[frame="1 98"]
الجفري بين متاعب «الحياة».. ومواجع «الكتابة»
(1)
في كثير من الأحيان تبدو الكتابة عن الأشخاص صعبة ومحرجة ومربكة.. خاصة إذا جاءت هذه الكتابة «مديحاً» أكثر مما يجب و«ثناء» أكثر مما ينبغي وذهاباً إلى «الشخصنة» أكثر من ذهابها وغوصها في التقييم والتحليل والدخول في «العمق» لا الوقوف على «السطح»..
إنها الكتابة التي تقف أمام «المنتج» الفكري والثقافي والإبداعي، وتحاول الابتعاد قليلاً عن «شخصنة» الكتابة.. حتى لا تأتي هذه الكتابة مجانية واستهلاكية ومباشرة.
وأمام رحيل الأستاذ الكبير عبدالله الجفري أجد نفسي إزاء رجل تعامل مع الكتابة بعشق بالغ وبمحبة كبيرة لافتة وبإخلاص وصل حد التفاني والفناء.
إنها تلك المسافة بين أن تكون أو لا تكون بين أن تحيا أو أن تموت..
لقد كانت الكتابة تعني للجفري حياة أو موتاً ولقد كان مخلصاً لهذا العذاب الجميل حتى آخر لحظة في حياته.. حتى وهو يدخل زمن الموت.. لقد مات وهو يكتب وتلك هي القيمة الكبرى لمعنى الحياة.. ومعنى الكتابة.
لقد كان يتعب من الكلمة إذا جاءت كالسهم من «أحد» كان في داخله يترمد.. يحترق لذلك يتعب من التعب وتعب من الحياة والناس بالرغم من أنه كتب بحبر القلب من أجل أن تكون الحياة.. حياة أكثر جمالاً وبهاءً والناس أكثر انسانية.. وتحضراً.
(2)
لقد اختلف كثيرون حول إنتاج وإبداع وأدب الجفري وحول «القيمة» التي يحملها هذا الإنتاج وهذا الإبداع وهذا الأدب.. واختلف كثيرون حول ما كتب في المقالة والقصة والرواية وما الذي سوف يبقى من كل ما كتب ولكن اتفق الكل على أنه يمثل «النموذج» و«المثال» للكاتب والمثقف والمبدع الذي آثر أن يكون صديق الكلمة ورفيق الأبجدية وأحد فرسان الكتابة الجديدة الرائدة وأحد الذين زرعوا بذور الإبداع الجديد في حقل الكتابة النثرية في المملكة مع آخرين في الصفحة السابعة في «عكاظ» في زمن رئاسة الأستاذ/ عبدالله خياط.
ومن هنا كان الجفري فارس الكتابة «الرومانسية» لقد كتب بحبر القلب فأشعل في الأبجدية تلك اللغة الجديدة والمختلفة وتحول إلى مدرسة و«ظاهرة» في تاريخ الأدب السعودي.. لقد كان حالماً كبيراً حلم بتغيير الناس والمجتمع لكي يكونوا أكثر انحيازاً للحب وأكثر ممارسة فكراً وسلوكاً لهذا الحب وكان محباً وعاشقاً للجمال والقيم النبيلة والجميلة وتمنى أن تكون الحياة أكثر اخضراراً وازدهاراً،
إنه يكتب بالحبر الأخضر كأنما هو بهذا الفعل -فعل الكتابة- يريد أن يتحول العالم إلى شيء آخر إلى حديقة خضراء من الكلمات والعشق.. والضوء.
(3)
أتذكره الآن.. في هذه اللحظة حيث كنت أراسله من جيزان منذ أكثر من عشرين عاماً وكنت أرسل له بعض ما أكتب في تلك البدايات الأولى.. شعراً ونثراً وكان يتفضل بالرد على رسائلي بتلك الكلمات المحفزة والمشجعة.. ثم بعد ذلك صار يعلق على «بعض» مما أكتب في مقالاته خاصة في فترة كتابته في صحيفتي «الحياة« و«البلاد».. ولقد كنت أذّكره بكل البدايات الأولى كلما جمعتني به «مناسبة» أو التقيت به في «مجلس» الأستاذ محمد سعيد طيب، لقد ظلت علاقتي به تحكمها علاقة الأستاذ والتلميذ، حتى وأنا أجاوره في نفس الصفحة، على اختلاف في الفكر واختلاف في الرؤية، كنت أقول له كلما هاتفته أو التقيته ستبقى أحد الكبار الذين أضاءوا لي دروب الكتابة ومنحوني شيئاً مما هو حميمي.. بعض من حبهم وحبرهم، وأنت في المقدمة من هؤلاء الكبار حقاً.
من «الجدار الآخر» و«حياة جائعة» و«جزء من حلم» إلى «حوار وصدى» و«فقط» وزاويته «ظلال» ظل الجفري غارقاً في أحزانه ومتاعبه في آلامه المغسولة بالعذوبة والعذاب.. وفي قلقه المشتعل وأرقه الطويل والساهر على ما ظل يحلم به ويتمناه وظيفته الكتابة ومهمته زرع سنابل العشق والمحبة والإبداع في أرض الواقع وفي براري الأمل.. والمستحيل أيضاً..
وإذا كان الشاعر الراحل محمود درويش قد دعا إلى «تربية الأمل» فإن الجفري على مستوى خطابنا الأدبي والإبداعي كان داعية «محبة» لا أحد دعاة الحقد والكراهية، وكان أحد رموز الوعي والتنوير.
ماذا يبقى من الجفري كاتباً ومبدعاً؟!..
إنه السؤال الذي ينبغي أن تأتي إجابته عبر قراءة لأعماله وما تركه من آثار أدبية وثقافية وإبداعية ولكي تبقى رسالته في «الحب» هي رسالة إلى كل من يمارسون الكتابة في بعدها الإنساني العميق.. لقد كان الجفري صادقاً مع نفسه ومع الآخرين، وكان وفياً للكتابة حد الموت وحتى حدود وحافة الزمن الأخير.. لقد عاش «حياته» كاتباً «حياته» و«حياة الآخرين» بامتياز.
منقول من جريدة عكاظ
لكاتب المتألق احمد عائل فقيهي
[/frame]
كم كنت أحبك وسوف أظل أحبك
رحمك الله وأدخلك فسيح جناته
وجعل الفردوس الأعلى مثواك
:
:
:
يبقى حرفك نبض لا يموت