الجزء الثانى
يا للظلام يا للألم الساخر عبثا يحاول دفع هذه الآيات بالشك والتكذيب فمريم بلا ريب هى التى لا تستطيع مغالبة الشوق بالتستر وعدم الاكتراث المفتعل وهى التى تحادث الغير وتعنى الموجود من الرجال هى التى تجيب عيناها الاجابات الخفيه وهى تسكرها سير الزواج ...فيا للخيبه القاتله والأدهى أنه يريد منه ان يكون مستشارا فى مأساة قلبه ... لعله يرجو أن يشير بما يقطع به خيط العنكبوت الذى يمسك بكفه أحلامه وسعادته فيا للسخريه ... من المستطاع أن يحاول أن ينقذ سعادته فيعلن لصديقه عن الحقيقه السافره ويضع آماله بين يدى شهامته وما يعهد فيه من الاخلاص والمروءه ولكن كبرياءه تأبى عليه أن يكون فى حبه من المسترحمين السائلين وهو يندفع برغبه جنونيه نحو جحيم العذاب كأنه يستطيب النار الموقده وأبى الا أن يعرض حبه لأقسى امتحان وكتب الى صديقه : {اذا كانت ثمرة الحب ناضجه اقطفها بلا تردد فان حكمة الدنيا لتذوب حسرة على ثمرة حب ناضجة يزهد فيها الانسان أقدم ولا تبال بالنتائج البعيده ولا تغفل عن تزويدى بكل جديد فانى أصبحت من تتبع حبك على حب شديد }.
وبعد حين وافاه من صاحبه كتاب جاء فيه :{ بوركت من حكيم سديد الرأى لقد اتبعت نصحك يا أخى وضربت لها موعدا همسا ووافيت اليه فى صباح اليوم التالى وأنا فى حيره بين الشك واليقين بين اليأس والأمل ولكن لشد ماكان فرحى حين رأيتها قادمه والحقيقه أنها كانت متردده مذعوره على الرغم من خلو المكان الذى يوحى بالطمأنينه فى خفيه عن أعين الرقباء وبلغ بها الذعر أنها مرت بى غير ملتفته الى يدى الممتده كأنها جاءت لغير موعدى فتتبعتها وحييتها وطمانتها حتى قالت لى مضطربه : لا أدرى كيف جئت ؟ كيف أطعتك ؟ انى مضطربه. فلاطفتها بما أوتيت من بيان ومران وحماس حتى أفرخ روعها واطمئنت . لقد تحدثنا طويلا بل طويلا جدا ولو أردت أن أسطر لك ما دار بيننا ما انتهيت وما وسعتنى الأسطر فحسبك أن تعلم أنها فتاه رشيقه حلوة المعشر مهذبة الطباع وان كانت تغلب عليها حدة الاحساس وتوقد العاطفه والذهاب مع الخيال وقد حامت بمهاره حول موضوع الزواج فجاريتها بخفه ولباقه لا تهويان بها الى قرار اليأس ولا تعلوان بها الى عهد الميثاق وعند الافتراق نلت منها قبله خلت لحلاوتها أنها أول قبله تنالها شفتاى} .
انتهى الأمر وانقطعت أحلامه كما انقطعت عنه رسائلها ولكنه كان على علم متصل بأحوالها من خلال رسائل صديقه التى جاءته تترى .
وقد كتب اليه فى احداها : {أنا فى اختصار سعيد جدا فحياتى مليئه بالبهجه والمسره ومريم خير عزاء عن الوحده والوحشه فى هذا المنفى السحيق وانى كلما أذكر أنى سأحرم هذه المتعه بعد شهر يشيب شعرى من الهول وأضمها الى صدرى بشغف والتهم منها قبلات ملتهبه كأنى أختزن منها ما يمكن أن أعود اليه عند الفراق أما هى فتعتقد أنها لن تعود الى القاهره أو تعود لكى ترجع الى الأبد فمن يدريها أن لى خطيبه تنتظرنى فى القاهره من سنوات طويله . وبهذه المناسبه أقول لك ان مريم من الذين وهبهن الله دلالا وفتنة ولكنها على قدر غير هين من الاستهتار والنزق أما خطيبتى فشابه حيية هادئة الطباع وعلى خلق عظيم وانى أدخرها للزواج وأنا سعيد} .
وكتب اليه فى رساله أخرى : {معذره أيها الصديق عن تأخير غير مقصود والحق ماذا أقول لك ؟ فالحياه الجميله هى هى .. لقاء فأحاديث فمداعبات فتقبيل وعناق فوداع ولقاء. انها غدت مجنونه بى وكلما مرت ساعه اشتد بها الجزع وتكاد تنطق جوارحها : أن اذهب الى والدى وخاطبه فى حبنا لأكون لك طول العمر . انها أمنيه طبيعيه ولكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه} .
ثم كتب اليه بعد حين : {قاومت الألفة تلعثم الحياء وصيرت التلميح تصريحا وأمست مريم تلح على أن أكلم أباها لتتخذ علاقتنا الصيغة الشرعيه المقدسه وكانت حياتى تكون السعاده نفسها لولا هذه المنغصات . والحق أنى أجد بين يديها السعاده الصافيه مما جعلنى شديد العطف عليها وبعثت فى الضمير ألما مبرحا وانه ليسوئنى ما أبيت لها من نية الغدر والهجر لأنى فى الحقيقه لم أر فيها أكثر من ملهاة ممتعة أسكن اليها فى هذا المنفى القصى وما أشبه غرامى هذا بغرام الرحالة الجواب تتعدد وعوده تعدد ما يجوبه من البلاد وما يثير النفس يا صديقى أنى أول أمس جلست الى مكتبى شاردا أقلب بعض الكتب فما راعنى الا ديوان شوقى تنشق صفحاته عن صورة حفظتها فيه وكدت أنساها هى صورة خطيبتى وقد سطر تحتها بخط جميل : تذكار الوفاء . فكأنه سوط عذاب ألهبنى نارا الا فليغفر الله ما تقدم من ذنبى وما تأخر أيتها الحبيبه} .
وكتب اليه فى رساله أخرى : {لست فتى عصريا كما كنت أعتقد ولو أنى كنت كذلك لما هالنى الغدر ولأكبرت على نفسى الخيانة ولسهل على اصطناع الوداد للفتيات اصطناع تحيات الصباح والمساء ولهذا تجدنى معذبا موزع القلب فلا أنا بالراضى عن نفسى لأنى نكثت ميثاق خطيبتى ولا أنا بالسعيد لما ألقى من حب مريم الذى رمانى تفانيها الى هاويه من الندم . ولا يخفى عليك أن الملل عرف طريقه الى نفسى وأنى بت منه فى سقام وقد كان ذلك مقدورا ولكن ما عجل به ؟ لعله ذكرى خطيبتى أو ربما كانت مريم جمالها طلاء لا يخفى من ورائها شخصيه ذات بهاء و جلال} .
ثم كتب : {أمسى اللقاء غير ذى متعه لأنى بت أعانى من السأم وارهاق الضمير ومن ناحيتها تصر على مخاطبتى فى شأن الزواج ولا تكاد تصبر على هذا الموضوع فرمت بى فى الحرج والحيرة وينتهى موعد اللقاء ونحن لم نفرغ من الجدل العقيم والتضييق السقيم والاعتذار والتهرب المفضوحين }.
وأخيرا كتب اليه يقول : {لأول مرة أخلف الميعاد وأرجو أن تفهم الفتاه أن هذا منى اعلان بالقطيعة ولم يكن من هذا بد بعد أن بلغنا فى علاقتنا موضوعا ينبغى أن يتقرر فيه المصير فاما الى يمين واما الى شمال وما كان ينبغى أن أختار من جديد وان خطيبتى تنتظر بفارغ الصبر وهى أكرم على من هذه الفتاه التافهه الثرثاره التى لم يميزها الله الا بمظاهر الجمال المبتذل لا يلبث أن يتبخر أثره فى الهواء ومهما يكن من أمر فلن يلبث أسبوع حتى تكون مريم فى طريقها الى القاهره من حيث أتت} .
قرأ نورجميع هذه الرسائل رسائل صاحبه وقاتله بامعان شديد ولم يفرط فى واحده منها فجمعها فى رزمة وحفظها فى حق عاجى جميل ووضعها فى مكان أمين وانتظر . جاءته رساله مقتضبه من حبيبته تعلنه بفدومها وترجو منه أن يذهب للقائها فى موعدهما المعهود عند العصر وفكر فى أمره طويلا تفكير من تسيطر عليه عاطفة مسمومه ونفس جريحة حتى انتهى من امره الى تدبير فذهب الى الموعد فى الساعه المعهوده فوجدها فى انتظاره واستقبلته بيدين مفتوحتين وابتسامه مشرقه فضمها بين ذراعيه ولثم شفتيها وهو يبتسم ابتسامه كلفته غاليا من الجهد وضبط النفس وسمعها تقول فى فرح :" وأخيرا" فردد قولها :" وأخيرا" ثم نظر اليها بعينين مبتهجتين تخفيان دهشه وقال لنفسه : يا عجبا ما أقدركن أيها النساء على اخفاء مشاعركن وتكلف ما ليس بكن .
وانطلقت هى تقول :" أستطيع أن أخبرك كم ثانية غبتها عنى طوال هذه المدة الثقيلة لا أرجعها الله" .
-" الذى يبدو لى أن استغراقك فى حساب الزمن شغلك عن الكتابه الى"
- "أتسخر منى ؟ آه لو تعلم كم كانت الرساله التى أكتبها اليك تكلفنى كنت أتسلل الى مكان قصى بالبيت كى أخفى عن أعين أبناء عمى فيجدون فى أثرى ويبددون عزلتى ويفزعون أخيلتى المنسجمة وعواطفى الحارة فاذا انتهيت منها احترت كيف أسلمها الى صندوق البريد ؟ "
-" ألم يكن الخروج هينا عليك ؟"
- "احيانا مع عمى "
- "لم لم تخرجى فى الصباح وعمك فى العمل والجو خال ؟"
- "لو فعلت لكان أمرا مثيرا والشبان هناك جائعون أرذال عديمو الشرف"
-" يا سلام .."
-" نعم يا عزيزى"
-" أرى عذرهم بيننا فمن يطالع هذا الوجه الجميل ولا يقهر الحب قلبه ؟ ولكن ماذا صنعوا معك حتى استحقوا عندك هذا الحكم القاسى ؟ "
فصمتت لحظة ثم قالت :" انها صغائر مألوفه لا ينى عنها الشباب ولكنها ليست بذات بال فلندع هذا الآن ... فاعتقادى أنه لدينا ما يلذ لنا حديثه أكثر من هذا" .
- "طبعا طبعا ولكن واأسفاه قد قدر على أن أحرم هذه اللذه الليله لأن أمى مريضه وينبغى أن أكون الى جانبها سريعا فلنؤجل هذا الحديث الممتع الى المرة القادمة ".
فنظرت اليه بنظرة قلقة وقالت : "ما لك ؟ لست كعهدى بك تقول ان أمك مريضة ؟ لا بأس عليها أمضطر الى الذهاب اليها حالا ؟"
انه يحس برغبة شديده تدفعه الى الانفجار لينفس عن صدره غليانه المكتوم وحقده المدفون ويود لو يجيبه هذا الرياء بما يمزق قناعه ويهتك ستره ويفضح شناعته ولو فعل ما جنى على الرحمة والعدالة فمن حقه أن يصب جام غضبه ويثأر لآلام قلبه ويمحق الخيانة والمكر السىء .
ولكنه كان قد انتهى من أمره الى مرفأ لا يريم عنه وكان بطبعه هادئا يبذ فيه العقل الهوى وتتغلب لدبه الحكمه على الثورة فغالب دواعى الغضب فى نفسه حتى أسكنها وقال بهدوء غريب :" انى تعب مهموم مكدود الذهن ولولا شدة شوقى لرؤيتك ما هان على أن أغادر أمى وهى طريحة الفراش فلنفرغ من هذا اللقاء ولو على مضض ... والآن اسمحى لى بأن أقدم اليكى هذه الهدية الجميلة هذ الحق العاجى ... ورجائى ألا تمسيه حتى تخلى الى نفسك لتحظى بالمفاجأة السعيده فى غيبة عن أعين الرقباء ... والى اللقاء أيتها الحبيبة ..."
تمت