رواية القران المقدس
أداة المعرفة الجميلة

شكيب أريج
كاتب من المغرب


يقول الكاتب المبدع المغربي أحمد بوزفور "الجمال في النهاية فكرة" ويقول شاعر هندي أيضا "الجمال دين الحكماء" من هنا العلاقة الإشكالية بين الجمال والحكمة، بين الفن والفكر، وقد نقر إلى حد بعيد أن الإبداع لا يخلو من إقناع.
من هذا المنطلق تجد فكرة الفن من أجل الفن أو الجمال الذي لا رب له ولا مقصدية معارضة كبيرة، والشيء نفسه ينطبق على الفكر الحافي فنصفه بالأجوف ونعترف أنه مصدر تعاسة وصداع للعقل الإنساني.
هذه الإشكالية التي ما زال الفلاسفة وكبار المفكرين يتخبطون فيها، إذ هم مطالبون بتقديم فكر لا يخلو من تمثيلات وتشبيهات ولغة بقدر ما هي حكيمة يجب أن تكون ممتعة. وعلى الضفة الأخرى فالأدباء والشعراء مطلوب منهم إضفاء الحكمة والتميز بثقل معرفي وموسوعي، دون أن يؤثر ذلك في الجمالية الشكلية للألفاظ والايقاعات.
إن الوعي بهذه الإشكالية هو ما قدم للإنسانية مبدعين مفكرين أو مفكرين مبدعين استطاعوا أن يتموقعوا في أفق متسام فأوجدوا للإنسانية فكرا راقيا يتشكل في أجناس أدبية متنوعة. وهو فكر سواء كان يتزيى بالشعر أو الرواية أو القصة أو المقالة وسواء كان يمر عبر أثير الموسيقى أو المسرح أو السينما فهو يؤدي رسالة فنية جمالية وفكرية فلسفية على مستوى راق.
(القران المقدس) قطرة ماء تثقب الحجر، لا بالعنف لكن بتواصل السقوط، فعبر تيار فكري ممتد بشكل تدريجي من بداية الرواية مرورا بشواهد الفصول انتهاء إلى أغوار هذا المتن السحيقة، تجترئ الرواية على تمزيق ركام هائل من الأفكار عبر غربلة دقيقة لما هو ماضوي وتبوثي وجمودي ورجعي ومحافظ، هذا العزف الفني الفكري المتواصل يندرج ضمن الحكي السردي الفني الذي يسعى لأن يكون في حدود المقنع الممتع.
الرواية تضع المجتمع السعودي تحت المجهر فمن خلال سلوكات وقناعات لشخصيات سائدة تظهر شخصية طيفية هي "عشتار" لتخاطب الشخصية الرئيسية "ليلى" وهي فتاة سعودية شيعية مضطهدة توجد في حالة مأساوية. بين الحياة والموت تجري فصول الرواية، في غرفة بيضاء على شفة القبر، وأهم من المكان، الزمان المشحون في لحظات عبرها تئن الروح فتناغيها "عشتار". تسرح الذاكرة فتلتقط شذرات من حياة هي أشبه بالموت. الصخب الفكري الذي تهيج به الرواية من خلال تحليل مجموعة من المواقف والمعتقدات، وهو صخب يشعر بالتوثر لا سيما أننا نستشعره من خلال روح معلقة بين الحياة والموت، وهي كثيرا ما تتماهى مع شخصية القارئ لتعلن عن ضجرها من الأسئلة المتعبة، ومرة أخرى نجدها تستنفذ طاقاتها توقا إلى المعرفة، كل هذا وطيف عشتار بين الحضور والغياب يجيب عن السؤال بالسؤال ويضع النقط تاركا مهمة البحث عن الحروف للآخرين.
إن تلخيص رواية بهذا الترف الفني والفكري لأمر أعده من المستحيلات، لكن بالإمكان الاستشهاد بمجموعة من الابراقات الفكرية التي جاءت في سياقات فنية لم تدع للقارئ ولن تدع له فرصة للتضجر أو التأفف، وحسبنا أنها إبراقات فكرية تمثل عقل الرواية.


حول المرأة

(.. هي إما زوجة فلان أو أم فلان، لأنهم يعتقدون أن المرأة واسمها عورة، فالأنثى في عقيدتهم سببا للفتنة، والمعني بالفتنة هي إثارة غريزة الجنس لدى الذكور. لذا حتى اسمها يوارى بألقاب ذكورية.
كون الأنثى عورة وفتنة، سمتان تلتصقان بها من المهد إلى اللحد. بهما ومنهما نسجت كل أغلال المرأة وقيودها التي حجبتها عن ممارسة الحياة كإنسان طبيعي..) ص175- القران المقدس- طيف الحلاج)

(..يقال..أن ذكور القرود في الجزيرة العربية يرافقهن في حياتهم أربع إناث.. هو الحد الأقصى لهم) ص226
(.. ومع أن العلم تطور وصار بالإمكان أن تعرف المرأة أنها حامل منذ الأسبوع الأول، لكن ذاك القانون ظل مسلطا على رقاب النساء دون أن يمسسه أحد.) ص250

(.. في القبائل البدائية في أستراليا قتل رجل زوجته حين تمددت على فراشه وهي حائض أما في قبائل الأمريكيين الأصليين حين تحيض الفتاة للمرة الأولى تعزل في كوخ ويمنع على الذكور زيارتها إلى أن "تطهر" من رجسها. في اليهودية تعد الحائض كائن قدر لا تقبل منها طقوسها الدينية. أما في الإسلام حين تحيض الأنثى لا تقبل منها أي نوع من العبادات، ويحرم عليها مس القرآن، ويهجرها زوجها في المنام.) ص221

الحرية
(- هل جربت يا عشتار ضجر الحرية؟
أجابتها عشتار بتعجب: لا.. ما هو؟
- هو بكل بساطة حين تكوني حرة طليقة ليل نهار، مجردة من جميع أصناف الوصايا والرقابة، حرة مائة في المائة دون أن تدفعك تلك الأحاسيس إلى الانتفاع بالحرية، لا داعي للاستعجال مثل أهل هذا البلد، يعيشون حالة هيسترية ويسابقون عقارب الساعة كلما سافروا إلى الخارج، يخوضون كل تجربة محرمة عليهم في بلدهم بنهم وجنون عجيب، لأن حريتهم محسوبة عليهم تنتهي حالما تحط أقدامهم على أرض بلدهم "الحرية حين تكون موجودة بك معك ومن أجلك فكل شيء يصبح تحصيل حاصل من إنتاج و إبداع وتطور.. عندما تصبح الحرية جزءا منك وكأنهاإحدى أعضائك التي لا ينازعك عليها أحد، تستخدمينها متى شئت لتلبية رغبة ما، أو في الحصول على غرض خاص.. هذا ما أسميه بضجر الحرية اللذيذ الذي لا تتحكم فيه إيقاعات الزمن.. ولا أمزجة البشر، حين تعيش على أرض حرة برأس طليق ويدين حرتين) ص72-73
الغربة
(.. الغربة الذاتية تتفاقم بفقد التحاور مع النفس ومساءلتها.. أضاع الناس مرآتهم وبعضهم حطمها، لأسباب مختلفة، بعدها لم يعد أحد منهم سقف وينظر إلى نفسه ولو لوهلة كي يحاورها.. لذلك ماتت روح التأمل في الذات ومحاسبتها، وكتمت أذهانها في الأذهان.. فخيم الجهل وعشش شبح الشك والريبة في النفوس.. فجمدت المشاعر من زمهرير ألم بها..
وماذا عن غربة الأمكنة؟
- أنظري حولك يا ليلى وحدقي بتمعن في كل الموجود في الأمكنة ستجدين عالما متناقضا مع كينونتك وكيانك، عالم تحكمه المستقيمات والأشكال الهندسية والزوايا الحادة.. تسيره النمطية، كل تلك تشوهات ونتوءات سببت تصدعا للنفس وعجزا في الأحاسيس الإنسانية، فذاك الزخم الهندسي المنتظم يتنافى بقسوة معك كجسد ويتضارب بعنف مع الطبيعة ويختلف بشدة مع الكون بأسره.. لأن الوجود تسوده المنحنيات والاستدارة اللولبية. بينما ما تلمسه حواسك الخمسة وربما الستة كل يوم لا يمت لك بأي صلة..) ص253

الدين:
( ليس من شيمته الفعل ولكنه لا يترك أمرا بحاجة إلى إتمام..تصدر الكائنات عنه ولا يدعي سلطانا، يعطيهم الحياة، ولا يدعي امتلاكا، يعينهم ولا يقتضي عرفانا، يكمل عمله ولا يدعي فضلا.) ص92
( من السهل جدا أن يتلمس البشر الأدلة والأسباب التي تثبت معتقداتهم وتوثقها بحجج مختلفة، ولكن من الصعب عليهم محاولة عبور النهر، والانتقال إلى الضفة الأخرى منه، ببساطة لأنهم سخشون على أنفسهم من المغامرة، والخوف من أن ما ينتظرهم في الجهة المعاكسة قد يشتتهم ويحرجهم مع أنفسهم، الناس تربوا على أن العوم ضد التيار يوشوشهم ويفقدهم تمييز الألوان والاتجاهات، ويبعدهم عن قطعانهم فيصبحون كالشاه الشاردة، لا راع ولا مرشد للطريق الصحيح، وذلك يؤدي بهم إلى الضياع والغرق في متاهات الفكر لذلك يتجنبوه، ويزداد تمسكهم بمرافئهم الآمنة..) ص86
( أساس كل أسطورة يا ليلى معتقدا دينيا فهي الامتداد الطبيعي له. الأسطورة بمثابة أداة إثراء وتوضيح للمعتقد، لكن ترسخه في النفوس وتساعد على بقائه عبر العصور. فالأسطورة ما هي سوى سيرة ذاتية للإله.. تبهر البشر بفصولها الخرافية وتذكرهم دائما بضعفهم وحقارة شأنهم) ص88




قضايا أخرى:
الوجود:(" أكون أولا أكون تلك هي المسألة"
.. تكون أو لا تكون ما هو سوى جزءا هامشيا من المسألة) ص161
القدر والآلة: ( إحدى أهم اختراعات الإنسان في العصر الحديث هي الآلة، بينما في العصور القديمة هو القدر، الإثنان يعدان حتى اللحظة من أفضل مقومات الحياة المريحة.) ص147

على هذه الشاكلة تقدم الرواية أطباقا فكرية لا تزيد القارئ إلا نهما، لكن أهم ما يؤطر هذه القضايا الفكرية هي المواقف والأحداث، وإن شئنا الدقة اللحظات:

- لحظة الموت: في بداية الرواية (ليلى) الشخصية الرئيسية تتعرض لحادثة سير تغيب عن الوعي وهي تحتضر تشعر بانسلال روحها وبحجم الحقيقة والرعب، ومن داخلها تنبعث إشارات تجد القدرة حينها في لحظة الصفاء تلك على تحليلها وفهمها ورغم الصراع المتأجج داخلها على المستوى الفكري الذي يوازيه صراع الجسد من أجل الحياة فإن ليلى تعيش موتها المجمد في اللحظة الأبدية، وتعيش حياة برزخية تحس بالعالم الخارجي كأشباح وبالعالم الداخلي كسكينة وبالعالم القادم كانعتاق. ولأن الموقف والحدث أجدر بالتعبير عن هذه الفكرة فلا أجد من موقف أكثر تعبيرا من ذلك الذي يواجه فيه جتمان ليلى المدمر تحرشا جنسيا فعامل النظافة الوقح، يغافل الرقابة المجتمعية ويحاول ممارسة شدوده على الجسد الذي هو أشبه بالجثة، لكن عقلها المستنير يحبس الانفاس عن الجسد المحنط فترتفع صافرة الانذار منذرة بحالة الطوارئ ليلملم عامل النظافة ملابسه ويتراجع.

- لحظة العذاب: في الرواية يكاد القارئ يتخيل أن هذه اللحظة الحاظرة على طول الرواية هي لحزة خلود . يصور لنا السارد جسد ليلى على أنه كثلة مجزأة محطمة لم تعد صاحبته تشعر به من كثرة الآلام وكأنها تحس روحها عارية ممددة بلا جسد، المأساة الحقيقية التي لن تغيب عن القارئ هي كون هذه الروح مقيدة إلى الفراش ملزمة بجسد عليل فلا هي خارجه ولا هي داخله، والرواية لا تصور لنا جروح الجسد بقدر ما تصور آلام الروح التي تروم الانعتاق.


- لحظة الانعتاق: كلمة "الانعتاق" هي الوجه الآخر لكلمة "القران" التي عنون بها الكتاب ، تجد فكرة الانعتاق صداها في الرواية حين يورد السارد شاهدا في بداية فصل تحت عنوان "سمات" إذ يقول: "التجرد من الذات عتق مبهم الأبعاد يهابه السواد الأعظم من الناس الذين هم عبدة الموروث وإماؤه" (القران المقدس-ص223) إذن فالخروج من الدائرة "الانعتاق" يقتضي أن لا تكون داخلها، لأنك لن تعرف شكل الدائرة ما دمت بداخلها.
الانعتاق فكرة جوهرية تؤطر المحكي ولا شك أنها مقتبسة من فلسفة الدين ومن التبحر الشاسع في الأديان البشرية وخاصة الهندوسية إذ نجد في الهندوسية مفهوما مطابقا للانعتاق وهو مفهوم المايا، فأمام تعدد الموضوعات الطبيعية وتنوع النفوس البشرية لا مناص من الانعتاق، إذ به تتخلص الروح من الوهم الكبير فينجلي ويبدو لها الكون متوحدا في المطلق العظيم.. إن ما يحقق للنفس هذا الانعتاق النهائي هو كدحها في سبيل معرفة الحق وانكشاف البصيرة الداخلية على حقيقة أن العالم المتكثر هو واحد في جوهره .
وامعانا في تبيين مدى أهمية هذه اللحظة فإن الرواية تخلص في فصلها الأخير المعنون بالانعتاق إلى تخليص البطلة وعتقها مبينة أن الانسان وحده من بين جميع المخلوقات الأقدر على تخليص الروح، وبعد الانعتاق يمكن للروح أن تقترن بضوء الحقيقة، لكن لا مفر من تجريمها وتكفيرها أنذاك لأنها نفس اللحظة التي يشطح فيها الحلاج صارخا أنا الحق،وأبو زيد البسطامي يقول سبحاني ما أعظم شاني.

- لحظة الحياة: حين تسترجع "ليلى" ذكرياتها تنقل إلينا تفاصيل حياة مليئة بالتطلعات والأماني، يستشعر القارئ وكأن ليلى تطل لأول مرة على حياتها من مكان عال فتحس بتلك الفراغات الفكرية التي كانت تؤطر حياتها، وتحس باللامعنى واللاجدوى في سياقات عديدة فتحتمي بتمنياتها وأحلامها التي كانت العزاء الوحيد لها في لحظة الحياة الجحيمية. الرغبة التواقة في الحياة لدى "ليلى" والجنس اللطيف عامة يمكن تلخيصها في مقول لغادة السمان حيث تقول: ( حين سقطت سهوا على هذا الكوكب، اكتشفت أن حقوقي لا تتعدى الأكل والشرب والإنجاب والموت فقررت أن أضيف إليها حقي في الطيران)

- لحظة الحياة البرزخية: تعيش "ليلى" في أوج لحظة الاحتضار (الموت) ولحظة العذاب لحظة رهيبة فيها تصبح مخلوقا طيفيا لا حدود لامتداده وهي أقرب لحظة للانعتاق.


يقول الروائي الكبير عبد الرحمن منيف: (الرواية أداة معرفة، ولكنها المعرفة الجميلة إذا صح التعبير) ونقول أنها-الرواية- قد تغدو (تهريبا للكلام) إذا استعرنا تعريف أدونيس للكتابة، إن الفن والفكر متلازمتين لا تنفك عراهما، ومن تم تكون رواية القران المقدس قد قرنت بين الفن والفكر وقدمت لنا نموذجا للرواية ذات القلب العاشق والعقل المفكر.

شكيب أريج
08/05/2008