إن المقصر في جنب الله تمر عليهساعات أيامه وهو في لهو وغفلة، يُسوِّف التوبة ويأمل في مزيد من العمر، وما علم أنالموت يأتي بغتة، وإذا جاء لا يدع صاحبه يستدرك ما فاته، فيبقى في قبره مرتهنابعمله، متحسرا على ما فاته، ومتمنيا على الله أمانيَّ لا تغنيه شيئا، فماذا عسى أنيتمنى المقصر إذا أصبح في عداد الموتى ولا حول ولا قوة إلا بالله؟
[1] الصلاة ولو ركعتين
يتمنى الميت المقصر لو تعاد لهالحياة، ليصلي ولو ركعتين اثنتين فقط، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم مر بقبرٍ فقال: (من صاحب هذا القبر؟) فقالوا: فلان، فقال: (ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم) ( )، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون، يزيدها هذا في عمله، أحب إليه من بقية دنياكم
فغاية أمنية الميت المقصر؛ أن يُمدَّ له في أجله، ليركع ركعتين يزيد فيهامن حسناته، وليتدارك ما فات من أيام عمره في غير طاعة، ألم تسمع وصية رسول الله صلىالله عليه وسلم وهو يقول لنا معشر الأحياء: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أنيستكثر فليكثر) ؟
لقد عاين ذلك الميت وهو في قبره ثواب الصلاة، ورأى بأمعينه فائدة الصلاة، فتأسف أشد الأسف على أيام أمضاها في غير طاعة، على ساعات مضت فيلهو وغفلة، لم يجنِ منها الآن سوى الحسرة والندامة، وها نحن نرى رسول الله صلى اللهعليه وسلم ينقل لنا أمنية ذلك الميت وهو في قبره، يتمنى أن يصلي، يتمنى أن يعود إلىالدنيا لدقائق معدودة، ليركع ركعتين فقط لا غير، لا يريد من الدنيا إلا ركعتين، ياسبحان الله، لأنهما الآن أصبحتا عنده تعدل الدنيا بما فيها، وماذا عسى أن تساويالدنيا عنده، وقد خلفها وراء ظهره وارتهن بعمله ؟
اغتنم في الفراغ فضل ركوع *** فعسى أن يكونَ موتكبغتة
كم صحيح رأيتَ من غير سُقم *** ذهبتْ نفسه الصحيحة فلتة
فغاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة، بل دقيقة،يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح، أما نحن أهل الدنيا فمفرطون في أوقاتنا؛بل في حياتنا، نبحث عما يقتل أوقاتنا، لتذهب أعمارنا سدى في غير طاعة، ومنا منيقطعها بالمعاصي، ولا ندري ماذا تخبئ لنا قبورنا من نعيم أو مآس، نسمع المناديينادي إلى الصلاة، ولكن لا حياة لمن تنادي0
[2] الصدقة
يتمنى الموتى الرجوع إلى الدنيا ولو لدقائق معدودة، ليقدموا صدقة لله عزوجل، ولقد نقل الله لنا أمنيتهم هذه في قوله تعالى: ) َأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُفَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنمِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَاوَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ- (المنافقون: 10-11
لقد اقتنعوا - ولكن بعد فوات الأوان - أن الصدقة من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وأنها تطفئغضب الرب جل وعلا، وأن العبد سيُسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، فتمنواالرجعة ليقدموا صدقتهم بعد أن منعوها الفقير، وصرفوها على شهواتهم وسياحتهم، : ) فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍفَأَصَّدَّقَ(.
تمنى الرجعة لأنه عرف أن الصدقة تباهي سائر الأعمالوتفضلهم، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ذُكر لي أن الأعمال تباهى فتقولالصدقة: أنا أفضلكم ( ).
تمنى الرجوع إلى الدنيا فقط ليتصدق، لعله علم عِظَمثوابها، أو عظم عقاب المفرط فيها، إنها أمنية مليئة بالحسرة والأسف، ولكنها جاءتمتأخرة.
[3] العمل الصالح
أما الأمنيةالثالثة التي يتمناها هؤلاء الموتى؛ فهي العودة إلى الدنيا ولو للحظات معدودة،ليكونوا صالحين، ليعملوا أي عمل صالح، ليصلحوا ما أفسدوا، ويطيعوا الله عز وجل فيكل ما عصوا، ليذكروا الله تعالى ولو مرة، يتمنون النطق ولو بتسبيحة واحدة، ولوبتهليلة واحدة، فلا يؤذن لهم، ولا تُحقق أمنياتهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، قالالله عز وجل في شأنهم :
(حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُالْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُكَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِيُبْعَثُون (-المؤمنون: 99-100.
هذا هو حال المقصر مع الله تعالى إذاوافته المنية، يقول : { رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَاتَرَكْتُ }، ويقول : { َوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
ان الميت العاصي إذا هجمت عليه منيته، وأحاطت به خطيئته، وانكشف له الغطاء،صاح: وامنيتاه، واسوء منقلباه، رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، هذه هي أمنيتهالوحيدة.
فالموتى قد انتهت فرصتهم في الحياة، وعاينوا الآخرة، وعرفوا ما لهموما عليهم، أدركوا أنهم كانوا يضيعون أوقاتهم فيما لم يكن ينفعهم في آخرتهم، أنالوقت الذي ضاع من بين أيديهم كان لا يقدر بثمن، أنهم كانوا في نعمة؛ ولكنهم لميستغلوها، وأصبحوا يتمنون عمل حسنة واحدة لعلها تثقل ميزانهم وتخفف لوعتهم وترضيربهم، فلا يستطيعون، أي حسرة هذه، وأي ندامة يعيشونها؟
إن أكثر ما يكون الإنسانغفلة عن نعم الله عليه؛ حينما يكون مغمورا بتلك النعم، ولا يعرف فضلها إلا بعدزوالها، فنحن معشر الأحياء في أكبر نعمة؛ طالما أن أرواحنا في أجسادنا لنستكثر منذكر الله عز وجل وطاعته.
يتبع...........