لا أدري لماذا نتجاهل دائماً بأن الحقيقة في النهاية هي التي سوف تجلس معنا على طاولة المفاوضات لتحدد القرار النهائي . نمضي السنين ونحن نتحاور مع الأوهام و الأكاذيب و المراوغات النفسية ثم في النهاية ننتظر الحقيقة فتصل لينتهي كل شيء ولهذا يقول المتنبي : " كل شيء ٍ على المرء هين ٌ إذا هو كانا " أي أن الشيء يكون عظيما في أنفسنا حتى يقع علينا أو نقع عليه فنعيشه فنجده ليس بتلك المعضلة التي كانت بالبال قبل وقوعه . يكون هيناً لأنه إذا كان فقد تحقق فإذا تحقق مضت الحقيقة و انقطع دابر المماطلات و التكهنات ! .
و لهذا قال تعالى حكاية عن قوم موسى " قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون * قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " .
فالنصر كان متعلقا بمجرد " دخول الباب ! " فالله كان يريد منهم فقط الامتثال و متابعة الرسول ولو فعلوا لكان النصر من الله , و تستطيع أن تشبه ذلك بإعفاء اللحية و تقصير الثوب , فقط قم بذلك و سيأتي الثبات من الله . و هناك أشياء كثيرة لا يكون فيها النجاح متعلقاً بحذق في الأداء أو حسن تجهيز بقدر ما هو بحاجة إلى مبادرة في الوقت المناسب و اتباع مع توكل لا أكثر وكم هي القصص التي تحدث فيها أصحابها عن سبب تحول حياتهم فذكروا أن ذلك كان بسبب خطوة جريئة على غير موعد و لا ترتيب !. و أحيانا يكون العمل جريئا ً و لكنه جرأة في طيش أو لا مبالاة غير أنه يكون متعلقا ً بأمر " حيوي " أو بشخصية " حيوية " أو بمبدأ أو قضية حية فتنتج عنه أشياء كثيرة كما روى الامام أحمد عن أبي محذورة أنه قال كنت في عشرة فتيان مع النبي صلى الله عليه وسلم خارجين إلى حنين وهو - أي رسول الله - أبغض الناس إلينا فقمنا نؤذن نستهزئ بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ائتوني بهؤلاء الفتيان فقال أذنوا فأذنوا فكنت آخرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم نعم هذا الذي سمعت صوته اذهب فأذن لأهل مكة !!! . فمن فتى متشدق بآيات الله إلى المؤذن الأول في عاصمة الإسلام أم القرى حتى صار الناس يتناقلون اذانه و يقولون " أذان أبي محذورة ! " الذي تعلمه من رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال ابو محذورة : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أأذن لأهل مكة ومسح على ناصيتي . فكان أبو محذورة لا يجز ناصيته و لا يفرقها بعدما مسحها رسول الله صلى الله عليه و سلم .
الأشخاص الذين يعيشون في برك المجتمع الراكدة الذين كلما رأيتهم شممت رائحة النوم و التخمر , تكاد الأرض تأكل مؤخراتهم من طول ما لبثوا على أمرهم لا يغيرونه و لا يتصورون أنه سيتغير , هؤلاء لا يحسبون إلا أرقاما على المجتمع ليسوا من تنوع الحياة في شئ هم نسخ ممن قبلهم كالتيس الذي جاء من تيس و كالحمار الذي جاء من حمار . قد يقول قائل بأن المطيع لله القائم على طاعته رجل قد لبث على خير فكيف يكون حماراً ؟ . الصحيح أن حتى الملتزمين فيهم من الحماريين فقد هدد النبي صلى الله عليه و سلم المصلين في زمانه فقال :" أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار ؟ " و لكن الذي يتدين بـ " حرفية " أي يجعل الدين حرفته التي تمتلك شغاف قلبه فهذا يكون قد جاء بأرقى أنواع التنوع لأنه مثل الشريحة النادرة في المجتمع وهي التي وصفها النبي صلى الله عليه و سلم بـ " الغربة " و أن أهلها غرباء , هذا الرجل نادر حقا فهو ليس نسخة ً و لا رقماً . لا تتخيل مدى الغربة و أنت تقوم من فراشك إلى صلاة الاستسقاء تستغفر الله لتلال اللحم التي خلفتها خلفك خارج المسجد من قريب و جار و هم نومى و قد أمضوا ليلتهم على الرقص و الإباحية و اللا مبالاة بعطاء الله و منعه و أنت تفرك أنفك في التراب و تقول : " اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا .. اللهم اسقنا الغيث و لا تجعلنا من القانطين " فتستغفر لهم و لو استطعت أن تتوب عنهم لفعلت و هم الذين لا يرون فيك إلا " شؤم الأمر و النهي و الدروشة و ضيق الأفق و كل ما يعكر صفو حياتهم المجيدة !" . لو عرضت على أي شخص قائمة بالأشياء التي ستجري له في نفسه و في سلوكه و في تفكيره بعد الالتزام لما التزم !. تخيل نفسك تتحول من أناني تبخل يمينه على شماله , من شهواني سادر في غيه لا يهمه الا ما في حدود جسده و حواسه ثم فجأة تصبح و إذا بك مؤمن تحلم بجنة من ذهب و فضة فوق السماوات السبع و تتألم لأقليات تعيش في الشيشان و الصين تقرأ تاريخها و تتابع أخبارها , تحزن للإسلام و تغضب للإسلام و تفدي عرض أناساً ماتوا قبل أربعة عشر قرناً بمالك وأهلك ! , لك في كل زاوية مترصد و في كل محفل قرد يسخر منك و يقفز فوق كل مسلماتك , الماء لا يدخل بطنك إلا بفتوى و لا يخرج منك الا بعلم و طقوس دينية للطهارة و آدابها , كل شيء شائك , كل شيء محسوب ... تشعر بأن هذه الحياة تحولت إلى عملية جراحية خطيرة أنت طبيبها الوحيد إن أخفقت فيها مت أنت و نجت الحياة بحياتها ! . و لكن مع هذا تشعر بأنك صرت " جزءاً من العالم و جزءاً من الملحمة " و بمجرد ما تقرأ خطاب الله تعالى لك و هو يذكرك بمنه و فضله عليك حيث حفظك من الانقراض في طوفان نوح يقول : ( إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ) أي في السفينة مع نوح ! في ظهره من ذريته ! , عندها تشعر بأنك لست ابن اليوم و البارحة بل أنت ابن تاريخ طويل اسمه " الهجرة إلى الله ".
الذين يعيشون في " برامج معلبة " ورثوها عمن قبلهم : ( مال - زواج - اطفال ... مشاركة اجتماعية نفعية تمتعية تقليدية , الخ ) و ليس للدين من كل ذلك شيء ... ثم لا شيء ! . لا هدف لهم سوى ( السلامة ) ! , يرون التلفت كبيرة من الكبائر و التطلع إلى ما وراء المحسوس ضربا من الجنون و العبثية . لا يمكنك أن تستوعب نفسك و أنت تشاكل هؤلاء و ترضى بأن تكون مثلهم فهؤلاء الإنمساخيون ليسوا الا " كائنات قادرة على إدارة أنفسها " بينما استيعاب النفس يحتاج إلى تصور صحيح للعالم من الخارج .. أنظر اليه من السماء كيف ينظر الله إليه ؟ ثم انظر اليه من الداخل كيف ينظر " الإنسان المثالي " إليه ثم انظر للإنسان من السماء ثم انظر لنفسك من داخلها ... هذه الأشياء لا يخوض فيها " كائن علفي " يمارس على نفسه الإيمان البرسيمي حيث إذا رأى الثور البرسيم آمن و إذا لم ير شيئا ً قال " يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول " !. هذا الضعف في استيعاب الذات و صدق التصور لكامل جوانبها يجعل الإنسان عرضة للاستغفال فكم من رجل مرموق المنصب كثير الانجاز يشار إليه بالبنان ظن أنه قد " كان " حتى يتراءى اليه في نفسه أنه صار أعجوبة من أعاجيب الزمان و لعله عند الله لا يساوي جناح ذبابة و إذا سقط المرء عند الله فليس له من قيمة لأن القيمة إنما يحددها الذي تقوم بقيامه كل الأشياء و إن كانت الدنيا وجود و الآخرة وجود فإن الإنسان سلعة لا تصنع إلا في الدنيا و لا تباع إلا في الآخرة !.
كان لنا لقريب لنا مزرعة فدخلتها شياه رجل بدوي فجاء عامل مزرعتنا فقتل كلب الغنم و طردها فلما جاء صاحب الغنم سأل الراعي عن الكلب فقال : قتله عامل هذه المزرعة ! . فجاء صاحب الكلب و معه سكيناً يريد قتل العامل فهرب ! . جاء صاحب العامل فسأل صاحب الكلب : تقتل رجلاً بكلب يا هداك الله ؟!! فقال صاحب الكلب : كلب ! ولكنه والله يساوي نصف أهل بيتي !. و لكن لو قلت لصاحب الكلب : أقدر شعورك يا كلب ! , لغضب ! . نعم قد يساوي الكلب في نفعه نصف أهل البيت و لكنه يبقى كلباً ... إذا ولغ في الإناء يغسل سبعاً و يعفر الثامنة في التراب !.
فلا يغرك ثناء الناس على فعالك الظاهرة ...
أترى هذه المدينة الكبيرة و عماراتها الشامخة ؟
إنما بناها أضعف من سكن فيها ... عتال و بنّـاء !...
والله أعلم