صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 11

الموضوع: رسالة إلى القارئ !!

  1. #1
    الصورة الرمزية هُمى الروح
    Title
    نبض مبــدع
    تاريخ التسجيل
    06- 2006
    المشاركات
    2,886

    رسالة إلى القارئ !!

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

    منذ أن بدأت أنا أكتب وأنت تقرأ أو تشاهد...!!


    قارئي العزيز..
    أنت مخطئ. أنت لا تعرفني؛ فكفّ عن إصدار أحكامك عليّ من بُعد. فأنا مختلف تماما عن الفكرة التي في رأسك. فأنا إنما أكتب في حالتين: في قمة صفائي، وفي قمة غضبي. وفي الحالة الأولى فإنني أخدعك بأن أترك عليك انطباعا جيدا لا يُدلّل عليّ دائما، وإنما يُدلّل على أفضل حالاتي وأكملها بهاء. وهو ليس أنا بالضرورة، إنما هو أنا مزاد تلميعا وتحسينا، أنا في قمتي وجذوة نشاطي الذهني، أنا مع فناجين قهوتي وأرقي وسطوتي وعلوّ مجدي. وفي الحالة الثانية فإنني أكتب غاضبا على العالم وعليك؛ ولذا فإن أحكامي إنما تتخذ صبغة الحقد والكره على كل ما تشكله الكتابة، وأنت طبعا جزء منها مُسمَراً على الجدار ومُوجَها لك كل أسهم ناري.
    أنت تظن أنني أعيش في الكلمات من أجلك، وهذا بحق كلام أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ فأنا أعيش في الكلمات من أجلي. ولو كان هناك أدنى شك في ذلك فإنني أتنحى من الآن تاركا لك المجال لقراءة ما تهوى. إنك تظن أنك ما زلت تعيش في مكانك الجميل البسيط الممتلئ هدوءا، محاطا بكل أفراد العائلة، تجلس كواحد من العُرّابة حقير وتقرأني وتشد على شفتيك بقسوة ثم بلين مظهرا انبساطا عاما مما كتبتُه، ملقيا نظرة عميقة على ولدك القابع بجانبك، وقائلا من خلف نظارتك الغارقة في أنفك »هنا يكمن كاتب جيد»، ظانا أن هدوءك هذا إنما هو معادل لقلقي الذي أبذله من جسدي ومن عينيّ كي تفترش أنت بعد ذلك كل هذه الطمأنينة. إنك لا تعرف إذن أنك غارق في أنانيتك العقيمة وأناك الضحل، وأن وعيا نافذا ينقصك. فإنما أنا أتسلى. وإنما أنا أتسلى بالحديث فيك وعنك. وهل تعلم؟ أن مآسيك تروق لي لأشكل منها نسيج قصصي وشخصياتي. إنك تعجبني وأنت تبكي وتذرف دموعك بحرقة لأنني أنا في هذه اللحظة بالذات سوف آتي لأقتنص الدمعة وهي لا تزال متحجرة في العينين، وحين تبدأ في الهبوط سوف أقتنصها مرة أخرى لكي أعيد إحياءها في الكلمات وأحقق بذلك مجدي. إني أحشو ذاتي من مآسيك، وأخطو للسلم الذي أعتليه على جسدك. وإن هذا السلم سوف يوصلني حتما للمجد بينما تكون أنت جالس ما زلت تذرف دمعك ظانا أنني قمت بهذه الأعمال جميعها من أجل إظهارك.
    إنت بدأت تتساءل الآن لماذا أفعلُ هذا؛ فبكلامي ستنتبه لوضعك معي، وسوف تتيقظ من سباتك الطويل لتعرف أنني إنما أقوم بخداعك. ولكنْ هل سيهم هذا حقا؟ هل ستنتبه حقا؟ إنك ستُعجب مرة أخرى بنفسك ظانا أنك أنت من منحني الحق في التكلم بهذا الكلام، وأنك أنت من منحني القصة والتفاصيل لقول كل هذا. وهنا بالذات أمارس أنا غوايتي ومخاتلتي المزدوجة والمركبة بينما تقع أنت مرة أخرى في شَرِكِ الغباء والخداع. وتعلم؟ سوف أكرر ذلك لأني فقط أعرف أنك ستكرر غباءك وعدم فهمك للأمور؛ فأنت تفتقد النفاذية التي أمتلكها. وحتى لو وصل الأمر أنني لم أكتب إلا لأندّد بك وألعنك فسوف مع هذا تنقاد ورائي وخلف سحري. وسوف تقول داخلك بحقد » اللعنة! إنني أكرهه، مع هذا لا أعرف لماذا أنا أتبعه«. وتعلم؟ أنت خلفي دائما لأنني من يقوم بفعل العلاقة أولا وأكتب. طبعا إن هذا حقي بعد كل شيء؛ فأنت تُعيد بناء ما أكتب كلمة كلمة وحرفا حرفا، وانت ستتبع كل كلمة أكتبها من أجل أن تصل في النهاية إلى ما أريده أنا منك؛ فيا لعظمتي أنا! ويا لدهائي! ويا للطبيعة الطيبة التي تمدني بما أشتهي! وياللشيطان الذي يبذل قصارى جهده لإرضائي!. ووالله لو دخلتُ جحر ضبّ لدخلتَه ورائي؛ فان فضولك قتلك منذ أزمان سحيقة، منذ أن بدأتُ أنا أكتب وانت تقرأ، ولعلك تلاحظ أن هذا ابتدأ منذ أزمان غائرة في الذاكرة، وأصبح نسيجا فيك، فهل تستطيع بعد ذا أن تتخلص من أعضائك واحدا واحدا من اجل ان تتخلص مني؟ وكيف ستفعل ذلك إن كان تفكيرك كله قائم عليّ وبي؟
    هل انت تحترمني بعد كل هذا؟ إن هذا ليس بإرادتك حتى، إنما أنا انتزع هذه الاشياء انتزاعا. ولستُ بالتالي محتاجا إلى تفهمك أو تفضلك عليّ، أنت صنعتي، وإنما أنت من ينبغي أن يشكرني، ويقول لي باحترام جم »هاك يدي! خض بنا البحر، ونحن وراءك«. وإنني لن أعدم النبل ولا الشجاعة لأخوض بك البحر ما دمتُ سوف تجعل شراعك تابعا لشراعي، وما دمتُ سوف تقول في النهاية كرها أو طواعية مشيرا إلى الذي يقف هناك على منصة التتويج »هذا هو بطلنا الحقيقي«. وسأتكرم أنا بنظرة فاحصة وأقول دعوهم يمرون هؤلاء المهمشين المنكوبين المظلموين إنهم رفاقي في الكفاح، فارموا لهم شيئا مما تبقى من المجد ؛ لقد ساعدوني يوما ما، لكني لم أعرف أسماءهم ولست راغبا أن أعرف؛ فانما هم أحسن ما يكونون حين يكونون غفلا وبلا أسماء، وانا هكذا أكون أحسن ما أكون على منصة التتويج ومُشارا إلي بالبنان وممجدا بحق وبدون حق.
    أنت لا تصنعني، إنها الطبيعة التي تمنحني الحق أن أصنع نفسي من خلالك، وأن اقوم بالسحر لأنني أنا الساحر الموهوب وأنت المسحور الظان بنفسه ظن الخير. فهل لي بعد ذا أن أقدم شكري لأحد؟ فأمنا الطبيعة لا تتكلم، ولن أغفل ان أفك عقدة لسانها المزموم بما يمكن أن اقوله، وأدس عليها، فيما أدس، كلامي أنا، ورغباتي انا، وسطوتي أنا؛ ما دمتُ أنا المتلكم الرسمي لكيان أبكم، وما دمتَ أنت السامع لي. وسوف تزداد أنت احتراما لي وتنكيس رأس، فأنا الآن لست وحيدا بل من على شرفتي تسندني الطبيعة الطيبة المستعدة أن تمضي معي حتى أبواب الجحيم.
    وتعرف من أين تنبع حكمتي وموهبتي؟ من لا شيء!. صدق أو لا تصدق، فليست هي السماء الطيبة التي تمدني بما أريد، وليس هو الشيطان الذي يصيبني بلعنة الكتابة الأبدية، ويمزق وجودي، ويجعلني اعصر جدران معدتي. لا وجود لوادي عبقر، وليس هذا من شأن الجن؛ فأنا حتى الآن، وهذا سر بيني وبنيك، لم أتشرف بلقاء واحد منهم، وليس هو شأنا من شؤون جبل ألومبوس: لقد اندثرت الآلهة الطيبة منذ زمن، وحلت محلها الآلة الشجاعة بمسنناتها التي لا ترحم. الجن والشيطان والآلهة.. إن كل هذا ابتدعته أنا من أجل أن أوهمك أنني تعب جدا، وأنني أحزن من أجلك، وأقلق من أجلك، وأنني أدعك تنام وعلى ثغرك ابتسامة بينما أنا أناطح السحاب والجبال من أجل أن تصبح صباحا فتقرأ لي، وتقول »واو! يا له من شجاع؛ لقد فعلها مرة أخرى، لقد سهّد عينيه وصدّع رأسه«. نعم، إنك ستأخذ كتابتي بين إبطك كشيء قيم ثمين، وستمشي جاهدا أن تصل إلى مقر عملك لكي تجلس هناك وتفتتح يومك بي وبما أقول، وتقول في ذاتك إنه انما يعنيني أنا، وإنما أرادني أنا؛ فأنا الموظف المعدم، وأنا الفقير المحروم، وأنا المهلوك تحت ركام البيروقراطية اللعينة، وأنا الذي انتحبُ في الشارع من أجل الحياة السعيدة التي ارتجيها، فبعد ذا من سيكون المقصود غيري؟! مع هذا فإني أقولها هنا: إنه لست انت. إنني اخترع فحسب، أهلوس، أكذب، أصنع، أخرُق، سمِّ كل ما يقوله لك القاموس حين تفتح على حرف الميم وتبحث تحت كلمة مخاتل. تصور أنني قلت لك أنني أقف طويلا قبل أن أكتب، وأنني أتلجلج، وأن الساعات تمر من دون أن تخرج مني كلمة واحدة، أو أتفوه ببنت شفة، وتصور أنني قلت لك أنني كنت اقرأ منذ صغري، وأنني دودة كتب لا تمل، ما الذي يمكن أن تقوله إن أنا أخبرتك بهذا؟. إنها ليستْ عظمتي التي صنعتني بل مثابرتي، وإنني اعتمدتُ على توهمك في ازجاء الحماس داخلي، وإنها ليست عبقريتي بعد كل شيء. لا،إن هذا كثير عليك، وأنا اعترف حتما أنني لا يجب أن أقسو عليك وعلى طبيعتك اللينة. إنني أضحك معك، أمزح فحسب، إنها العظمة طبعا، العبقرية، وماذا سيكون غيرها إذن؟ هل سينبع كل هذا الكلام من لا شيء؟ هل تظن أن الالهة ترمي بالنرد، وأن الطبيعة يمكن أن تخاتل في شخصي، وتقع في كل هذا السوء غير المسبوق؟ إن العبقرية تمتصني! وهل ترى أفعالي التي تكون بلهاء أحيانا؟ إنها عوارض العبقرية، وشواهد الإبداع التي تفصل المسافة بيني وبين الجنون بشعرة. وأما ما ترى من مشيي في الأسواق، ومحادثتي لكل البشر، صغيرهم وكبيرهم، أما هذا فإنه تواضع الكاتب؛ فالعبقرية لا تُمنح إلا لهؤلاء المتواضعين الجديرين المحقين العادلين المَرضِيّ عنهم. وهل ترى ابتسامتي؟ انها ابتسامة الكاتب. فبعد كل شيء أنتم أبنائي الذين أحبكم، فأي صدر ستجدون إلا صدري؟ وانظروا إلى معصمي، إن ساعتي الفضية تطوّق اليد التي تكتب، والأنامل المبقعة بالحبر تستحق أن تُقبل. إن عظمتي ليست لي بعد كل شيء، إنها لكم، إنني أشملكم بها، فماذا ستقولون حين تقفون من على بعد، وترقبوني على الشاشة مضاء ولامعا كنجم؟ ستقولون إننا نعرفه. وإنني أمنحكم الحق أن تهللوا لأنفسكم وتقولوا بفخر وعزة »إنه صاحبنا، إنه ابننا، إننا نسكن في ذات الحي الذي يسكن فيه، إنه أحد مواطنينا، وهو رجل طيب ويستحق هذا الوسام، إن هذا الشرف هو لنا بعد كل شيء، فالخير يعم. ولست أنا بعد ذلك بالمعترض إن كان هذا سوف يزيد من بهائي؛ فإن كان الشعاع الذي سيصلك مني لن يكلفني طاقة كبيرة فما المانع؟ إننا نرمي بالريالات في الشارع أحيانا من أجل لفتة، أو نبل متواضع، أو من أجل فتاة رثة تبيع اللبان؛ فهل بعد هذا سوف أتردد في بذل بعض كلمات، الثمن الزهيد للسيطرة عليك وقودك من أنفك وسحقك حتى النخاع؟. هل تريدني أن اقول أنك كادح ومثابر؟ نعم، إنه يمكنني أن اقول ذلك ما دمت سأقف هناك فوق هذه التفاصيل، وأحرك باصبعي قلمي، وأقول لقد كان يرحمه الله ،فأنا إنما أكتبك بعد أن تكون قد مُتَّ داخلي وتحولتُ الى تصورات وأفكار وحركات وكلمات، نعم، لقد كان رحمه الله مثابرا، لقد مضى رحمه الله وحطم أكثر من ثلاثين فارسا بسيفه، نعم، لقد كان رحمه الله عصاميا طوال حياته: لقد بنى نفسه بنفسه. أو ترى؟ إنني أصنعك بلحمة الكلمات، وإنك تتشكل وتنبني وتتطور أمام باصري. ها أنت تريد شيئا، لأمنحْك إياه. هل تريد موتا طيبا؟ هل تريد صراعا عادلا مع السلطة؟ هل تحب أن أكشف أسرارك؟ لا تخف، لن يقول عنك أحد شيئا سيئا؛ سوف نقول بعد كل شيء أنك لست المذنب، إنها السلطة، إنه الزمن، إنها الحياة، إنه القدر: لن نعدم أحدا نعلق عليه فعل الخطيئة؛ فأنت لم تكن موجودا، وحتى إن كنت موجودا فأنت لا تستطيع ان تفعل شيئا؛ فأنت مشلول، وحتى إن لم تكن كذلك، وفعلت كل هذا، فأنت لست المذنب حقا؛ إنه المجتمع، الجينات، الوراثة، البيئة الفاسدة، الطبع السيء، اترك الامر لي؛ إنني ربّ الحكاية وصانعها وحاملها والمحمولة إليه!
    أعرف أنني أفسدك بكل هذا الوعي، وبكل هذه المعرفة. لا تخف. إنما أنا من سيجمع هذه الفوضى بعد أن أكون قد حققت غاياتي؛ لا بأس بشيء من الطُعم حتى أتمكن من جرك إلى شباكي المتينة المصنوعة من جدائل الحكي وألياف الكلمات الطاهرة. هذه »قذارة«! هل تعجبك هذه الكلمة؟ تشمئز؟ تثيرك؟ امسكها هيا، تقدم. إنها لا تحتوي على أي قذارة، إنها فقط دالٌ على شيء وليست هي الشيء نفسه، هيا تلمس بأصبعك حروفها، هل تجد أنها دبقة أو مغطاة بالوحل أو نتنة أو لزجة؟ إنها طهارة اللغة. أتعرف الآن أنني استعمل ما استعمل من كلمات وأنت تظن أني استعمل معانيها؟ هل انتبهت للسر؟ حسنا، إنها قذارة! فانظر الى المرآة، وحدق في عينيك، وقل معي » قذارة، قذارة«، وانظر كيف تتقزز، وكيف يكون وجهك، وكيف تخرج كل القذراة من فمك. ثم ماذا لو أني جعلتك تعرف بعض الأشياء؟ حسنا، لا شك أنني سأخفي عنك أشياء اخرى. هل تظن أنني قادر على منحك كل ما أملك في جعبتي من حيل وأساليب ملتوية وتنويعات سحرية؟ وهب أنني فعلت ذلك فإنما أنا أجعلك تظن أنك خرجت من نطاقك إلى نطاق أوسع، وحسنا، أنا أطوق هذا النطاق الأوسع، وسأجعلك تخرج منه إلى نطاق أوسع لأطوقك أيضا بنطاق أكبر منه: إنني أحيط بك دائما ما دمت أنت قارئي.
    وإليك هذا، هل تعلم حينما أقول لك مثلا أنني أفضل من الفلسفات فلسفة معينة؟ أتعلم حقا ما أقوله لك؟ أوه، إنك تؤكد كل تصوراتي عنك حين لا تعرف بالضبط ما الذي أعنيه. بالطبع أعرف أنك لا تستطيع أن تعرف ما الذي في عقلي، وكيف لك أن تعرف؟ فإنه ليس أي عقل بعد كل شيء؛ أنه عقل الكاتب. إنني فقط أدّعي. إنني أدعي أنني أعرف الفلسفات جميعها، وأنني من مقارنتي لها وجدت الفلسفة المعينة تلك أحق بالاتباع! فيا لكمية ادعائي ومخاتلتي! أرأيت؟ إنني ألعب بالكلمات من أجل أن تقول أنت »يا للهول«، »يا لله«، »ياللعنة«، من أين يخترع هو هذا؟ من أين يأتي بكل هذا؟ ما هو السر؟ القهوة التي يشربها في الصباح؟ الأقلام التي يستخدمها؟ حبيبته؟ سيارته؟ أصدقاؤه؟ ما السر؟ هيا، ما السر؟ اخبرنا. متى انزرعت بذرة العبقرية فيه؟ كيف ترعرع بجانبنا ولم نستطع أن نلمس تلك النبتة الطاهرة؟ إننا نعرف أبوه وأمه وكامل عائلته!
    ولكن لا داعي للحزن؛ فكما تكونون نكتب لكم. وإن هذا يدخلك في اللعبة يا قارئي العزيز، فأنت في النهاية من سيقرأني: إن بيننا مصلحة مشتركة، ولكن لنعترف: أنا أتقدمك بخطوة، وألعب بك وأعبث بأفكارك؛ إن هذه وظيفتي بعد كل شيء. هل تحسب أنني يمكن أن اكون طيبا أو نبيلا؟ لكن كيف؟ أنت تريد مني ما لا أستطيع يا قارئي الطيب الساذج، كيف سأكتب عن الخير إن لم أكن أنا فوق الخير؟ وكيف سأكتب عن الشر إن لم أكن أنا فوق الشر؟ فوق هذا وذاك يقف عرشي؛ ولذا لا أستطيع أن أكون محايدا معك، إنها الطبيعة التي للأشياء، فهوّن عليك، إننا لن نختلف. قل لي ماذا تريد ان تقرأ؟ سوف بالطبع أعد لك طلبك؛ خادم القوم سيدهم، هل تريد ان تكون طيبتك نابعة من كرمك؟ حسنا لك هذا، أرأيت؟ إنني كاتب طيب بعد كل شيء؛ فأنا احقق أغراضك في النهاية، لا داعي لكل هذا الاكفهرار، أعرف أن الفكرة لا تروق لك، لكن لا بأس، أنت محتاج أن تردد معي فحسب مائة مرة »إنني أحب هذا الكاتب، إنني معجب بهذا الكاتب، إن هذا الكاتب جيد« كررها فحسب بصوتٍ عالٍ حتى أسمعك، هيا، كف عن اللجلجة، إني أرفع أصبعي تجاهك فحذار أن يصيبك غضبي أو تحلّ عليك لعنتي: سوف أمزقك، سوف أرميك قطعة قطعة للذئاب. لن اجرؤ؟ حسنا، لأعترف: هذا يعتمد على المصلحة التي ستنالني؛ أنا كما تعرف برجماتي بعد كل شيء، هل تراني كنت سأكتب كل هذا من غير أن تصيبني متعة ما، إنها السطوة التي أصيبها من خلال إذلالك، السلطة التي أتشبث بها زاعما أنني افعل ذلك من أجلك. ألا تريد أن تخوض الجدال؟ أنا سأخوضه عنك. ألا تريد أن تنبش الاسرار؟ أنا سأنبشها عنك، أستمر أنت في أمنياتك وأحلام يقظتك، أنا سوف أحقق لك ما تريد، لكن لا تأتي بعد كل هذا وتحاول مقاسمتي سلطتي، انني ألتزم بك من اجلي، نعم، هذا هو التعبير المناسب، إنني التزم بقضاياك، وأحاول أن أقلّص قطر دائرة التزامي إلى الصفر لأتحرر من وعودي تجاهك. تريد الحقيقية، لك الحقيقة. تريد التمجيد، سأمنحك التمجيد، قل ما شئت، أنا رهن اشارتك، لكن حين تستمتع بكل ما أكتب اجعلني فوقك؛ إني، في النهاية، استحق هذا. إنه ليس كرمك الذي يعطيني ما أستحق بل هي شجاعتي في الكشف، وعمق نظرتي، وبينما انت تتلمس المنبه صباحا لتُخرِس رناته التي يجب أن توقظك أكون أنا قد انتشلت ظهري من على كرسي الكتابة القاسي، فعلى هذا الكرسي أحكم على نفسي من أجلك؛ فلا تقاسمني مجدي وسلطتي، واعط ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، وخذ أنت ما يتبقى.
    وفي النهاية ماذا يجب عليك ان تفعل؟ تنهض صباحا لتكدح ولتعمل؟ تسوق سيارتك إن كانت لديك واحدة في طريق مزدحم؟ وتقف لترى رصيدك في البنك يضمحل شيئا فشيئا قبل نهاية الشهر؟ وتذرف دمعك من أجل حبيبتك التي فارقتك؟ وينفطر قلبك على ولدك الذي أغواه الشيطان فأصبح مدمن مخدرات؟ وماذا يعني كل هذا؟ كل هذا إنما هو داخلك، واقعك الضيق، عالمك الهش، أما حين أحول أنا هذه المضغة الفاسدة إلى كلمات، أما حينها فحسب، فإنك تدخل معي في المجد: إن صباحك لا يغدو صباحا عابرا بل سيلتحف بالخلود، وكل مرة سيأتي هنا من يعيد صباحك، ويراك تحرك سيارتك في طريقك المزدحم، وسيقطر حرقة وأسى من أجل حبيبتك، ولا شك سوف يفعل الأمر ذاته حين يصل الى رصيدك المضمحل ومديرك القاسي ومؤسستك المتآمرة عليك. وهل لي أن أضيف هنا أنني أستطيع حتى أن أجعلك بطلا وجوديا غارقا في لُجّة هذا العالم، ومنفياً في الزمان، ومرميا بك في معمعة هذا الوجود، مسلحا فقط بالقلق وبالغثيان وصخرة على رأسك يجب أن تحملها لفوق لتسقط من جديد. أرأيت؟ إن همومك الترابية التافهة تتحول في يدي إلى تبر، إنها مجرد وقائع بسيطة في حياتك لا تساوي شيئا، ربما في نهاية الاسبوع استطعت أن تُحدّث أصدقاءك بها وأنت نصف ثمل قبل أن يجيش بك البكاء، لكن هذا قصارى ما ستفعله. أما حين يصل الموضوع إلى يدي فإنني أنتشلك من العدم، من العبور مغمورا على هامش الوقت، من تتابع حياتك باتجاه الفناء، وأقدم لولدك من بعدك والده الثائر، والده الشهم، النبيل، الذي أبى أن ينصاع لحركة القدر الظالم ولحركة الحياة المُفجعة، وظل قابضاً على الجمر من أجل أن يعيش ولده بطمأنينة، ويرضع سلام العالم ويأكل من على طبق الحياة المثلى التي خلقتها أنا لك. فإني أخلقك في الكلمات، وأمد لك من عمرك، وأرضعك أكسير الحياة الذي سيوقف الزمن عند صباحك المزدحم، ورصيدك المضمحل، ولي أن أتتبع أشياءك إلى نهاياتها وتفوز بقبلة الحبيبة المشتهاة التي أطلتَ انتظارها لكن والدها سوف يترصدك، وينهال عليك ضربا أبناءُ عمها، وسوف يمعنون في تعذيبك، ولن تستطيع ان تتقدم بعدُ خطوة واحدة في اتجاهها إلا بأمري وبقدرتي، وحينها فحسب سوف أفكّ عقدتك وأجعل والدها يعترف أمام نفسه أولا، ثم أمام الآخرين، أنه كان مخطئا، وسيأتي أولاد عمومتها إليك بباقات الزهور إلى حجرتك المرتبة في المستشفى ليقدموا اعتذاراتهم، وسوف تخرج صحيحا بلا خدوش مستديمة، وستعيش حياتك معها بالذي ترغب فيه من حب ونحوه.
    أتستطيع الآن أن ترى على أي جانب أنت تقف؟ على الجانب البعيد، المعزول من سلاح الكلمات الفاعل، بينما أنا أُشهر هذا السلاح من أجلك، إنني بعد كل شيء مهم لك: إنك بي تحيا، وبي سيعزّك أولادك، وبي ستدخل باب العظمة. وأنا لا أطلب منك بعد كل هذا أمرا عظيما، أو جزية كبيرة، إنه يكفيني ان تردد بين فترة وأخرى لولدك الجالس على يمينك من خلف نظارتك » يا له من كاتب عظيم«. إن هذا بالطبع ليس مهما لي لكوني محتاجا له، لكني سوف أرضى عنك لأنك بهذا تخبرني أنني أفعل شيئا جيدا لك؛ فباعترافك أجني أنا ثمرة كرمي ونبلي، وبنبلي وكرمي أتفضلّ عليك، وهكذا، إنها حلقة أديرها أنا بخيوطي من فوق.
    أنت مخطئ. فلا تزد خطأك شدة بمحاولتك التعريف بي؛ فإنني يجب أن أنتهي عند النقطة التي في نهاية النص، إنني لا أضعها هناك تأدبا أو حساً بعلامات الترقيم بل أفعل ذلك لأضع فاصلا بين خط الواقع الضحل الغبي الذي تمثله أنت واللاواقع الباهر العجائبي الطاهر الذي أخلقه أنا لك. لكنْ بعد هذه النقطة فأنا انتزع نفسي من أمامك وأدخل في عالمي الخاص؛ لقد قلتُ ما أردت أن أقول، وضمّنت ما أريد بخفة بين سطوري، لكنني لست مستعدا بعد هذا لإضاعة وقتي معك. وهل تظن أنني يجب أن أكون صبورا معك أو متسامحا أو متأدبا؟ وحين ألقاك في الشارع يجب أن أغرس يدي في يدك؟ وأن ابتسم لك وأنا أرى في عينيك التماعة قافزة بلقاء كاتب عظيم؟ إن هذا ظن خاطئ ومشوّه؛ فأنا لو كنت أرغب باتخاذ مزيد من الأصدقاء لنشرت إعلاناتي في الجرائد والمجلات لكنّ اصدقائي يكفونني في الوقت الحالي، ولديّ قائمة طويلة في الانتظار، ولن يهمني أن تكون أنت راغبا في ذلك؛ فإنه بعد تلك النقطة الفاصلة بين سطوري وبينك ينفصل عالمانا، وانسحب أنا باتجاه العدم الذي جئتُ منه مُودِعا عالمك القزم وراجعا الى قواعد انعدام وجودي الآمنة. إنني أعرف أن الجغرافيا تحاصرنا أحيانا، وأن مسقط صغيرة، وأنني في النهاية سوف أسلك ذات طريقك، ولا بد لي أن أصطدم ببعض معارفك هنا أو هناك، على شاطئ البحر والموج صاخب المزاج، في الطاولات المعزولة لمطعم غريب، في المقاهي المسقوفة في شارع مزدحم، في مهرجان متلاطم الألوان؛ فأين سأذهب من ظلم هذه الجبال وعَنَتِ حجارتها القاسية؟ ومن أين أستطيع أن ألج البحر وأنا كل ما أملك بضع كلمات وقليل من العقل؟ وإن كنتَ فقيرا أو معدما فلا تحسبن أنني قادر على مساعدتك، إنني بالكاد أستطيع مساعدة نفسي، ثم إنني لستُ كريما، إن أسلوبي في الكتابة شيء آخر. صدق أو لا تصدق. وما تحسبه أنت جميلا قد يكون أحقر ما كتبتُ، وما تعتبره أنت مشكوكا في قيمته قد يكون بالنسبة لي الأقرب إلى القلب؛ فأنت تقرأ لك. وعلى العموم، فأنا لن اطلب رأيك ولا مشورتك فمرّ عليّ مرور الكرام، ولا تحاول أن تبدو فاهما ومثقفا، فأنا لست فاهما ولا مثقفا، وإنما أكتب أحيانا ما يجول في خاطري لأني أحب ذلك، ويروق لي أن أراني مُضخّما وأنيقا ومُنسابا في الكلمات. لا بأس إن أنت أشرت إليّ من البعيد مُعرِّفا صديقا لك »إنه كاتب عظيم«، »إنه كاتبنا، وإني أعرفه جيدا«، »تجمعني به صداقة جيدة«، قلْ ما شئت، اكذبْ باسمي لكن لا داعي للاقتراب مني؛ فأنا لا أملك المال ولا الوقت ولا الشجاعة لأن أقوم بالرد عليك والتربيت على ظهرك. تقرأني؟ خيرٌ وبركة. معجبٌ بي؟ يا للهول. قرأتَ مقالاتي الأخيرة؟ أعجبتكَ قصتي؟ جيد، إن هذا لرائع، إن هذا لعظيم، فقط اجعلني وراء ظهرك الآن، تنحّ قليلا لكي أرى الشمس: لقد اخترتُ وسيلة لقائي بك عن طريق الكلمات، وهذا ما أعتبرُه ارادتي الحرة مُعبَرا عنها في أبهى صورة وأدق معنى، أما ما بعد ذلك فلا يهم. لم تنمِ الليل؟ أرّقتكَ الفكرة؟ تبادلتَ النقاش أنت وأصدقاؤك؟ حبيبتك تقول أنني كاتبٌ جيد؟ حصلَ أن ابن عمك قد درس معي؟ كل هذا لا يهمني، لا اهتم لسماعه، أو جيد أن تقوله لأحد آخر، طرفٍ ثالث: وشوشْ له في أذنه واستخدم أفضل ما تعلمتَه مني من كلمات، مُضخِما ما هو قابل للتضخيم، ولا تسرف كي لا تعطي انطباعا بالاسراف أو التحيز، وقلْ الأمورَ بثقة، وهنا سأعتبرك مُريدا جيدا، ونافعا. لكنْ حين رؤيتي انسحبْ بدون مصافحات وأياد ممتدة، وبلا أسماء. فأنا، باختياري الكلماتِ وسيلةً، أسحبُ الرفض على جميع الوسائل الأخرى، شرعيها ولا شرعيها، وبسيطها ومعقدها. أعرفُ أن هذا فيه شيء من الظلم لأنه يجعلني متحكما ومالكا لوسيلة التخاطب ومبتدئا بها لكنّ هذه هي شروط اللعبة، وأنا لم أُنشئها لوحدي لكنني وجدتُها ووجدتُ أني قادرٌ على الاستفادة منها، وأنت وجدتَها وانزلقتَ في مكائدها، فلا خبثي شرٌ في ذاته ولا غفلتُكَ خيرٌ في ذاتها، وإنما كلانا رهن قدر مرح، وركامٌ على تلة زمنٍ عالٍ يراكمنا ويراكم غيرنا. فهل تريديني بعد ذا أن أهاجم القدر الذي يمنحني ابتسامة الصباح وسر الكلمات ورائحة شباكها اللزجة؟
    في اللحظة الفلانية في اليوم الفلاني نَمتْ فكرةٌ في رأسي فكتبتُها، لم أعرف جدواها، وهذا كل شيء، ثم أعلنتها على الملأ . طبعا أنا أتوقع أنك ستقرأها، لكن لا يهم، لأنني كتبتُها وأنا أتوقع أن أحدا ما سوف يقرأها، لكنّ هذا محض توقع. وحين قمتُ بخداع ناشري أو أنه استطاع خداعي، واتفقنا أنا وهو أن ننشر ما كتبتُ فإننا إنما نَزِنُ مصالحنا الخاصة التي ليست مادية دائما، ونعرف في النهاية أنه لن تقع خسارة ما لنا كلينا، وأن الفائدة المضافة سوف تعود إلينا إن عاجلا أو آجلا، وأنك قد تكون الخاسر الوحيد أو تكون أحد المستفيدين؛ فالخسارة إن تكون فهي لك، والفائدة إن تكون فلربما شملك نصيب منها. ولتعلمْ أنه بعد لحظة النشر أو لحظة الكتابة، أيهما تشاء، لا أكون مسؤولا عن كلماتي؛ فإنني قلتُها في زمن معين، ومكان معين، وكان في رأسي أفكار بعينها، وأهداف بعينها، وليس هذا معناه أنني سأظل جامدا في اللحظات، ومتفقا مع ما قد أنتجته الآلة الدماغية التي أحملُها، فإنني انطلقُ في الزمان مثل منحنى، وأكون في كل لحظة في نقطة غير التي كنت فيها، وربما انحرفتْ مساراتي ودخلتُ في المجال السالب؛ فإني، ذاتي، لا أعلم ما يُراد لي مثلك تماما، إنما انا ألعب على مستوى أعلى قليلا، وأحاول أن أجيد اللعبة التي علمتني إياها الأيام. فإن كنتُ أنا »سين واحد« التي أزعجتْك ذات مساء فلا تأخذنّ الأمر مأخذ الحقد فإنما تفاعلك وردة فعلك هي التي أزعجتْك، فلا تُحمِّل كلماتي ما من شأنه أن يُخل بالموضوعية العلمية والمنطقية التي تُسند بعضَ هذا العالم؛ فكلماتي كانت هناك خاليةً من الروح، ومرميةً في الصفحات بلا نور، ولا نار، ولا حرقة، ولا غضب، ولا أي ما من شأنه أن يفعل شيئا للآخرين. ثم أتيتَ أنت بمحض إرادتك وبكامل قواك العقلية فألقيتَ بوعيك في الصفحات، فهل أتحمل أنا عبث العابثين وشقوة الفضوليين؟ ثم إنك حين تكون مُحاطا بفعل القراءة أكون أنا قد انتقلت في الزمان الى أنا »سين اثنين«، التي هي حتما شيءٌ آخر عن أنا »سين واحد«. وهكذا، ترى أنك في النهاية حتى وإن كنتَ صادقا في اتهامك كلماتي بإغضابك، أو إكراهك على فعل شيء، أو بالتلاعب بعقلك وكأنك يافعٌ صغير، حتى لو حصل هذا فإنما غريمك قد مات وعليه سقطتْ دعواك بحكم انتقال المُدّعَى عليه إلى مكان نعرف عنه أنه ليس بمقاطعة بشرية نستطيع فيها مقاضاته أو ملاحقته. فهوِّن عليك، واعتمدْ على ذاتك، فإن نشري لما أكتبُ ليس معناه بالضرورة المنطقية السببية اقرأني، إنما هذا تفسيرٌ واحد، استقراء حدسي فحسب لما يمكن أن يكون عليه الحال، فقد يعني هذا أنني متعبٌ، أنني قرف من هذا العالم، إني أكرهك، سوف أحاول خداعك، وعلى هذا فلا أريدك أن تظنَ أنني محض خير ومحض فضيلة ومحض حب فأنت تعرف مُسبقا، كونك أيضا كائنا حيا، أن مثل هذه الأشياء غير موجودة في نطاق الحس العادي الذي نعيش فيه. إنني شهواني أحيانا، وغاية في الضغينة والحقد أحيانا، وأتخابث أحيانا، وأحبُ أن أُفرغ مثانتي وأحقادي، وتحدوني رغبة الركض أحيانا، وأكون لامباليا وأنانيا وكل تلك الأشياء التي تعرفها والتي عادة نقول عنها أنها تقع في الجانب الآخر لما نريد ان نكون عليه. فما أدراك أي هؤلاء كنتُ حين كنت غريمك الواقف في سين واحد، والذي تريد ظلما أن تعلّق عليه خطيئتك؟ يجب أن تتفحص ذاتك، وأن تكون قادرا على أخذ المسؤولية والالتزام بما تقرأ: إنه التزام القارئ؛ فانت ملتزم بنفسك، وعلى قدر التزامك هذا فإنك تحدد ما تريده لها من خير، وما يُمكن أن تحمِّله إياها من شر. وأنا في المقابل سأكون ملتزما بذاتي، وسأحاول أن أبرز ما أظنه خيرا أو شرا حين أكون بكامل وعيي، أما حين أكون مُصابا بتسلط اللاوعي عليّ فصدقني لن يفيدك أن تُحمّل الذنب على والدي، ولا على نشأتي، ولا على الوراثة، فإن فعلك هذا إنما هو عملية ازاحة، وإنما النقطة التي تقصدُها وقد ضللتَها هي ذاتك أنت وأناك أنت.
    ولا تحسبنّ بعد ذا أني مشاركك في الذنب؛ فإني حين أكتبُ أضعُ ضميري على الرف، وأحاول قدر استطاعتي ان انسى ما يمكن أن تحققه كلماتي من شر أو خير، فإنه أنا لست الأول الذي يفعل هذا ولست الأخير، ولن تكون أنت أول مظلوم على وجه هذه الأرض ولا آخرهم. فتنحَّ قليلا عن مركز الكون، واعلم أنك كسائر الذرّ السابح في ملكوت هذا العالم المتناثر والمنطلق مبتعدا عن مركزه. ولن أُفيدك في شيء حين يُثقلُ عليك ضميرك، ولا تحسبنّ انني سوف أعترف بما كتبتُ أو أدعيّ أنني كتبتُه بمحض وعيي وإرادتي، وسوف أفعل كل ما من شأنه أن يُظهر صفحتي بريئةً؛ فلستُ أحمي المغفلين. فارجعْ إلى أربابك وقلْ لهم ما تشاء، وادعُ عليّ من على صهوة منابرهم، ومن على سرج كآبتك، فلن أُعدمَ من يساعدني على إغلاق أبواب السماء في وجه دعواتك المتهالكة. وحين تأسُرك كلماتي فامدحني، وقلْ ما شئت، ولاتتردد في اضفاء المديح عليّ، وافتخر بي أمام أقرانك. أما إن كانت صدمة الكلمات أكبر من أن تُتَحمَّل وفقدتَ القدرة على التعبير فاجعلْ عينيك تنسابان بالدموع المالحة، وانشرْ في وجهك معالم الحبور والغبطة وأنت تُشير إلى كتابي الذي بين يديك؛ إنني أستحق هذا بعد كل شيء، وإنما تقوم، أنت، الآن، بواجب الخدمة الذي يتحتم عليك أن تقوم به.
    إنني المعلاق الذي تعلق فيه أمانيك وأحلامك ورغباتك ومثلك الغارقة في الهلام. أنت تريد من يدافع عن حقوقك ويكشف الآمك لأن ذلك متعب نوعا ما؛ فالزعيق يحتاج إلى طاقة كبيرة وزخم شديد، وأنت مشغول بلقمة العيش، بالتخبط في الحياة الظالمة، بالبحث حول فتات الموائد، بالقضايا الصغيرة التي تتناسب مع حجمك واهتماماتك، فكيف لك بعد ذا أن تُتقن الحديث عن مطالبك العادلة؟ وعن رغبتك في الوصول ألى الأفضل؟ عن أحلامك في السطوع؟ في تجاوز الحد الفاصل بين المغمور والمشهور؟ في رفع الرأس؟ في التكلم بكرامة؟ إنني أُشعل وطنيتك، وأُلهب ضميرك البارد، وأجعلك تشعر وكأنما العالم ملك يمينك ورهن قبضتك، وأنك قادر على الهجوم، وقادر كذلك على الدفاع. إنك موقن بهلاك العالم لأنك تستعير بصيرتي، وتعرف حدود معرفتك وقدرتك لكنك مع هذا ترغب في أن تكون لك القوة والقدرة على صب اللعنات: إن شخصيتك الوادعة التي سرّبها والدك إليك عن طريق الأوامر القاطعة والإشارات المهدِّدة تمنعك وتجعلك مؤدّبا أمّا أنا فأمنحك اللغة البذيئة والعنف اللفظي الذي تحتاجه لمجابهة أعدائك. وسوف تشعُر بالغبطة وأنت تقرأ؛ فقد تحررتْ منك الطاقة العدائية التي تُلهبُك وانبسطتْ قبضة يدك بعد أن لوحتَها بغضب، وسوف تنساب الدموع من عينيك فرحاً بالقبلة التي تظنها أنها لك، وإنما هي للبطلة التي أودعتُها قصتي كي تجعلك تحسُ أن حياتك ليست على ما يرام: إن حبيبتك قبيحة بعض الشيء، وزوجتك ممتلئة قليلا وإنها، بعد هذا، غير صالحة للحب، ولا تحترم مشاعرك؛ فأنت تحتاج إلى واحدة تشبه البطلة التي أخلُقُها لك، وإن أولادك قذرون، ولا تعرف كيف ستواجه هذا العالم مسلحاً بكل هذا الجهل والغُبن حتى أحضر أنا هنا، هكذا مرة واحدة، وأسطعُ من علٍ بكامل بهائي، وأمنحُك تهويماتي وتعاليمي مرصوصةً في الكلمات، ومشارا لها بالأحرف، وبهية، وناصعة، ولا تحتمِل إلا أن تكون محاطةً بهالات المجد. وأني أعرف أن بعض كلماتي سوف تدغدغ مشاعرك علويها وسفليها، وسوف تجعلك تنتشي طربا من خفتك اللامعهودة، ومن أناك النبيل، ومن ذاتك المعبَّر عنها بنقاء. وحين أفعل ذلك باتجاه الأسفل فإنك تبلعُ ريقك المحبوس، وتمسح بلسانك على شفتيك اليابستين، وتتحرك حنجرتُك في حركة بلع عصبية وسريعة، وتندلق من عينيك ومن زاوية فمك الملتهب قطرات الشهوة الندفة التي تضيئ داخلك المظلم الغائر في النزق والشهوات؛ فقد قبّل البطل حبيبته، وها أنت الآن تتحد فيه، ومن على جسمه الغض الفتيّ تنقذفُ بكامل فحولتك نحو سراديب اللذة الأبدية كيما تشعر بعدها بالعذوبة الهانئة تنساب من بين يديك ومن خلفك، وتشم رائحتها الدبقة تلطم أنفك بسلام، وتنام بعدها وأنت تُغلق خلفك ابواب هذا العالم العفن. إنها هذه البقعة التي افتحها لك ما يجعلك تشعر أنه ثمة أمل في هذا العالم المتداعي، أنه ثمة وميض لشيء ما، نور ينفلج من الداخل، ورغبة في التحسن؛ فالمعدوم أصبح غنياً، والظالم انهالَ عليه الزمن بجبروته الذي يفوق كل جبروت، والرغبة ولّدتِ المتعة، والمحسن كُوفئ بالحسنى أو أُجِّل حسن حسابه لما بعد من غير أن تفوت عليه فرصة أن يتمتع بهناءة القلب وبراحة البال، والظالم غُصَّ بثمرة ظلمه وعَنَتِه؛ فيالكلماتي العادلة! ويالميزاني الدقيق! الجنة التي أخلقها لك أجعل عليها أسوارا، وأصفُّها في الصفحات، وأُسلِّمُك مفاتيح خزائنها، وما عليك إلا أن تترصد اللحظات، وتتسللَ خلف زوجتك التي تكون آنذاك منشغلة بالطبخ أو غارقة في وسوسة هذا العالم وصخبه، أو توصدَ باب مكتبك وتمنع شعاع الرؤية من أن يوصل صورتك إلى مديرك في الحجرة المقابلة، وبعدها تستطيع أن تدير المفتاح لتضيئ يومك وتقرأ ماضيك وتكتشف مستقبلك؛ فقد انفتحت طاقة الكشف بين يديك، وها أنت تنسى العالم، وتتحد مع الصمت الذي تبثُه الكلمات الصاخبة، وتذوب بين أحضان الدفء البارد. وإن هذا بالضبط ما ينقصك ليسحَبَك الغد إلى شوارعه الصاخبة بمزابل الحياة، وليجعلك تنسى الشعرات البيضاء التي ما تني تظهر على فوديك، وتجعلَ نسمات الزمن تمرّ على خديك بطراوة من غير ما تشنجٍ أو قشعريرةٍ حادة. لقد أُعيد خلقُكَ، وارتدتْ لك الروح يوما آخر، فما عليك إلا أن تجترّ بعض طاقتي، وتتصرف من خلف ستار المرح الذي تمنحه سخرية الكلمات.
    إن ما أملكُه، ولا أدري إن كنتَ قادراً على فهم هذا فإنه غاية في الصعوبة، ما أملكه هو النفاذية، القدرة على الاختراق، البعد، العمق الذي تخترقه نظراتي؛ فبينما تنزلقُ نظراتك أنت على سطح الأشياء من غير ما فهم لها تتغلغلُ نظراتي في الأشياء وتتجاوزها: إنها تقفُ خلفها وعلى قمتها وفوقها ومحيطة بها. إن العالم الذي أراه ليس عالمك بل هو عالم آخر، عالم حقيقي، ناصع الحقيقة، مبرأ من الحساسية، ومن التطريزات والتمظهرات الخارجية. وليس هذا معناه أنني لا أملكُ القدرة على رؤية الأشياء الأخرى؛ فأنا لست نوعا آخر عنك، إنني ما أزال بشريا، ولكنني امتدادك الذي تجاوزك بمراحل، ويقفُ سابقا عليك في الزمان؛ فكل ما تعرفه وتراه من هذه الأشياء الملقاة بعبث في هذا العالم أعرفُه أنا وأراه، لكني أتجاوزُك بالاحاطة والادراك وعمق الرؤية؛ فالأشياء بالنسبة لي هي أمرٌ آخرٌ عن أشيائك المَوات المدثّرة بالصمت وباللاشيء. فكل شيء عجائبي وينبع من مشكاة الفن، وإنك لا تستطيع مثلي أن تسمعَ تلك النغمة الواضحة التي تبثُها الأشياء؛ فأنت مغمور في ضوضاء الشوارع وأنّات الحياة، وإنْ تصعدْ قليلاً، قليلا فحسب، فسوف ترى من على القمة كيف تبدو كلُّ اشيائك تافهة وحقيرة وغاية في الضعة، لكنّ ذلك مستحيل؛ فأنت لا تستطيع أن تتجاوز المقام وتتعدى عتبة المشاع والعادي. وهذا ما يجعلك مُقيدا بفرحك الصغير وبحزنك الصغير، بمشاعرك المتذبذبة التي لا يمكن أن تكبُرَ إلا لتصغرَ مرة أخرى وتقذفك في أشيائك الصغيرة التافهة. أنت تحزنُ لكنّ السماوات لا ترقص لحزنك، وتفرحُ فلا تتزلزل الأرض لفرحك؛ لأنه خارج حدود ذاتك فإنّ هذه الأمور تُعدُّ حوادثاً، أشياء عارضةً وذات محدودية بسيطة. إنها تفقدُ معناها حال الخروج عنك، فمن أين لك أن يسمعَك الآخرُ والأبواقُ صنعتُها محفوظة الحقوق لي، وهي رهن أناملي. أنا لا أنكر أنك تتألمُ، ولا أنكرُ أنك تفرح أيضا، وتغتبط بأشيائك الصغيرة، لكنّ هذا كل شيء، نقطة قاصمة، انتهى موضوعك: لن تُفرِح الآخرين، لن تجعلَهم يحزنون لحزنِك، فكيف ستوصِلُ مشاعرك وشجونك من غير ما أدوات؟ ومن أين ستكون الأدوات إلا من مصنعي أنا؟ ومن أين لي أن أمنحك أسرارها ما لم تقرأ لي؟ إنك بكلماتي تُضاعفُ محيط دائرتك، وتعلو على نفسك وتتوسع حياتك لتشمل حيوات أخرى غابرة وأخرى ما تزال في العدم، وترى نفسك بعد ذا عبر المرايا التي أُمرّرُها أمامك فتستطيع المقارنة وتتجمل وتتحسن وتنحو باتجاه الأحسن؛ فبالمقارنة مع أبطالي وقصصي فحسب تعرفُ أنك تافهٌ، وتعرفُ أن زوجتك غارقةٌ في التهافت، وأنك تحتاج الى حبيبة حقيقية: أنا أصنع لك المثالي، الحالم، البعيد، المطلق، الغاية في كل شيء، الذي يعرفُ كيف يجعل الحياة تسير رغم عثراتها، ويعرفُ كيف ينظّم الأمور رغم عشوائيتها. وما عليك بعد ذا إلا أن تتأفف من حياتك وتتضجر ممن حواليك فقد مَنَحَتْك الكلماتُ أصدقاءَ واعين ومرحين، وحبيبة لا تَمَل من التقبيل، وألواناً تُبهج العين، ونهايات سعيدة أو متحكمٍ فيها على أقل الظنون.
    لقد سطّرتُ العديد من الصفحات ولا أحسبني بعدُ قلت شيئا؛ فأنا أريد شيئا معينا من هذا كله، إن لي غاية، أنا لا أعرفها تحديدا لكنْ مع هذا أتوهم أنني أعرف شيئا منها. دعني أخبرك الحقيقة: أنت تهمني، تهمني حقا؛ فأنت جزء مني، أأستطيع أن أعيش أنا بدونك؟ أن أُحقق مجدي المزعوم؟ من سيضخّم اسمي إن لم تكن أنت؟ من سيقرأني وينتفض سرورا ويُلقي بالأوراق رغبة في الرقص أو غضبا حين يكون ما أكتب مُغضِبا؟. لكنّك غافل عن هذا، وهذا الذي أود أن أقوله لك، غافل عن أهميتك في صنعي. أرأيت؟ إنني طيب بعد كل شيء، ووادع القلب؛ فمصلحتك تهمني. وإني أُبصّرك حقوقك، ولك بعدها أن تقول: نعم، لقد عرفت ما تبغي، ولي أنا أن أحكم فيما أفعل، أو تقول أنا أعرف هذا من قبلُ ولم تأتِ بجديد. والأمران لديّ سيان، لكنني أحمل أمانة، حقا إنني أتكلم جدا، إنني أحمل أمانة الكلمات. فهل ترى من عبث أن أستطيع أنا استخدام هذه الأداة؟ وهل هي فقط عشوائية الكون التي تحرّكني؟ أو ليس من هدف؟ أو ليس من نظام يُحرّك كل هذا؟ ونعم، إنني أعرف أنك أيضا طيب القلب، ووادع السريرة ونقيها. أنا لا أختلف معك في هذا، وإنما فقط أود أن أُخبرك أنك غافل عن أصول هذه اللعبة، وغير مدرك ما آلت إليه بعد كثير لعب، ولا تعرف أين موقعك أنت من كل هذا؛ وهذا ما يجعلني راغبا أيما رغبة في إخبارك عن الشؤون التي تخصك في كتاباتي. وصدِّق أو لا تُصدِّق فأنا راغب في مزيد من المجد؛ فحين تكون أنت ذكيا، وواعيا، فهذا له معنى واحد فقط، أنني أعرف كيف أصنع قرّاء واعين، وأذكياء. لا أريد ان أكتسب أنا مجدي من غبائك، وقلة فهمك؛ فهذا شأن اللصوص الهواة الذي ينبنون من السقطات، إنما أنا محترف، وكلما كان ذكاؤك شديدا، وفطنتك نافذة، كان مجدي أنا مضاعفا. إن رقة القلب لا تنفي أن بيننا مصالح مشتركة، وإن مصالحنا المشتركة هذه لا تعني بالضرورة أن يستغل أحدنا الآخر من غير علم الآخر؛ فهل ثمة عالم بلا مصالح؟ لكن المصالح تظهر وتستتر، وتكون شيئا وتكون أشياء أخرى، لذا أرغب ان تشكّ في كل كلمة أقولها، وتحاول أن تدقق فيها، وتغربلها بغربال ذكائك؛ فأنا ذو هفوات، وإنما من خلال مسّك لهذه الهفوات، وإعلانها على الملأ أتطورُ أنا، وتزداد أسلحتي فتكا، وقدرتي مُضيّا. فأنا لا أرغب فيك خاملا، ولا مستقبلا عاما. وهكذا، أودّ فحسب أن أخبرك أنني راغب في التطور، لكنّ هذه الرغبة لا تتحقق وجودا إلا بك، وبتطورك معي. تصوّرْ أنني قلتُ كلاما كبيرا، كلاما عاقلا جدا، وعلى مستويات أعلى من مستواك، أتُراك تفهمها وتعقل ما فيها؟ فأين يضعني ذلك؟ في خانة من لا يُفهم، في خانة ذوي الأبراج العاجية. أنا لا أشكُ في قدرتي، وأنا أعرف أنني قلتُ كلاما جيدا، وقابلا لأن يزيد العالم أناقةً وجمالاً، وإلا فإن ذلك لا شك سيقرصُ كرامتي، وأعرف أن المشكلة في المعادلة هي في طرفك أنت، غير الموزون، لكنّني يجب بعد ذا أن أُقلّل من معياري، وأُنقِص من قيمة طرفي لكي يتناسب معك، أو أن تقوم أنت برفع معيارك وتزيد من قيمة طرفك حتى يتناسب معي، وأعرف أن ثمة حلول أخرى أيضا، فمثلا، أنا أستطيع أن أظل كاتبا لما أشتهي، وأنت تظلُ غير ما فاهم لما أقول، ولا راغب في ذلك، وأظل انا أضرب رأس الكلمات في السطور حتى يأتي من صُلبِك من يستطيع أن يُقدّر كلماتي حقّ قدرها، لكنني، أنذاك، سأكون قد مُتُّ وانتابني العدم، وأنا لا أريد أن يكرّموني بعد وفاتي؛ فإن هذا حق لي، وليس حقا للأجيال القادمة. تستفيدُ الأجيال القادمة، يدْعون لي، ينبُشون قبري ويحملون رفاتي، التي ستكون طاهرة حتما، إلى مقبرة أكثر بذخا، ويعتبرون تقديسي كرامةً وطنية، لِيفعلوا ما شاءوا؛ فأنا لا أكونُ بعدُ ملكي، بل أكون مُلكا مَشاعا. ولتُملِ عليهم أهواؤهم أي شيء، فمن ذا سيعارض؟ صحيح أنني أنتج هذا الشيء الذي تراه أنت في رداء الكلمات، وأنا لا أقول مطلقا أنه جاءني من الفضاء الخارجي، أو ثبّته داخلي أقوامٌ لا مرئيين؛ فأنا تسلسل مجتمعكم، وابنكم، ورهين حضارتكم، وقد اكون متجاوزا لكم في الزمان، لكنني ما أزال مشدودا لكم بخيط الحاضر حتى غاية موتي. ولا أريدُ أن تأتيَ هذه الغاية وأنا بعدُ مغمور في الشوارع المؤدية إلى النسيان، وفي الحانات المُعدَمة إلا من قليل ذوق.
    والحق أنك يجب أن تكون ذا كرامة بعد كل شيء؛ فلا تجعلْ الكتّاب يتقاذفونك هنا وهناك مثل لعبة نطاطة. واعلمْ أن أكثر ما يقولون تهويم وكلام لا يُقال إلا لملء ثقوبهم المهترئة. واعلم أنهم بعد أن يقولوا كلامهم الأوليّ، فإنهم يضيعون في الصنعة، وفي الكرامة المزعومة. ولن يُجديك شيئا أن يَبهُتَ نظرك في سواد مدادهم، وأن يضيع وقتك هباء في اللحاق بما يهرفون؛ فأنا منهم، وابن صنعتهم، وأنا إنما أتمرد عليهم من أجلك، حقا يجبُ أن اعترف هنا أنني أتمرد من أجل ذاتي، لكنّك مع هذا حائزٌ لا محالة على نصيب جيد. فليس معنى أن أقوم بخدمة ذاتي ومصالحي أنني لا أخدمك معي. وأنا بفعلي هذا التمرد إنما أزداد بهاءً وازداد غرورا؛ فإنني أجعلُ مني أكبر منهم، وأعلمَ منهم، وأفضل منهم، فأنا أُفضّلك عليهم لتفضلني عليهم، أرأيت؟ إن مصالحنا مشتركة، وأنت بحجبك الثقة عنهم إنما تزيد من ثقتك بي. واعلمْ أنهم حين يكتبون فلا شك تتداولهم رغباتهم التي قد تكون بعيدة كل البعد عنك، فلا تثق فيهم، ولا تطمئن لتصريحاتهم. واعلمْ أنهم مدّعون، فخذ ما يقولون مأخذ المُوسوِس الحذِر، والمتفضل الميسور، وانقصْ من ادعاءاتهم كيفما تشاء؛ فإنهم حين اكتشفوا فيك مُحبّا لما يقولون روّجوا اسمهم بك، واستغلوك لمزيد من الشهرة. وهم ليسوا بعد ذا مهتمين لأمرك، أو قلقين لهمّك، فبعدَ أن يُجمّدوا أحزانك وهمومك في الكلمات فإنهم ينصرفون عنك بكامل إرادتهم، ولربما نَسوك حتى اشعار آخر، حين يحتاجونك مرة أخرى للتمثيل بك، فإنهم، بعد كل شيء، لا بد أن يكتبوا عن هؤلاء البشر، وقد أغراهم النقاد بالقول أنهم لا بد أن يكتبوا عن همومك ومشاكلك حتى يتسنى أن يقول عنهم هؤلاء الأخيرون أنهم جيدون. فاحفظْ ذلك، وانظرْ فيما أنت فاعل؛ فإنني لا أستطيع بعدُ أن أساعدك علنا وإلا عُددتُ خائنا لهم. وإني خائنٌ لهم، لكنني لا أميلُ لتضخيم العنف إزاءهم، وإنما ألجأُ لهذا الحل السلمي الذي يجعل منك أنت محكّ الأحداث؛ فإنا حين اكتشفتُ مخاتلتهم وعنتهم وسوء نواياهم ركضتُ فارا إليك لأجعل منك خصمي وحكمي، وإلا ما الذي يجعلني اندلقُ لك بالأسرار وبخبايا صدور الكتاب. إنني، في النهاية، أفقدهم، لكنني مع هذا أحاولُ أن أكسبك في صفي. وعلى كلٍ فإنني أعترفُ مع هذا أن طبيعة الموضوع مُخاتلة بعض الشيء، وأن الأدب عموما صنعة من لا صنعة له، وأن معظم هؤلاء مُدّعون وهائمون ولا يفقهون من أمرهم شيئا. طبعا إني أَتركُ لك أن تحكم عليّ؛ فأنا، كونك أنت قارئا لي، أعرفُ مدى نباهتك وفطنتك. فلا يغرنّك قولهم أنهم إنما يضعون الكتابة مفتوحةً كيما تتمكنَ أنت من الإبحار في نهاياتك المقترحة. بمعنى آخر، إنهم يتخلون حتى عن واجبهم في الكتابة وإعطاء معنى لما يكتبون، ويشيعون أن هذا واجبك أنت أن تمنح لكلماتهم معنى، ولجملهم شيئا من العقل والعاطفة. وهم بهذا يصيبون متعة مضاعفة؛ فهم يُنقصون من وظائفهم، ويتهربون من معايير الجودة المُحكمة، فإن لم تفهمْ فهو بسبب غبائك، وإن لم تحسْ فهذا لأنك عديم الاحساس؛ فكل قيمة سالبة أو شك في الجودة يرجع إليك، وكل قيمة موجبة أو مديح يرجع إليهم. ولا يغرنّك ما يدّعون من اتقان الصنعة حين يحمّلون طاقة كلماتهم على اللاوعي الذي يبثونه حال سكرهم، فهم إنما يفعلون ذلك احتقارا لك، وغضا من قيمتك، فيكتبون ما يخطر في بالهم من تهويمات، ومن كلام مكرر ومعاد، ويذرفون كرامة الكلمات، ويدلقون بهجتها في الشوارع من غير ما حياء. وهم لو أنهم افتروا على الكلمات فإن ذلك لأمرٌ عظيم في ذاته، لكنّهم افتروا على الكلمات وعليك، ووازوك بالكلمات، ولم يفرّقوا بين الكلمات المُبرئَة من الآلام والأحزان وبينك الغارق في هذه الآلام والأحزان. فأصبحتْ عندهم عملية الكتابة هدفا ومقصدا بعد أن كانت أداة للوصول بك إلى شيء، ولا تغترّن بأقوالهم فهم حين لم يعرفوا ما يقولون، وبانتْ سوءاتهم انتفضوا يبحثون عن حيل جديدة لإيقاعك في شَرَكهم فاخترعوا موت الكاتب ليُدغدغوا مشاعرك، فتحسب أنك الحي الفاعل، وأنك المقصد والمبتغى، وهم ربما ابتدأوا هكذا، ظانين أنهم إنما يفعلون الأشياء من أجلك، لكنّهم ما لبثوا ان أعجبتهم القصة، ووالله لو أنك سلمتَ من هذه الأمور لأفتعلوها، ولو راوحك الحزن لجلبوه، فمن أين ستنبعُ مادة حديثهم؛ فهم انما يتاجرون بآلامك ومصائبك، فكيف تستطيع أن تقبض على ما يقولون، وكل شيء جائز في كلامهم؟ وكيف تستطيع أن تختبر دعواهم، وموازينهم مُطفّفة، ودائمة التغيير؟ فهم أنما يرونك أنت بإزاء الكلمات، وما دامت الكلمات سر نجاحهم فلا بأس أن يُضحّوا بك. فهؤلاء الذين يرغبون حقا في نصرتك يتوقفون بداعي الحكمة، وتُدفَن أسماؤهم بينما يظل ينعق في الساحة من لا رغبة له إلا في اقتناص هفواتك والهائك بمقاصد مريبة وبحيل جديدة كل مرة.
    وهم حين انتبهوا للذي هو حاصل في العالم من تهافت الناس على التخصصات، وتدقيقهم في الشيء وفي اللاشيء، أغضبَهم أنهم ليسوا متوفّرين على شيء يدعم صنعتهم ويبرر هوسهم ويبرز لك أهميتهم، فحاولوا الاستناد إلى حجة هذا العصر، من علم ونحوه، ومنطلقات فكرية، ومن إرث قبليّ وشعبيّ، وأدخلوا العلوم والأديان وسائر ما ساعدهم الشيطان عليه. وكل هذا من أجل أن يُبرهنوا على أن صنعتهم ما تزال تجد من يلتفت لها، وخصصوا عملهم، وباتوا في كل وادٍ يهيمون، وباتوا يقولون ما لا يفعلون. وكلما ذُكر اسمك بعد ذا عادوا سيرتهم الأولى مدّعين أنهم إنما يكتبون عنك وبك، وأنك هَمّهُم الأول والأخير، وأنهم ما خالفوا خط ترقيتك وتهذيبك قيد أنملة، وأنهم سائرون في الدرب الموصل إلى نورهم، وأن يكشفوا لك حقيقة هذا العالم وغيّه ويقدّموا كل هذا على طبق الكلمات البريئة. فلا يخدعنّك نقاء الكلمات وطهر حروفها؛ فإن وراء الاكمة ما وراءها. وانظرْ الى ما جروك إليه، واختبرْ آراءهم بعين المدقق الحذر، ولا تلتفت لصلواتهم ودعائهم من أجل هذه الإنسانية المعذبة، وعاملهم بالتي هي أغلظ، واشددْ عليهم في النقد.
    لقد أعملوا أذهانهم في المجاز، وجعلوا كل كلامهم مجازا، وبعد ذا انتفتِ الحقيقة من الكلمات، وانتفتِ الواقعية؛ فالمجاز كان ابتناؤه للتدليل على الفكرة المطروحة بجمال، لكنّه، دائما، كانت يقف بين كلمتين عاديتين لكي يفعل معناه العميق من خلال فعل التناظر بينه وبين الكلمات العادية، وحينها كنتَ تقف وقفة المفكر، وتقول بشيء من التدقيق والبحث، لقد والله أراد شيئا، ويجب عليّ أن أفهمه، فهو حين وصل إلى هذه الكلمات جنّحها، وأعطاها القدرة على التحليق، بينما تقف الكلمات الأخرى على الأرض. أما الآن، فقد طارت الكلمات جميعها، وأصبحت »أريد أن أذهب إلى الحمام« »أريد أن أغرق في الافراغ المبنيّ على القذف«، و»إني متعب« »إن الحياة تتغوط على أوتاري العضلية«، وباتت السماء شجرا، والقلب عشبا، وانفلقت الكلمة إلى كلمات، والكلمات إلى تهويمات، ولا من عقال يمنعها من التحليق. إن كسر طبقية الكلمات، وجعل المجاز والاستعارة والبلاغة مَشاعا عاما بينها، أفقد البلاغة معناها، وكسر الحاجة إلى بلاغة وإلى مجاز. أي أنهم وقعوا في فخ نصبوه بأنفسهم، ولا دراية لهم بتبعاته، ووقعتَ أنت فيه بحكم جريك وراءهم، فباتت الكلمة مقصدا في ذاتها، وباتت رنة الكلمة وموسيقاها الداخلية ما يُعوّل عليه، فانتفت القدرة على الشعور، وعلى الفهم الذي يخلق خلفية التحليق. فانتصرتِ الكلمة المفردة على الجملة، وكُسِر المعنى والشعور والأحاسيس والحدس وكل شيء يمكن التعويل عليه، فلا سبيل أن يتنصر مجاز الكلمة. فاعلمْ أن شفرة أوكام لا بد أن تُمارس هنا، وبعنف، وأن يُقال أنه كان الأنسب، بعد كل ذا، أن لا يجعل الكلمة مُحلّقة في هذا الموضع أو ذاك، وما دام قادرا على قول شيء ما بكلمات أبسط، وذات جمال أكثر انغراسا، فإن المجاز أمر مُفسِد. أي ببساطة، أن تصبح البلاغة الحديثة عكس البلاغة القديمة؛ فكلما انتفتِ المجازات المُحلّقة، وكانت بقدر معلوم، كانت البلاغة في أوجها، أما حين تتجاوزُ المجازات مجازاتِها، ويُحلّق النص بكامله، من غير ما رابط يشده إلى الأرض، فهنا يكون النص مُتعاليا عليك، ومتعاليا حتى على كاتبه، وتكون الكلمات قد اتخذت طريقها في الجو سربا.
    ولقد جاراهم في هذا النقاد الذين وقفوا وقفة، وفكروا في أنفسهم، فهم إن سايروكَ لم يُعدَموا من يصب عليهم جام غضبه، وإن كانوا مع الكتاب فإنهم لا محالة فاقدوك، فبدأوا في رصف طريقهم الذي يتأرجح في المنتصف، وقالوا في ذواتهم »لقد تعبنا من هؤلاء، نرفدُهم بالقليل والكثير، ونُشهر أسماءهم، وبعد ذا يتمردون علينا، فلا نستطيع ان نستمر في محاولة جعلهم يعقلون وهم ثلة مجانين، ونمارس عليهم سطوة الأب القاسي وهم منحرفون بالطبيعة، ونلعب معهم دور الناصح المرشد الرؤوف بولده وهم أبعد من أن يكونوا أولادا مطيعين«. وقالوا »ما دام هؤلاء قد اتخذوا الكلماتِ سبيلا لشهرتهم، وتمجيدا لذواتهم، وما دمنا نشترك وإياهم في استخدام ذات الأداة التي هي الكلمات، ونحن لا بد لنا أن نُتعِب عقولنا في معرفة ما يقولون، ومعرفة ما ينبغي أن يُقال، وكيف يخدمك أنت، يا قارئي العزيز، كل هذا، وكيف بعد هذا يضعون تقييمهم، فقد انتشلوا انفسهم من هذه الأزمة بأن زادوا من استغفالك، وفتحوا الباب على مصراعيه من أجل غثّ الكتاب شريطةَ أن ينالهم شيء من المجد. فكانت المعادلة هكذا: اشهرونا نُشهِركم، ولا تطلبوا منا نقدا جيدا لكي لا نطلب منكم كتابة جيدة، وسنحاول أن نضع أُسسا أخرى هائمة كيما يتسنى أن يفهم كل أحد ما يريد، وإنما سنقول ختاما هؤلاء قوم رائعون، وسنلعب اللعبة معكم. وأنت تعلم أن بعضهم أدركوا أنهم لا محالة فاقدون لسطوتهم إن لم يجددوا من عقول شياطينهم النقدية بعد أن جدد شياطين الكتاب ما جددوا، فعلِقوا بين فكي الضرورة، واستبدت بهم الحاجة لنصير، فهل تُراهم لجأوا إليك كونك الأول والأخير، ولب هذا الأمر وقشرته؟ وهل قاموا بقياس ما ينفعك فقالوا نافع، وما يضرك فقالوا ضار، لا، إنما نظروا بعين المُبتغي مصلحتَه، والبصير بأموره. وهم لا يُلامون؛ فالعالم يتغير، والصالحون يرحلون، ويخلفُ من بعدهم خلف ينفض غزْلَ السابقين، ويردّهم إلى أدبارهم سفهين، ورأوا أن يعقدوا اتفاقهم مع الشيطان، وأن يحاولوا أن يكونوا في صف الأقوى والأمهر، والذي في يده صنعة الكلمات. أي أنهم تخلوا عن مكانهم الوسط الذي ابتدأوا به، وبدلَ أن يقفوا موقف المُوحّد بين أهواء الكتّاب وبين قلة فهمك، تخلوا عن وظيفتهم في التحسين والتقبيح، فباتوا في الطرف الآخر الخلفي الذي يتمترس بنسيج الكلمات الهش، ومعانيها الهلامية. لقد خانوك وأنت غافل، وبذلوا كل ما في وسعهم لتجنب قول ذلك علانية؛ فهم إنما يرغبون في العيش، وبين مكر الكاتب وخبثه ضاعوا في التلافيف فأنقذوا ذواتهم بأن أصبحوا هم الآخرون كتّابا، وأصبحتَ تحتاجُ لكاتبٍ، ولناقدٍ لما يكتب، ولناقدٍ للناقد، ولناقد لهذا الناقد، وهكذا دواليك ضاع ما يقولون، وبقيت رنة الكلمات العُلوية التي يسيّلونها؛ فلماذا يؤلّفون ما يؤلّفون إن لم يكن هذا الكاتِب جيدا؟ وهكذا ضعتَ أنت في التهويمات، وفي احتمالات العظمة التي لا تستطيع بنفسك أن تقتنصها لكنها لا بد أن تكون هناك، وإلا ما كتب النقاد ما كتبوا حول هذا الموضوع. وتعلمْ؟ أنت تضيع هنا في الإرث التاريخيّ؛ فان عقلك الجمعيّ يخزُك من الداخل بخيرية من يكتب، وخيرية من ينقُد؛ فإنما هم أدوات المبدع الكبير الناقصة التي بها يُحسن أعماله، لكن ذلك أمرٌ تاريخيّ محض؛ فحين اندثرت الآلهة الطيبة ماتت خيرية العاملين لإصلاح شؤون الكون والبشر، وبتَّ أنت مرميا في لُجة هذا العالم، ومنفيا في الزمان، ومُعاقبا من قبل الجميع بكل هذا الهراء الذي يُثقل كاهل العالم الذي تصنعه الكلمات. واعلمْ أن الأمر إلى خراب، وأن الأحوال إلى استياء، وأنه ليس ثمة من مخرج في القريب العاجل؛ فقد ظن العاقلون قبل أمد أنهم بتخريب الغابات، وبالقضاء على موارد العالم النافدة، سوف ينتهي عصر الأوراق، وبعدها يرجع الكتّاب إلى صوابهم فيكتبون بحذر، وبقلّة، وبحكمة، لأنهم سيُعدمون ما يكتبون عليه، وسيرجعون إلى كتابة ما ينبغي أن يُكتب، وما يهمك، وما يزيد العالم بهاء وألقا، لكنّ العاقلين هؤلاء أدركوا أن القدر المرِح أكثر مخاتلة مما ظنوا؛ فلم تعدِ الاوراق شيئا مهما، وحلّ محلها الالكترون المراوغ، فياللسماوات! ويالهذا العالم كيف يُطوّر من أساليبه في القضاء عليك ومسخك وتشتيتك! ولكنّها الآلهة تتشفى من على عروشها، تتشفى لأجل ما استفحل من شِرْكٍ بها، وتَوجُهٍ بالعبادة إلى غيرها.
    وانظرْ بعد ذا إليهم! أهم يهتمون لأجلك؟ لقد فقدوا سطوتهم، ودخلوا في لعبة المرآة والتبعية ولقد كان نشاطهم تابعا زمنا لنشاط الكتاب، أي أنهم كانوا بعديّين، لكنّهم كانوا مُستقِليّن حتى اختضّتِ القيم، وسقطت المعايير، فأصبحووا بعديّين تابعين. وأصبحوا يقولون ما من شأنه أن يُدغدغ آمال الكاتب ومشاعره من غير ما التفاتٍ لك أنت. وبدلَ أن يكونوا حلقة الوصل التي تمنع الكاتب من التحليق في عوالم اللاشيء البعيدة عنك، والتي تنبع أهميتها وجدواها في عقل الكاتب وفي فهمه، ويكون هو غايتها، بدلاً من ذلك أصبحوا هم الذين يُطيّرون الكاتب الى الأعلى، وينفخونه، فاندثرت معالمهم، وزال رسمهم. فاسمعْ نصيحتي واتركهم؛ فإن عناء قراءتهم أقل تبريرا من قراءة ما لاينفع من كلام الكتاب وهرفهم؛ فهؤلاء يهرفون ويقولون بين الفترة والأخرى أنهم يهرفون، أما أولئك فإنهم يهرفون ويدّعون أنهم يقيمون عثرات الهارفين ويردعونهم. فتركُهم أولى، فمن أين لك أن تجد كل الوقت لقراءة كل هذا الدجل، إلا أن تكون ساخرا؛ فإن الساخر يقرأ ليتسلّى على من يقرأ له، فإن وجدتَ تسليتك في السخرية على الأسلوب، أو في محاولة اكتناه من أين ينبع كل هذا الهراء، فدونك وما تشاء؛ فأنت أخيرا المسؤول عن عقلك، وما عليّ إلا البلاغ المبين! فلا تلومنّ بعد ذا إلا ذاتك وحبك للسخرية على حساب عقلك. والحق أنني أُشجعك على ذلك إن كان لديك الوقت؛ ففي السخرية تتضح معالم الأسلوب، وفي الاستعلاء على نصوص النقاد ينفتح الباب لفهم ما ينبغي أن يُقال. لكن دون ذلك ما دون ذلك من عناء، وإضاعة وقت وجهد، في كل هذا العالم المتكالب عليك. فارجعْ ذلك إلى أولوياتك ومشاريعك الخاصة، وانظرْ في حياتك بعيدا عن أقوال من يتكلم بـ»ينبغي« وبـ»يجب«. فأنت عاقل بالغ فحكّمْ حسك العام، وحين يصيبك القرف مما يكتبون فغض الطرف عن كتبهم، واعدلْ عن تأبّطها، وارمِ بها شر رمية، فهم الخاسرون، وأنت بذا تكون قد ربحت وقتك وجهدك، وقبل ذا وبعده تكون قد ربحت نفسك بامتناعك عن جرها إلى التهلكة.
    وليس الكتاب على العموم شيئا مفيدا؛ إنك، هنا أيضا، تقع في فخ الإرث التاريخيّ فتظنَّ ان الكِتابَ خير جليس، وإنك مهما قرأتَ فإن ذلك راجع بالإفادة عليك، وإن هذا ربما كان الشأن في وقت مضى، لكنّ ذلك الآن أبعد ما يكون عن الصحة؛ فالآلة العادلة جعلت الكتابة مَشاعا، وأصبح كل من يعرف وكل من لا يعرف يُؤلفُ كُتبا. فتعددتِ المقاصد وتشعبتِ السبل، وبتَّ أنت أخر من يُهتم به. فهل تظن أن الكتب إنما وُضعت لك؟ وأنها إنما لفائدتك؟ فإن كان ظنك مثل هذا فأنت ساذج لا محالة؛ فإنها لاغوائك ودمارك، وليست شيئا مفيدا في ذاته، وإن إثمها أكبر من نفعها. وإنها، في النهاية، الطريقة التي تجعلك أبعد عن هذا العالم، وأكثر اقترابا من الخيال، ولو كان ذلك أمرا مفيدا لكان جيدا، ولكنّه يضعك في الطرف الآخر للعالم الذي يجب أن تخرجَ فيه للأسواق، وأن تحملَ محفظةً متقنةَ الصنع، وأن يكون داخل محفظتك شيء ما ذا قيمة.
    طبعا أنت تظن الآن أنني بعد أن أنهيتُ كلامي سأضعُ نقطتي وانفصلُ عنك إلى الأبد، وأقلعُ عن فعل الكتابة، فإنني متورط حتى النخاع؛ فإن أنا كتبتُ، كنت مخادعا لك، أوعلى الأقل مُناقضا لذاتي، ولما أحمله من تصورات، وإن أنا توقفتُ، فسأكونُ قد قتلتُ نفسي بنفسي، وأوقعتُنِي في الهلاك. لكنّ الموضوع ليس بهذه السهولة، فأنا لا أكتبُ لأحصرَني، بل أكتبُ لأحصرَك، وأنت مقصدي وغايتي، أما أنا فخارج المقاصد والغايات، وخارج اللعبة لأنني أنا من أديرُها من الأعلى، وإنما أردتُ أن أبنيَ أصولاً جديدة في اللعبة تمكنك من فهم ما حصل من تطورات، وما حصل من تدهورات، وما أظنه، أنا، سليما، وجيدا لك. لكنني مع هذا أرأفُ بك أن أُعلمَك الحقيقة كاملة؛ فإنها تحرقُ من لا يملك وقاية الطبيعة وحصانة الكلمات. فأنت تعلم الآن، كوني أنا أيضا كاتبا، أنني مُدلّسٌ بعض الشيء مع رقة شعور، ومُدجَّج بالخداع مع مسحة براءة هنا وهناك. فَخَفْ مني، واخشَ تلاعبي ومكري، وخذ مني واتركْ، وعاملني بالمِثل، واسقطْ عليّ غضبك من علياء وجودك، ولا تترددْ في أن تتركَ كرامتك تُدخِل أنفها العتيد بينك وبين ما أقول. ولن أُعدَمَ أن أخترع لعبة جديدة تمكنني من العودة للكتابة، فهل تستطيعَ أن تحصرني في كلامي، وتجعلني قابعا في عثراتي؟ إنني قابل للتطور بعد كل شيء، ولا أعرفُ بعدُ أين سيأخذني تاريخي الطبيعيّ. وإنما أُريدُك أن تنسلخَ من ذاتك، وتقفَ عليها، وتتعالى على وضعك في الشؤون الكتابية، وتُصبحَ قارئا فوق قارئ، وناظرا فوق ناظر!


    حسين العبري (روائي وطبيب نفسي من سلطنة عمان)

    منقول من مجلة نزوى

    أعجبني ما قرأت فأحببتُ أن تشاركوني ما قرأت


    خالص تقديري


    زهر

  2. #2
    الصورة الرمزية عاشق السمراء
    Title
    "رجل عادي جدا"
    تاريخ التسجيل
    05- 2002
    المشاركات
    21,307
    مساااااااااااء جميل!!

    زهر الخريف ..
    شكرا على هذه الوجبة الدسمة الادبية !!
    فعلا تحتاج للقراءة .. والاستفادة من محتويات ما بها من جمال التعبير والمعاني !!

  3. #3
    الصورة الرمزية زرقة السماء
    Title
    نبض جديــد
    تاريخ التسجيل
    09- 2006
    العمر
    39
    المشاركات
    36
    موضوع جميل و كلمات اجمل
    مشكووووووووور

  4. #4
    هي فعلا وجبة دسمة

    سلمت يا زهر الخريف

  5. #5
    الصورة الرمزية هُمى الروح
    Title
    نبض مبــدع
    تاريخ التسجيل
    06- 2006
    المشاركات
    2,886
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عاشق السمراء مشاهدة المشاركة
    مساااااااااااء جميل!!

    زهر الخريف ..
    شكرا على هذه الوجبة الدسمة الادبية !!
    فعلا تحتاج للقراءة .. والاستفادة من محتويات ما بها من جمال التعبير والمعاني !!
    مساء الخيرات والأيام المباركة
    ورمضان كريم

    هي كذلك يا عاشق دسمة دسمة !!

    أنا قرأتها أكثر من مرة عشان بس أهضمها!!


    والشكر موصول بمرورك

    شكراً على تواصلك

    خالص تقديري


    زهر

  6. #6
    الصورة الرمزية همسات حائرة
    Title
    نبض نشيـط
    تاريخ التسجيل
    05- 2005
    المشاركات
    730
    غاليتي

    زهــر

    كلام جميل واحساس اجمل
    ومعاني معبره بالفعل

    اشكرج ع هالوجبه الدسمه مثل ما قال اخونا عاشق


  7. #7
    الصورة الرمزية هُمى الروح
    Title
    نبض مبــدع
    تاريخ التسجيل
    06- 2006
    المشاركات
    2,886
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة زرقة السماء مشاهدة المشاركة
    موضوع جميل و كلمات اجمل
    مشكووووووووور
    مساء الأيام المباركة

    مرحباً يا زرقة
    شاكرة لكِ مروركِ


    خالص تقديري


    زهر

  8. #8
    الصورة الرمزية هُمى الروح
    Title
    نبض مبــدع
    تاريخ التسجيل
    06- 2006
    المشاركات
    2,886
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رحــــــــــــال مشاهدة المشاركة
    هي فعلا وجبة دسمة

    سلمت يا زهر الخريف
    مساء الأيام المباركة والشهر الفضيل

    كانت كذلك يا رحــــــــال دسمة دسمة !

    شاكرة لكَ مرورك أخي

    خالص تقديري


    زهر

  9. #9
    الصورة الرمزية هُمى الروح
    Title
    نبض مبــدع
    تاريخ التسجيل
    06- 2006
    المشاركات
    2,886
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة همسات حائرة مشاهدة المشاركة
    غاليتي



    زهــر

    كلام جميل واحساس اجمل
    ومعاني معبره بالفعل

    اشكرج ع هالوجبه الدسمه مثل ما قال اخونا عاشق
    مساء الزهر

    مرحبا يا همسات

    أشكركِ عزيزتي على المرور لا عدمتُ ذلك

    وهي فعلاً وجبة دسمة !

    ودعواتي إلك بالخير


    خالص تقديري


    زهر

  10. #10
    كلام رائع اختي سلمت يداك على النقل الطيب تقبلي تحياتي


    اخت عاشق السمراء

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML