زمان الغواية
القدس.‏
وبصوت مسرحي اعتاده سائق التاكسي الذي ينقل السياح من المطار إلى فنادقهم يقول: هذا الخط يفصل بين القدس المحتلة والقدس العربية ..‏
وتذكرت بكاء جدتي لأن دار عمي تقع خلف الخط، وتمنيت أن لا تكون في الدار كي أجد القدرة على أن أقول لهم إن غازي انتحر!‏
أجدني أغمغم: وإذا تصادف أن دار إنسان ما تقع خلف الخط واشتاقت عجوز إلى رؤيته ..‏
يقول وقد استحال فجأة إلى شخصية مأساوية تخرج من دفتي كتاب أخفيته طويلاً في أظلم ركن في ذاكرتي: يعودون به ورصاصة في صدره..‏
بالضبط لا أدري ما الذي يضرب على وتر منسي في أعماقي. ربما كان مشهد ذلك الفيلم الغريب الذي يلوح بين الغسيل المنشور، ربما كانت الأرصفة التي طالما تعثرت بأحجارها.. ربما كانت رائحة الملح والزيتون في الصخور!‏
لا أعتقد أن نبأ انتحار أخي قد بلغهم بعد، ومع ذلك أدخل الدار، ولا أدري لماذا أحس أنني ارتكبت جريمة بطريقة ما، ولا أتوقع من أحد أن يسارع إلى استقبالي، لذا لم يدهشني أن الوجوه كلها كانت حزينة وباكية، وأن واحداً لم يفُه بحرف واحد. كانوا يرفعون وجوههم إلي واحداً بعد الآخر.‏
بصمت دامع.. أسير في الغرفة محاطة بهذا الموكب المرعب.. لا أدري لماذا تقودني نظراته إلى الداخل .. أحس أن في الداخل مقصلة ويجب أن أدخل وأن أتركها تسقط على عنقي..‏
في الداخل كانت عجوز ممددة على الفراش ورصاصة في صدرها .. جدتي.‏
ولولا الابتسامة التي طالما رأيتها على شفتيها وهي تحمل إلي حلوى في أعياد غابرة لما سألت: لماذا؟ كيف؟ .. لمن كانت تحمل الحلوى هذه المرة؟‏
ربما كان صوت أبي: إلى دار عمك خلف الأسلاك الشائكة.. كل عيد، تغافلنا وتود الذهاب.. وتقول إن الرجال ماتوا والجيل الجديد "مفسود" ولم يبق إلا العجائز!‏
من النافذة أستطيع أن أرى ذلك العلم الغريب بين الغسيل المنشور، إنهم يتابعون حياتهم العادية بسلام ... ونحن .. نحن هناك جدار الرصاص ... ربما كان خيط رفيع من الدماء على التراب بين عتبة دارنا وذلك الجدار ..‏
وأذكر أسطورة من أساطير جدتي .. قالت إن أطفال الغابة لما ضلوا طريقهم، استطاعوا العودة مسترشدين بخيط من الحصى خلفته لهم جنية تحبهم ولا تنسى، وتعرف كل شيء ..‏
المشاهد كلها تغيم، وخيط الدم هذا أراه الآن بوضوح، خيط من الحصى الأرجوانية الثمينة في عتمة الغابة، ممدودة نحو تلك الأرض العتيقة ..‏
لم أدرك كم أحببتك حتى فقدتك !‏
أجل! عرفته جيداً كما لم يعرفه أي إنسان. يا للفجيعة كم عرفته، حتى استعبدتني تلك الومضات المضيئة في إطلالته على الأشياء!‏
إن لم تكن رابطة الحب والحياة، فمن أجل رابطة الموت‏
هجرت مدينتي .. هجرت شمسي .. هجرت سمائي الزرقاء !‏
وكان حازم يحب مدينتنا كما لم يحبها أي إنسان.‏
وكانت أصابعه تكاد تنغرس في ذراعي، وأنا أكاد أنغرس في صدره، والغروب يغرس حرابه في كل شارع وسطح وحقل ونحن نطل عليها من أحد المرتفعات.‏
كان يردد: أعبدها ! أعبدها !‏
- حازم .. أحس بأنني أملك العالم كله .. إني سعيدة !‏
- أحس بأنني جزء من العالم كله . ذلك ما يسعدني‏
إننا نفقد وجهنا حينما تتسخ مدينتنا، ونموت إذا تشوهت أو انتحرت، إننا ندافع عن أطفالنا حينما ندافع عن قيمنا .. إننا ندافع عن أنانيتنا حينما نفتديها..‏
إذا بقيت هنا، سأكون مثله، وسأرضى برجل مثله، ولن أحلم برجال كحازم، ما زال في قلوبهم حرارة الصحراء ونزقها وطهارتها.‏
دقيقة، كانت لها أبعاد أعوام من الغزل المنتظم المخطط له.. أحسسته في تلك اللحظة غالياً حقاً، لأنه هكذا، لأننا هكذا، مازالت لنا موجاتنا التي يبثها أحدنا ويلتقطها الآخر متجاوباً معها، ورغم أحلك الأنواء !‏
إذا بقيت هنا ...‏
ماذا يتبقى مني؟ ماذا تبقى حتى الآن؟‏
لن أصدق ! سيقتلني أن أصدق أن الحقيقة الكبرى فوضى من الوحل الذي يغرق العالم !‏
لماذا، لماذا يحدث هذا دوماً في كل مكان؟‏
لماذا فجأة، تختلط الأشياء والمفاهيم، ويبدأ النزف المرير؟‏
- أنت حازم؟ أنت؟‏
- أجل ! أنا، وكما لم أكن أبداً !‏
- وحازم الذي عرفت !‏
- كان غراً، مثلك !‏
ليس في الحياة حقيقة تستحق أن يموت الإنسان لأجلها ..‏
الوطن هراء ... أية دار دافئة مريحة أملكها هي وطني !‏
والمبادئ ليحكم الأذكياء باسمها، ويموت الأغبياء من أجلها !‏
والشعب طفل غبي، ينادي أيّ سارق يخطف أمه: عمي !‏
والتضحية مصير الخراف في أعياد الجلادين الجياع ...‏
والمدينة مومس بلا ذاكرة ولا قلب، يمتلكها من يحتويها بين ساعديه !‏
- حازم .. وحبنا؟‏
- إنه أحد أغطية الفراش التي نستر بها عن أعيننا حقيقة ما يدور بيننا !‏
المشاركة أسطورة .. الأنانية له العالم . من أجل أنانية مثاليتك، أما كنت تفضلين أن تسمعي بمقتلي عن أن تريني هكذا، وتسمعي ما سمعت؟‏