تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة التاسعة والخمسين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير لما أمر غلمانه أن ينقلوا البضائع والقماش وكان ذلك يساوي خزائن مال فنقلوا جميع ذلك إلى الدكان وباتوا تلك الليلة فلما أصبح الصباح أخذهما الوزير ودخل بهما الحمام فلما دخلوا الحمام تنظفوا وأخذوا غاية حظهم ، وكان كل من الغلامين ذا جمال باهر فصارا في الحمام على قول الشاعر :
بشرى لقـيتـه إذ لامـسـت يده ........ جسماً تولد بين المـاء والـنـور
ما زال يظفر لطفاً مـن صناعتـه ........ حتى جنى المسك من تمثال كافور
ثم خرجا من الحمام وكان شيخ السوق لما سمع بدخولهما الحمام قعد في انتظارهما وإذا بهما قد أقبلا وهما كالغزالين وقد احمرت خدودهما واسودت عيونهما ولمعت أبدانهما حتى كأنهما غصنان مثمران أو قمران زاهيان فقال لهما :
يا أولادي حمامكم نعيم دائم .
فقال تاج الملوك بأعذب كلام :
ليتك كنت معنا .
ثم إن الاثنين قبلا يديه ومشيا قدامه حتى وصلا إلى الدكان تعظيماً له لأنه كبير السوق وقد أحسن إليهما بإعطائهما الدكان ، فلما رأى أردافهما في ارتجاج زاد به الوجد وهاج وشخر ونخر ولم يبق مصطبراً فأحدق بهما العينين وأنشد هذين البيتين :
يطالع القلب باب الاختصاص به ........ وليس يقرأ فيه مبحث الشركه
لا غرو في كونه يرتج من قول ........ فكم لذا الفلك الدوار من حركه
فلما سمعا هذا الشعر أقسما عليه أن يدخل الحمام ثانياً وكانا قد تركا الوزير داخل الحمام فلما دخل شيخ السوق إلى الحمام ثاني مرة سمع الوزير بدخوله فخرج إليه من الخلوة واجتمع به في وسط الحمام وعزم عليه فامتنع فأمسك بإحدى يديه تاج الملوك وبيده الأخرى عزيز ودخلا به أخرى فانقاد لهما الشيخ الخبيث فحلف تاج الملوك أن لا يحميه غيره وحلف عزيز أن لا يصب عليه الماء غيره فقال له الوزير :
إنهما أولادك .
فقال شيخ السوق :
أبقاهما الله لك لقد حلت في مدينتنا البركة والسعود بقدومكم وقدوم أتباعكم ، ثم أنشد هذين البيتين :
أقبلت فاخضرت لدينا الربا ........ وقد زهت بالزهر للمجتلى
ونادت الأرض ومن فوقها ........ أهلاً وسهلاً بك من مقبل
فشكروه على ذلك ، ومازال تاج الملوك يحميه وعزيز يصب عليه الماء وهو يظن روحه في الجنة حتى أتما خدمته فدعا لهما وجلس جنب الوزير على أنه يتحدث معه ولكن معظم قصده النظر إلى تاج الملوك وعزيز ، ثم بعد ذلك جاء لهم الغلمان بالمناشف فتنشفوا ولبسوا حوائجهم ثم خرجوا من الحمام فأقبل الوزير على شيخ السوق وقال له :
يا سيدي إن الحمام نعيم الدنيا .
فقال شيخ السوق :
جعله الله لك ولأولادك عافية وكفاهما الله شر العين ، فهل تحفظون شيئاً مما قاله البلغاء في الحمام ؟
فقال تاج الملوك :
أنا أنشد لك بيتين وهما :
إن عيش الحمام أطيب عيش ........ غير أن المقام فيه قـلـيل
جنة تكره الإقـامة فـيهـا ........ وجحيم يهيب فيها الدخـول
فلما فرغ تاج الملوك من شعره قال عزيز :
وأنا أحفظ في الحمام شيئاً .
فقال شيخ السوق أسمعني إياه .
فأنشد هذين البيتين :
وبيت له من جامد الصخر أزهار ........ أنيق إذا أضرمت حوله الـنـار
تراه جحيماً وهو في الحق جـنة ........ وأكثر ما فيها شموس وأقمـار
فلما فرغ عزيز من شعره تعجب شيخ السوق من شعرهما وفصاحتهما وقال لهما :
والله لقد حزتما الفصاحة والملاحة فاسمعا أنتما مني ، ثم أطرب بالنغمات وأنشد الأبيات :
يا حسن نار والنعيم عذابـهـا ........ تحيا بهـا الأرواح والأبـدان
فأعجبت لبيت لا يزال نعيمـه ........ غضاً وتوقد تحته الـنـيران
عيش السرور إن ألم به وقـد ........ سفحت عليه دموعها الغدران
فلما سمعوا ذلك تعجبوا من هذه الأبيات ، ثم إن شيخ السوق عزم عليهم فامتنعوا ومضوا إلى منزلهم ليستريحوا من تعب الحمام ، ثم أكلوا وشربوا وباتوا تلك الليلة في منزلهم في أتم ما يكون من الحظ والسرور فلما أصبح الصباح قاموا من نومهم وتوضأوا وصلوا فرضهم وأصبحوا ، ولما طلع النهار وفتحت الدكاكين والأسواق خرجوا من المنزل وتوجهوا إلى السوق وفتحوا الدكان وكان الغلمان قد هيأوها أحسن هيئة وفرشوها بالبساط الحرير ووضعوا فيها مرتبتين كل واحدة منهما تساوي مائة دينار وجعلوا فوق كل مرتبة نطفاً ملوكياً دائره من الذهب .
فجلس تاج الملوك على مرتبة وجلس عزيز على الأخرى والوزير في وسط الدكان ووقف الغلمان بين أيديهم وتسامعت بهم الناس فازدحموا عليهم وباعوا بعض أقمشتهم وشاع ذكر تاج الملوك في المدينة واشتهر فيها خبر حسنه وجماله ثم أقاموا على ذلك أياماً وفي كل يوم تهرع الناس إليهم فأقبل الوزير على تاج الملوك وأوصاه بكتمان أمره وأوصى عليه عزيز ومضى إلى الدار ليدير أمراً يعود نفعه عليهم وصار تاج الملوك وعزيز يتحدثان وصار تاج الملوك يقول :
عسى أن يجيء أحد من عند السيدة دنيا .
ومازال تاج الملوك على ذلك أياماً وليالي وهو لا ينام وقد تمكن منه الغرام وزاد به النحول والأسقام حتى حرم لذيذ المنام وامتنع عن الشراب والطعام وكان كالبدر في تمامه فبينما تاج الملوك جالس وإذا بعجوز أقبلت عليه .