذاء غدا عندنا وأنها لن تسمح لها بالنوم غدا إلا عندهم ،رضيت بذلك أم أبيت !!
بعد دقائق طويلة جدا، خرج جواد ، رتب قميصه جيدا ، أصلح قبته ، وأغلق أزارا الجاكيت الأسود الصوفي الذي يرتديه ،
مشت لمى بطرقات قريتهم الجبلية، الظلام شديد، رافقهم محسن حتى منتصف الطريق،

الجزء الحادي عشر :القرار الصعب
كان طريق العودة لمنزل شمة ،طويلا طويلا، مظلما ،ليل حالك، ريح تعوي، تزمجر، تصيح بوالدها، تعبث بثوبه، لا يأبه لها ، تلفح وجهه ، تضرب بسياط باردة يديه ، عينيه ، بلا فائدة، شعرت لمى أن الكون كلها يثأر لها ،لهزيمتها ، لضعفها، يقاتل معها، ولكن بعد فوات الأوان ، لقد تم لجواد ما أراد ، فارعدي يا بروق، وامطري يا غيوم، وواقصفي يارياح ، اضربي بقوة، حطمي ، زلزلي، فجواد ثابت ،منتصر ، لا يأبه لكل ذلك
مشت لمنزل خالتها مشية المنكسر، كل الكون يمشي معها، ليل طويل أسود حالك يسير بجوارها ، يتبعها، يلحق بها ، ماذا تريد مني أيها الليل، أيتها الريح ، أيتها الغيوم، لقد خسرت معركتي ، وضاع حلمي ، فما أنا بالميتة ، ولا أنا على قيد الحياة، وأي حياة تنتظرني، ؟؟
كان جواد يطير طيرا ، شعرت أنه بات ضخما جدا، يداه قامته، مشيته ، كأنه عملاق ، وهي تسير بجواره، كأنها هباء، غبار، تثيره أقدامه على الأرض، ما أصعب طعم الهزيمة ،ما أمره، تضاءلت لمى ، حتى تلاشت ، فلم تعد تشعر بليل الشتاء ولا برده ولا حتى ريحه .

وصلت العروسان لمى وجواد إلى منزل شمة ، التي كانت بانتظارهم ، فكل أهل القرية لا حديث لهم إلا زواج جواد ولمى !!
استقبلتهم كعادتها ، بكل ترحاب ،همست للمى:ألم أقل لك إنه يفعل دائما ما يريد؟؟نظرت إليها لمى بلا عيون ، بلا نظرات ، لم تكن ترى شيئا ، لا ترى ولا تسمع إلا هزيمتها، تمشي في جنازتها، عويل وصياح قوي يجتاح روحها وقلبها ،لم تكن تتخيل روحا تصيح تبكي، ترثي صاحبها، حتى متى ستبكين يا روحي، حتى متى تصيحين آللآ ن ، تبكين؟؟بعد فوات الأوان !لقد تعبت حتى من بكائك، وهروبك ونواحك، أريد صمتا سكوتا،موتا،يجتاحني ،!!فأي نواح وعويل وبكاء أسمع منك يا خالتي ، لا طاقة لي بذلك !!
صرخ جواد :شمة ابتعدي عن لمى ،إياك أن تسممي لها أفكارها ، لقد انتهى الموضوع ، وتم كل شيء على ما يرام، .!تبسم بسمة الواثق من نفسه ،
شمة/لقد سمعت كل القريةالزغاريد، ما أشبه اليوم بالبارحة يا جواد
رد بضيق شديد: ألا تملين من الحديث عن القديم ؟؟
سكتت شمة لم تعلق ،ردت لمى :خالتي شمة أرجوك أريدأن أنام .
أمسكتها شمة من يدها قالت لها بكل حب وعطف ، تعالي حبيبتي تعالي، لقد جهزت لك فراشك، نظرت لجواد أضافت أنت تعرف أين تنام ،ضحك جواد من كلامها ، طبعا طبعا لم يتغير شيء في المنزل !!
لا تزال غرفته الملكية بسريرها الكبير وفراشه الوثير ، ينتظره ، مشت لمى مع خالتها تجر أقدامها جرا ، ما أن أوت لفراشها ، حتى عادت عينيها تبحلقان في السقف مرة أخرى،
جلست شمة بجوارها ،ربتت على شعرها ، قالت لها أتنامين بثوبك هذا يا حبيبتي؟؟
-لا طاقة لي بتغيير ملابسي يا خالتي أرجوك دعيني.
-حسنا نامي يا صغيرتي ، وغدا يوم آخر ، جديد وأمل جديد!
ضحكت لمى ،غدا يوم آخر آخر؟؟
أجابت : نعم يوم جديد ،

اي يوم آخر يا خالتي، لقد تعبت حتى من الإنتظار! ، وضعت رأسها بين ركبتيها بعد أن قامت بثنيهم معا ،
ردت شمة: آآآآآآآآه يا لمى ، ما أشبه هذه الليلة بليال قديمة عشتها قبل عشرين أو خمسة عشر عاما ، الألم والفرح، القرب والبعد، الشوق والجفاء، كل شيء يشبه بعضه البعض، نحن يا ابنتي من نصنع الفرق، من نصنع كل هذا، من نحول الحب كرها، والشوق جفاء، نحن ،
سكتت شمة ، نظرت لها لمى بعمق شديد ، لم تفهم شيئا، لا تريد أن تفهم شيئا، لكن شمة مصرة على الكلام، عل كلامها هذا يجعل لمى ترتاح، تنام، أم هي التي ترتاح، تثأر لنفسها ، معادلة صعبة، نحن و الأخرون!!
بدأت تحكي لها قصتها ،غاليتي لمى ، أنا انجبت ستة من الأولاد ، وبنتين فقط، منذ صغرك أعتبرك مثل ابنتي تماما ،فرحت بك كثيرا ، قلت لربي، يا إلهي جعلت جواد يتزوج صفاء حتى أرزق أنا ببنت !! دعيني أقص عليك قصتي يا غاليتي
وبدأت تحكي شمة، المرأة الحكيمة الصبورة ،قصة عشقها ، وحبها لجواد، إخلاصها له ، عادت للوراء سنوات عديدة !!
في الطرف الآخر من تلك القرية الجبلية الغافية في أحضان جبال عجلون العالية ،تنام قرية تفوح في شوراعها الضيقة رائحة الزيتون والعنب واللوز وخبز الطابون الذي ينضج على قطع الحصى الحارة في تلك الأفران الطينية فيتشرب ذلك العجين رائحة الطين المحترق،وطعم الحصى ،أي طعم هو ؟ لتخرج تلك الأرغفة مع شروق شمس الجبال القاسية ،لتتلقفها الأيدي الجائعة ،وتغرقها في زيت الزيتون العجلوني، الذي عصرته معاصر جرش الشهيرة، التي تحمل بين حجارتها رائحة تاريخ قديم موغل بالقدم.
وهناك بين البيوت المتناثرة تنام على وسادة ملئت من صوف الأغنام الجبلية القوية، إمرأة جاوز عمرها الثلاثين دموعها تنزل حارة على وجنتيها بصمت مهيب، ،هل تبكي حزنا أم فرحا،خوفا من المستقبل، المجهول، تتحسس بشرتها ،إنها نضرة ندية، مكتنزة صافية،
لتفرحي يا شمة ،ففي شمس الغد تتزوجين ذلك الشاب الذي هو حلم كل فتيات القرية ، ، شاءت قدرة الله أن يتأخر زواجها، لتكون أكثر فتيات القرية حظا، هكذا كانت تقول لنفسها ، لقد تأخر زواجي، عشر سنوات أو أكثر !!حتى يكبر جواد ، هي حكمة الله !!
أصر مجلس الأسرة أو العشيرة على أن تتزوج من جواد ، وأي جواد هذا ، في الثامنة عشر من عمره ويعمل بالجيش الأردني الذي يستقطب خيرة شباب العشيرة خاصة ممن يتميزون بالشجاعة والقوة و، وقد تزوجها بعيد دخوله الجيش حسب العادات القديمة للأسر الأردنية العريقة الموغلة في القدم ،فابن العم لا بد أن يتزوج من ابنة عمه حتى لو كانت تكبره بسنوات عديدة، وهذا ما حصل ،والدها كبير العشيرة ويملك مئات الفدادين من الأرض الخضراء الخصبة، وجوادابن عمها اليتيم الفقير ، فأي حلم تحقق لجواد عند زواجه منها ،
استطاع جواد بشخصيته الآسرة ،أن يملك قلب شمة، ابنة عمه البسيطة، التي رغم بساطتها الشديدة، كانت تتميزبذكاء فطري ، و بجمال أخاذ، ،لم تكن تهتم بتزيين نفسها وارتداء ما يراه جواد أ،ثناء عمله في عمان ، فدراعتها القديمة وجدائل شعرها الأسود الفاحم الناعم،قد تناثرت زهيرات خضراء في وجهها، والتي هي عبارة عن وشم توشم به فتيات العشيرة، طلبا للحسن والجمال، كان جواد ذو حضور آسر ، حديثة يسلب الألباب ، يتكلم في كل المواضيع بعمق وقوة ، كيف لا و هو الذي يعشق القراءة ولولا فقر حالة أهله ووفاة والده وهو صغير ، لأكمل تعليمه فهو من المتفوقين دائما ، عوض جواد ذلك بالانغماس بالقراءة ،لدرجة أن والدته كانت تطلق عليه اسم دودة الكتب ، ينكب عليها ليلا ونهار، لا يعرف متعة غيرها ، اشتهر أمره في قريتهم بكثرة القراءة مما جعل كل رجال العشيرة يحترمونه ويقدرونه ، فبصوته الهادئ ،وملامحه الجادة ،وعيونه الواسعة والتي اكتحلت بأهداب طويلة كثيفة، وأنف أقنى بحدبة بسيطة ، لينفرج فمه عن أسنان كبيرة اصطفت كاللؤلؤ، أما ذقنه فحادة ،مع دقة تقسمها الى قسمين ،ونقطة في الوسط ،وتوسط خده خال أسود في غاية الجمال، فكأن الشاعر العراقي الذي يغني خال ودقة بالحنك من يشتريها كان يعني جوادا ، كان جواد طويل القامة بأكتاف عريضة،
تزوج شمة تلك المرأة البسيطة ، فعشقته وتملك حبه قلبها ، كان في غاية الرومانسية ، ففي غرفتهم كان يغرقها بكلام الحب المعسول الذي قرأه في الكتب من قصص إحسان عبد القدوس وو قصص عالمية مترجمة ،من مرتفعات وذرنج ، ذهب مع الريح ،مجدولين، ،كان يجعل منها امرأة فريدة ،تحسدها كل فتيات العشيرة عليه،أفصحت له عن مكنون قلبها ، خوفها من فارق السن، ضحك من كلامها ، احتضنها بقوة ، قبل يديها ، قال لها : أنت أجمل من كل صبايا العشيرة ،إياك أن تفكري بذلك أبدا ، أنت حبيبتي وعشيقتي ، وأمي وأختي وكل حياتي ، لقد عوض الله يتمي ووفاة أمي وأبي بك !! وفي المقابل كان شديدا ،عصبيا ، عند أي خطأ بسيط تنهال اللكمات والضربات عليها ، فتجلس في زاوية الغرفة، وقد تملكها الخوف مع أولادها ،لا تعرف ما الذي أغضبه فجأة ؟ فإن أخبرته أنها تكلمت مع جارتهم واختلفت معها !!ينهال عليها ضربا بالحزام الأسود حتى يتعب، وإن أخبرته برغبتها في الذهاب لمكان ورفض، وراجعته بكلمة !ينهال عليها بلكمات وضربات حتى يشج رأسها ،كل ذلك كان مغروسا في قلب عبادة ابنها الكبيرو وأخوته الخمسة ، الذي تربوا على الخوف منه وخشيته .
لم يشفع لشمة ابدا استسلامها له ،ظل يبحث بعينيه الآسرتين عن المرأة التي يعشق، ظل يبحث عنها ،شمة تنظر إليه بحزن شديد، ؟؟ تحاول أن تسترجعه لحضنها الدافيء الوفي، ولكن هيهات هيهات، لازال قلب شمة مليئا بحبه ، لكن قلب جواد ، آه من قلبه ،،،،،فقد طار ذلك العصفور عندما اشتد عوده واقترب من الثلاثين ،وهي قد اقتربت من الأربعين ،، شاهد صفاء أثناء قيامه بإنجاز عمل عسكري له في نابلس ،هناك تعرف على شقيقها الذي يكن له كل مودة وحب ،كيف لا فجواد قدم العديدمن الخدمات الإنسانية له ،أثناء وجوده في العاصمة عمان .
وتم الزواج، فقد استطاع جواد أسر قلب صفاء التي كانت في السادسة عشر من عمرها ، بحلو كلامه وعذوبته ورجاحة عقله ، رغم اعتراض والدتها بشدة على غربة ابنتها في تلك القريةالجبلية المتخلفة على حد قولها مقارنة بنابلس ، أخبرهم أنه تزوج من ابنة عمه التي تكبرة بعشر سنوات حسب التقاليد،يريد أن يطلقها لأنه بكل صراحة لم يتزوجها إلا شهامة منه، وقد بلغت الآن أربعين عاما ويشعر أنه يظلمها معه ،وهي أيضا تظلمه ،أسباب وجيه جدا في عرف صفاء،هذا ما زرعه جواد في عقل الشابة الصغيرة المراهقة صفاء بقوة، جعلها تشعرأنها هي من سيعوضه عن الحرمان الذي عاشه ، عن الحب المفقود الذي يبحث عنه،
سمعت شمة بقرار زواجه وأنه سيحضر العروس الجميلة من نابلس،استيقظت شمة فجرا كعادتها أكملت إيقاد نار فرن الطابون ، وانتهت من صف أرغفة الخبز الشهية فوق بعضها البعض ، جهزت دلال القهوة النحاسية وقد عتقت تلك القهوة السوداء الثقيلة الشهية صفت فناجين القهوة في تلك الصينية النحاسية، بدت قاعة الدار الرئيسة في غاية الترتيب والجمال وقد تناثرت الوسائد المحشوة بالصوف والمكسية بالقماش الأحمر الداكن فوق تلك الفرشات المستطيلة ، استيقظ الأولاد الخمسة ، وقد بدو كالأقمار في عينيها فها هو عبادة ،بكرها ذي العشرة أعوام ويجلس بجواره إخوته وأخواته ، إنهم كنوز رائعة ، يكفي أنهم من جواد ، كلما أنجبت غلاما ، كانت تحزن لم لا يشبه جواد تماما، اي حب تملكك يا شمة !! ارتدت فستانا صيفيا ،بوردات حمراء وخضراء بألوان قوية،قد مشطت شعرها الطويل كجديلتين ،وبدى وجهها مضيئا،مع إحمرار رائع لوجنتيها المكتنزتين، ، كانت الأسرة تتناول طعام الإفطار الشهي رغم بساطته، أما شمة فقد كانت بعالم آخر، والأسرة كلها تستعد لاستقبال الأب العائد من نابلس مع عروسه الجديدة والتي ستسكن في غرفة من غرف المنزل ،ولا تعلم أي غرفة؟؟
بدأت ساعات النهار بالمرور ،مع حركة الشمس وظلها على جدار منزلهم ،وتحت ظلال أشجارهم الوارفة انتصف النهار، ولم يحضر جواد، قلبها بدأ يدق ،لم لم يحضر جواد؟؟
خافت عليه، تعال يا جواد حتى لو كنت مع عروسك ،أي شوق يملأ قلبي! وأي لهفة!! وهو الذي سيأتي معانقا تلك الحضرية, لم تأبه لتلك الأفكار السخيفة، المهم عيني ستكتحلان برؤية جواد.
صلت العصر وبدأت بالتسبيح والإستغفار، سمعت جلبة، قامت مسرعة ، كان الأولاد يلعبون تحت ظلال الأشجار الوارفة، دق قلبها بعنف ،شعرت أن الموت الزؤام صار قريبا منها ،أم الحياة تعود إليها ، يا إلهي كيف يكون الموت والحياة شيئا واحدا،!!،قلبها سيتوقف ، لكنه فرح جدا بعودة الحبيب!! كيف أحبه وأكرهه ؟؟،قامت كالفراشة، لم تأبه لخوفها،أسرعت كالصبية الصغيرة ،ما أن رأته حتى ارتفعت زغرودة منها بغير وعي ،وأخذت تزغرد وتزغرد فرحة ،ودموعها تنهمر بلا شعور منها وإرادة .
وقف جواد بقامته العالية المهيبة ،أشعة الشمس تواجهه تقريبا ،زاد ذلك من بهائه و هيبته .
تقدمت منه ، وبدون وعي منها احتضنته، عانقته، عانقها بكل برود، وكأنه يسلم على رجل من عشيرته، لم تهتم، المهم أنها شمت رائحة ملابسه، عرقه،اقتربت منه ،
نظرت للمرأة التي معه، كانت ترتدي فستانا قصيرا ، وقد مشطت شعرها بطريقة لم تشاهدها من قبل، جزء من شعرها للوراء ، وخصلات تنزل على وجهها، فستانها أزرق حريري بخصر رفيع، وله قبة بنية مذهبة، أما أكمامه فكانت منفوشة مثل الفراشة ، ولها زند ضيق، وتحمل بيديها حقيبة جلدية تحمل نفس لون الحذاء ذي الكعب العالي الرفيع ،الذي يصدر صوتا رخيما راقيا كلما مشت!!ملابس لم تعرفها أو تألفها شمة !!
جلست تلك الحضرية ، أسرعت لعمل كأس من عصير الليمون ، بدأ الأولاد بتقديم واجب الولاء والطاعة للأب القادم ،يقبلون يده ويرفعونها لرأسهم مرتين ،بكل خضوع.
نظرات ابنها الكبيرة عبادة تبحلق في الفراغ ، ينظر لأبيه وزوجته ، بحزن شديد، يرقب حركات والدته وهي تجهز القهوة والعصير والطعام من الصباح، تناول العروسان الطعام، كان جواد حريصا على تقديم الطعام لعروسه السعيدة، والتي تشعر بفرج شديد، وهي ترى ضرتها القديمة تقوم بخدمتها، ثم ما لبث منزلهم أن امتلئ بالضيوف من نساء ورجال، قادمين للتهنئة ...............

يتبع ...............