النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الشر المعبود

  1. #1
    الصورة الرمزية ahmed talaat
    Title
    نبض جديــد
    تاريخ التسجيل
    02- 2007
    العمر
    40
    المشاركات
    21

    الشر المعبود

    الشر المعبود


    قبل أن يستولى أول ملك على حكم مصر كان الوادى مقاطعات مستقله لكل واحده اله ودين وحاكم وقد اشتهرت من بينها مقاطعة " خنوم " لما توفر لها من خصوبة الأرض واعتدال الجو وكثرة السكان ولكنها كانت تدفع نصيبها كاملا من ضريبة الشقاء والأحزان ففسق بها المترفون وتضور القلاحون جوعا وعاث الأشرار فى الأرض فسادا وفتكت الأمراض والأوبئة بالضعاف والبائسين وشمر للاصلاح رجال المقاطعة المسئولين وعلى رأسهم القاضى "سومر " وحارس الأمن "رام" والطبيب "حتب" وكافحوا الجريمة والعيوب مكافحة شديدة صارت مضرب الأمثال على الجهاد والصدق والعزم .
    وفى أحد الأجيال التى مرت على تلك المقاطعة ظهر بها رجل غريب كان شيخا طاعنا فى السن حليق الرأس والذقن كعادة الكهنة المصريين وطويل القامة نحيل الجسم تلوح من عينينه نظرة حادة تهزأ من فعل السنين يشع منها نور الفطنة والحكمة وكان رجلا غريبا حقا فما لمست قدماه بلدا حتى تسائل أهله عجبا : من الرجل ؟ وأى بلد قذفه ؟ وما الذى يريد ؟ وكيف يضرب فى الأرض حين ينبغى أن يخلد الى السكينة والراحة فى انتظار الانتقال الى عالم أوزوريس ؟
    ولم يقف به شذوذوه عند حد كان يثير ورائه عواصف الضجيج وزوابع الفتنة أينما حل وحيثما اتجه فكان يغشى الأسواق ويزور المعابد ويدعو نفسه الى الحفلات على غير معرفه بأصحابها ويضع نفسه فى مالا يعنيه فكان يحادث الأزواج عن زوجاتهم والآباء عن أبنائهم ويجادل السادة والنبلاء ويكلم الخدم والعبيد ويترك خلفه أثرا عميقا يهيج فى النفوس ثورة جامحة يشتد من حولها الجدال والخصام .
    وأثارت حياة الغريب مخاوف "رام" حارس الأمن فاتبعه كالظل وراقبه عن كثب وارتاب فى أمره فقبض عليه وقدمه الى القاضى لينظر فى أمره العجيب ولما مثل بين يدى القاضى الرجل الغريب أخذه العجب واستولت عليه الحيرة وسائل نفسه عما يرتكبه هذا الشيخ الفانى ثم سأله بصوت المتزن وهو يلقى عليه نظرة فاحصة : "ما اسمك أيها الشيخ ؟" فصمت الرجل ولم يجب وهز رأسه كأنه لا يريد أن يتكلم أو لا يدرى ما يقول واستاء القاضى من لياذه بالصمت بغير سبب معقول وسأله بلهجه خشنه : "لماذا لا تجيب ؟ قل مااسمك ؟" فقال الرجل بصوت خافت وعلى فمه ابتسامة خفيفة غامضة : "لا أدرى يا سيدى" . فتضاعف استياء القاضى وقال منتهرا : "ألا تدرى ما اسمك حقا ؟ "
    - " بلا يا سيدى نسيته "
    - أتقول انك نسيت اسمك بم يدعوك الناس ؟"
    - لا أحد يدعونى لقد مات أهلى وذوى ولبثت فى الدنيا دهرا طويلا لا يدعونى أحد ولا ينادينى انسان وكان رأسى مفعما بالأفكار والأحلام فنسيت اسمى "
    واتهم القاضى الشيخ بالبله والخرف وتحول عنه يائسا الى حارس الأمن وسأله : " ما الذى حملك على سوق هذا الرجل الى المحكمة ؟" فقال "رام" حارس الأمن : " انه يا سيدى رجل لا يستريح ولا يريح يتطفل على الناس ويجادلهم فى الخير والشر ولا يدعهم الا وقد فرقت بينهم الفتنة والشقاق "
    فالتفت القاضى الى الشسخ وسأله : " ما الذى تريده من وراء ذلك ؟"
    فحدجه الشيخ بنظرة حادة وقال بصوت قوى النبرات يهزأ بالسنين التى عاشها فى الدنيا : "أريد أن أصلح هذه الدنيا البشعة يا سيدى "
    فابسم القاضى وسأله : " أليس يوجد من يهب نفسه لهذا العمل النبيل وهو قادر عليه ؟ ماذا يفعل القاضى وحارس الأمن والطبيب ؟ اطمئن أيها الشيخ وأرح نفسك ولا تحمل شيخوختك ما لا طاقة لها به من بلوغ هذا المطلب العسير وغيرك أقدر عليه ".
    فهز الرجل رأسه بعناد وقال : "جميع من ذكرت قد وجدو منذ الأزل ولكنهم لم يقدروا على تغيير هذه البشاعة التى تشوه وجه الدنيا ولا نزال نرى فى كل بقعة من بقع الأرض نذر الشر وآثار الجريمة "
    - "وهل تنجح انت اذ خفقت جميع هذه القوى المؤتلفة ؟"
    - "نعم يا سيدى أمهلنى وسوف ترى "
    فابتسم القاضى فى استخفاف وسأله : " وماذا تتدخر من الوسائل ما ليس لديهم ؟"
    -" انهم با سيدى يطاردون الأشرار ويعالجون الأمراض ويضمدون الجراح أما أنا فسبيلى أن أقضى على الداء ان الداء كمين فى مخبئه آمنا وهم لا يكترثون الا لآثاره وقد انعمت النظر فوجدت أن المعدة أصلا بلاء هذه المقاطعة وجدت كثيرون لا يستطيعون أن يملأوا منها فراغا فيعيوا جوعا وآخرين لا يتركون بها فراغا فيهلكون نهما ومن التجاذب والتنافر بين هاتين المعدتين يحدث السلب والنهب والقتل فالداء بين والدواء بين "
    فقال القاضى :"على عكس مما ترى هذا داء لا دواء له "
    - " هذا قولهم يا سيدى وما يقولونه الا لأنهم ينقصهم شىء متعنى الرب به هو الايمان به : هو الايمان بالخير . انهم لا يؤمنون بالخير حق الايمان ويجاهدون فى سبيله جهاد الآلات الصماء التى لا تحس ويعملون بالأجر وللجاه والمجد فاذا خلو الى أنفسهم تهالكوا على ما يجاهرون بمقته من الاثم هذا شأنهم يا سيدى أما أنا فمؤمن حقا بالخير فدعنى أعمل على طريقتى وأمهلنى رويدا" ...
    وأهاج كلام الرجل الغضب فى نفس حارس الأمن اذ حسبه يلمزه من قريب ولكن القاضى كان اوسع صدرا وألين قلبا فاغضى عن قول الرجل ولما لم يجد فى عمله ما يستحق العقوبة اطلق سراحه بعد ان أسدى اليه النصح ..
    وغادر الرجل المحكمة وهو يحس بنشوة الظفر وكان على وجه اليقين مؤيدا بروح سام لأنه كان يسير فى الارض بقوة مارد ويتدفق فى الحديث بحماسة شاب ويفيض عليه قلبه بتفاؤل نبى وكان لسانه ينفث سحرا حلالا وحجة تلزم المتكبرين فاستطاع فى مده وجيزه أن يستأثر بآذان القوم ويسحر قلوبهم ويهيج عاطفة الخير فى نفوسهم ويوجههم الى حيث يريد فاتبعه الفقير وخضع له الغنى وذل له المتمرد العاصى وكان أساس دعوته الجمال والاعتدال اللذين يعيش فى ظلهما الفقير بالقناعة والغنى بما فيه الكفاية ووجد فيه ذاك المجتمع المريض طبيبا صادقا بارعا فتعلق بمثله واعتنق مبادئه وجاءت النتائج باهرة يخطف نورها الأبصار ويذهل عقول العقلاء فسحقت الجريمة وهزم الشر وأدبرت الأمراض وأظلت السعادة بجناحيها المقاطعة فهلل الحكام وكبروا وآمنوا بالرجل الذى كانوا فيه يمترون وسعدوا جميعا لبلوغ الغاية النبيلة التى أنفقوا أعمارهم عبثا فى سبيل بلوغها .
    وتقدم الزمان فى خطى هادئة فى جو صاف وطريق معبد وتحولت الأمور الى غير ما عهد الناس .
    وكان الحكام أول من أحس بالعهد الجديد والحق أنهم وجدوا أنفسهم عاطلين والراحة لذو لا يذوقها الا العاملون فثقل الفراغ على ظهورهم وشاهدوا بأعين جزعة محدهم ينهار وريحهم تذهب ونورهم ينقلب ظلاما .
    كان حارس الأمن قوة ترهب أينما تحل فرد الى شىء تقتحمه العيون وتستهين به القلوب وأضحى تمر به العامة وكأنها تمر بصنم محطم .
    وكان القاضى قوة قدسية ومهابة الهية فأصبح يقلب كفيه أسفا حزينا لا يسمع تحية ولا رجاء ولا يساق الي رحابه من يهابه فأحس بعزلة ووحشة وبات كمعبد مهجور فى الصحراء وأن الطبيب بشكوى مكتومة وحبس نفسه فى داره لا يزوره انسان ولا يزور انسانا وكان يكنز المال فى القدور فأصبح ينفق مما جمع وقلبه واجف .
    اطمأن الاقليم جميعا الى الخير الا أولئك الذين وهبوا أنفسهم " صناعة الخير " كانو حيارى يائسين يتلفتون يمينا وشمالا فلا يجدون لأنفسهم مخرجا مما هم فيه وكان حارس الأمن أشدهم عذابا لأنه كان أعظمهم جراءة ولكنه كان يخشى أن يقدم على التصريح بمخاوفه فيجد آذانا صماء وقلوبا مطمانة الى الخير ولما نفد صبره انتهز فرصة اجتماعه باخوانه وأقرانه وقال بشىء من التهيب متسائلا :
    - "ماذا نفعل لو استغنى الحاكم عن خدماتنا غدا ؟"
    فاصفرت الوجوه وسأله سائل بلسان ملعثم : " أمن المحتمل أن يستغنى عنا حقا ؟ "
    فقال رام وهو يهز كتفه استهانه : " وماذا نفعل حتى نستحق البقاء ؟"
    وكأنه بقوله هذا رفع صماما عن مرجل يغلى ففاض كل بما فى قلبه فقال واحد منهم : "هذه حال لا يمكن السكوت عليها " وقال آخر وهو يهز قبضة يده : " لقد أفسد الشيخ الخرف المقاطعة " وقال ثالث : "انه يحطم القوى الانسانيه العالية بهذه الدعوة الفاسدة التى تعوق التقدم وتقتل الهمم " وسرت النجوى من لسان الى لسان وأبان كل عما بنفسه الا القاضى فانه لزم الصمت وسها الى الأفق البعيد كأنه لا يسمع مما يدور حوله سيئا وكاد مظهره يجلب اليأس الى قلوب الكثيرين من أعوانه الا أن رام همس لهم خارجا : " لا تخشو القاضى فقلبه معنا ولكن لسانه الذى مرن على الكلام عن العدالة لا يطاوعه على ما نحن بسبيله .."
    واتفقت كلمتهم ..
    وأشرقت الشمس ذات صباح فاذا بالرجل الغريب قد اختفى وبحث عنه مريدوه فى كل مكان وفتشوا عنه كل بقعة من الاقليم فلم يعثروا له على أثر وأحدث اختفاؤه دهشة وانزعاجا وأثار أقاويل متباينة فمن قائل انه هجر المقاطعة الى غيرها بعد أن اطمأن الى ثبات عقيدته ومن قائل انه صعد الى السماء بعد أن أدى رسالته وشمل الحزن المقاطعة كلها ووجفت القلوب جميعا ..
    وتنفس السادة الصعداء وانتظروا على أمل سعيد وكلهم يحلم بالمجد الآفل والنعيم الذاهب ويمنى نفسه ويستنظرها ...
    ولكن النفس يلحقها الجزع كلما دنت من الأمل المرتقب فباتت أعصاب القوم ثائرة وقلوبهم حائرة وكان يقض مضاجعهم أن يروا عامة الناس لا تزال متمسكة بالدعوة مخلصة لذكرى الشيخ الغريب .
    واهتاج الغضب حارس الأمن فصاح : " ينبغى ألا تدوم هذه الحال "
    ونظرت اليه أعين أحياها الطمع وأضناها الأمل فاستدرك قائلا همسا : " أعرف فى مقاطعة {بتاح} راقصة فاتنة أولتها الآلهة حسنا لا يقاوم فلماذا لا نستعيرها أشهرا ؟ وانى أعلم أن حاكم الاقليم راغب فى نفيها لما يهيج جمالها من الفتنة والملاحاة فليكن اقليم خنوم منفاها الى حين وهى بغير شك حقيقة بأن تفرق بين الأخ وأخيه والزوج وزوجه وبأن تغرى الأغنياء بالانقضاض على السلاسل التى وضعوها فى أعناقهم طائعين انتظروا خيرا قريبا ..
    وحقق ذلك العبقرى فكرته الخطيره .
    وشاهدوا جميعا بأعين مشرقة بنور الفرح ذلك النظام يتقوض بنيانه ويتهاوى حجرا على حجر وردت المعدة الى عرشها تتحكم فى الرقاب والعقول وعادت الحياة الشيطانية تملأ جو "خنوم" الهادىء وتعصف بالسلام المخيم على ربوعه واستأنفت عصبة الحكم جهادها ووجدت نفسها مرة أخرى تكافح وتناضل عن الخير والعدالة والسلام ..
    تمت

  2. #2
    الصورة الرمزية عاشق السمراء
    Title
    "رجل عادي جدا"
    تاريخ التسجيل
    05- 2002
    المشاركات
    21,307
    مسااااااااااء جميل!!

    شكرا لك اخي احمد طلعت ..
    للخير والعدالة .. والسلام
    طريق ممتد ............!!

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML