الكاتب التركى يشار كمال

يرسم الكاتب التركى الشهير يشار كمال فى أجواء روايته التى ترجمت إلى العربية وحملت عنوان "صفيحة" بقدراته الكبيرة المميزة عالما ريفيا منسوجا بخيوط من الدفء الانسانى والقسوة الباردة ويجرى فيه الفساد كنمط حياة مسيطر.

وفى عالمه الريفى سمات من تلك التى تتسم بها مجتمعات العالم الثالث وأجواء تحكم المقتدرين الكبار والصغار فى بعض بلدان أمريكا اللاتينية وغيرها. وفى ذلك العالم الريفى الزراعى يجرى استغلال طيبة الطيبين وافسادهم فإذا قاوموا الفساد تحولوا إلى ضحايا وشوهت سمعتهم وظهر الفاسدون المفسدون فى ثياب الشرف والاستقامة المزيفين.

اسم يشار كمال الحقيقى هو كمال صادق غوجلي. وقد ولد سنة 1922 وتقلب فى مهن متعددة بلغت 40 مهنة بعد أن ترك الدراسة فى الصف الثالث الاعدادي. ومن تلك المهن عامل بناء وكاتب وناطور ماء فى مزارع الارز فى منطقة تشيكوروفا التى تجرى أحداث الرواية فيها كما عمل فى اسطنبول فى الصحافة كاتبا وشريكا فى اصدار مجلة وغير ذلك.

وجاء فى التعريف به فى المقدمة أنه يعتبر "رائد ما سمى الأدب الريفى وكتب الأساطير الأناضولية. استخدم لغة تتعدد فيها اللهجات" وقيل عن أدبه بحق كما يظهر فى هذه الرواية وغيرها بأنه يمتاز بلغة شعرية عالية المستوى وخاصة فى وصفه للطبيعة."

تتحدث الرواية عن قرية تركية صغيرة تسيطر عليها بقسوة واستغلال واستبداد مجموعة من مزارعى الارز الذين افسدوا القرية لخدمة مصالحهم مدعين أن زراعة الارز هى واجب قومى لمساعدة جيش الوطن.

تبدأ الرواية بصراع مسرحه نفس رجل مسن ضعيف يسعى إلى تحاشى المشكلات لأنه سيتقاعد بعد أشهر. لكن الرجل أى رسول افندى شريف صاحب ضمير ومحافظ على القانون.

ورسول افندى الطيب الشريف الذى لا يمكن ان يشتريه احد يبتعد عن ذلك كله. لكنه فى عمق اعماقه يتمنى القضاء على الشر.انه يبتعد عنه ولا يغنى له بل يصلى من اجل زواله. يتعرض للتهديد والاهانات والاشاعات.

ويأتى الخلاص بالنسبة إلى رسول افندى من خلال تعيين قائم مقام جديد. شاب فى مقتبل العمر تخرج من الجامعة وجرى تعيينه فى المنصب عقب تخرجه من الجامعة. هو رجل مثقف مثالى طيب القلب وأمثاله يعتبرهم الطواغيت الصغار الذين يعرفون باسم "الأشراف" صيدا سهلا يسيطرون عليهم من خلال أغداق العطايا والكلمات المعسولة عليهم.

أتى إلى المكان وفى ذهنه فكرة عنه رهيبة "ثمة خوف فى داخله. ما أكثر ما حكوه عن بلدات الأناضول اسندت ظهورها إلى تلال وسط السهول المترامية الأطراف. وهى عدة بيوت طينية السقوف لا ماء فيها. تدفن بالثلج شتاء. فى الصيف تعج بالغبار. معزولة. بعد ذلك صراع مع الاغوات واللصوص وقطاع الطرق. حين تذكر انسان البلدات يتجلى امام عيونكم ذوو السراويل العريضة الوسط والشوارب المعقوفة حاملو المسدسات العدوانيون.. خاصة ما شرحوه له عن الاشراف..."

القائم مقام الشاب فكرت ارتعلى المثقف المتحرر الحالم الذى كان دون وعى منه يصفر لحنا من أحدى سيمفونيات بيتهوفن كانت له أحلام لتطوير البلدة. قبل وصوله أعد له أفضل بيت فخم رائع الفرش هو أفضل بيت فى البلدة ويملكه أحد كبارها. وعند وصوله استقبل استقبال الملوك وانهالت عليه المدائح وأنواع التملق والاغوات بارعون فى ذلك.

قد نتذكر هنا قول جبرا ويل عن الأمة التى تستقبل الحاكم القادم بالتطبيل والتزمير وتشيع الراحل بالصفير والتزمير. تسابق الأشراف إلى فتح باب سيارة الشرف له.

استغلوا طيبته طويلا وسرت الشائعات إلى أن قرر رسول افندى ايضاح الأمر له سرا وإثر تظاهرة للفلاحين الفقراء احتجاجا على اغراق حقولهم بالماء ثار الشاب وواجه الاشراف. ودارت معارك بين هؤلاء والفلاحين إلى أن اشترى الاشراف أملاك قرية الفلاحين باستثناء متمرد واحد. فخمدت ثورة هؤلاء وتخلوا عن دعم القائم مقام.

صدم الأشراف فى بادىء الأمر وما لبثوا أن خططوا لهجومهم المضاد. فى النهاية وقع ما حذره منه رسول افندي. جاء قرار بنقل القائم مقام الشاب بعد الوف الرسائل والبرقيات الكاذبة.

ودعه الناس تقليديا كما يودعون غيره بقرع الصفائح. ترك وراءه قلبا احبه هو قلب رسول افندى العاجز. لكن بينما كانت السيارة فى الطريق الى خارج البلدة قفز امامها رجل ولما توقفت بسرعة انكب هذ الرجل على يده مودعا. انه المتمرد الوحيد الذى رفض بيع ارضه كسائر القرويين الذين كانوا يحثونه على المقاومة ويعيبون عليه كما قالت امرأة ذات منزلة فيهم انه تحول الى خصيّ. كان الرجل قد طورد سنوات فى السابق والتجأ الى الجبال بسلاحه لكنه لم يعد يرغب فى المغامرة ومع ذلك فقد ثار ووجد نفسه وحيدا مثل القائمقام.

قال الرجل محمد على الكردى وهو يقف فى وسط الطريق "مع السلامة. على عينى وعلى راسى يا قائم مقامي."

فى البداية انعقد لسان الشاب الذى لم يجد من يتعاطف معه سوى رجل طيب جبان وثائر ظن أنه يستطيع التقاعد والهرب. لكن "بعد زمن فكت العقدة فى بلعوم القائم مقام. ابتسم لنفسه وقال.. محمد علي. محمد علي. محمد علي." القائم مقام الشاب "كان يبتسم. بعد ذلك بدأ بالصفير. كانت هذه المعزوفة التى يعزفها دائما ونسيها.. من السيمفونية التاسعة."