الحلم الأسود
أمياي عبد المجيدـ المغرب
وقف يتأمل البحر الشاسع, والممتد إلى الأفق يتابع خطوات الأمواج , وخرير المياه كثيرا ما سمع من أهل الحارة أن جنتا قائمة وراء ذلك البحر الصاخب , فيها بساتين خضراء, وأجناس صفراء, وبيضاء ... كان له والدين هرمين .. أمه كالشجرة اليابسة في فصل الخريف... وأبوه ذلك الجبل من الثلج تراه يذوب , .



ويتهاوى وكم يشعر بالسعادة عندما يرى تلك العبارات تنقل المسافرين إلى الجنة المرجوة .. يعود إلى البيت متأخرا وهو يحمل أطنانا من الضجر, والسام .. ورائحة السجائر تفوح منه دليل على إدمانه وتعاطيه لها.. تنفجر أمه وراء صمت رهيب أين كنت ؟ صوت جهوري وخشن يحمل بين طياته رصاصات من الكلمات .. كنت مع أصدقائي اللقطاء ألا تريدين أن تكفي على هذه الأسئلة التافهة ؟ الأب غارق في سبات عظيم ....وهو يتنهد ويدخل إلى المطبخ يتحسس الصحون .. بعض العدس وقطعة خبز يابسة هذا كل ماتبقى من عشاء اليوم .. حمل الصحن وقطعة الخبز يفتح جهاز الراديو وعلى أنغام -- ناس الغيوان-- يأكل العدس وقطعة الخبز اليابسة عله ينسى جوعه بأنعام الموسيقى الحزينة .. تراه يتجاوب مع الأنغام وكأنه فرد من أفراد المجموعة بعد قليل .. يحتل النوم جفونه ويستعمرها .. يتثاءب من حين لأخر, وفي الغرفة المقابلة فراش اسود ووسادة بيضاء تظهر عليها أثار الوسخ كطابع البريد .. يغوص في نوم عميق .. وتلك نجوم السماء تسبح وتشفق على حالته المحزنة .. وكم كان يتعذب هذه الليلة ؟ لقد تعرض لكوابيس وأحلام سوداء استيقظ وكأنه نام في كوخ الدجاج يصيح من فراشه كالديك الفرنسي .. يما يما كم الساعة ؟ والأم وراء الجدار المشيد بالطوب والحجارة , وبفم فارغ من الأسنان كان ذلك من المطبخ الساعة لله .. يا ابن -الكلب - توبيخ قاس في حقه لم يزده إلا عنادا وعصيان الأوامر وفي تلك اللحظة التي كان يصارع فيها الزمان , والمكان , كانت ذاكرته تسترجع مشاهد , وأحلام الليلة كلها .. حلم غير عاد ذلك الذي صادفه انه حلم أجنبي , وغريب عن الأحلام الوطنية.. كان ذلك الحلم يحمل كل المواصفات الأجنبية من حنان , وجمال , وكأنه يرغّبه في ترك الوطن .. والهجرة إلى أصل الحلم .. لم يعد يطيق ضغوطات هذه الأحلام المتكررة .. حينئذ شعر أن ولادته في هذه البقعة الملوثة كان ظلم في ظلم وأحس أن مكانه في بلد أجنبي , وتنامت عنده هذه الرغبة حتى تحولت إلى ضرورة حتمية لا رجعت عنها .. نعم فقد شعر بضرورة الهجرة الوضع مقفر للغاية في هذا الوطن كل شيء فيه زهيد .. حتى فَقدت قيمة كل شيء كذلك الإنسان انسلخ عليه جلد الإنسانية ولبس معطف النفاق .. أما هناك فهي جنة عظيمة وبقعة مباركة هكذا كان يتصور الحياة في أوربا , وأضحت أحلامه تزداد يوما تلو الأخر حتى تؤكد له أن الهجرة ضرورية وكآن البقاء من دونها مستحيل ... هاهو انبطح واستسلم للأحلام السوداء .. أمام عينيه الكرويتين هدف اسود عليه تحقيقه .. ترى ما السبيل إلى ذلك ؟ السؤال رقم واحد من أسئلة الهروب من الواقع , وخذلان الذات .. كان الجواب على الشكل التالي .. زورق مطاطي .. أو... الاختباء بصندوق شاحنة سلع .. ويبدو أن الزورق أسهل وأحسن.. لكن الزورق يحتاج أن يدفع لصاحبه مقدار من المال وهو ما لا يتوفر لديه .. فكر مليا في حل ما فلم يجد سوى اقتحام احد المحلات التجارية .. وفي الليل كان له موعد بلغة السرقة مع احد المحلات وبأدوات معدنية حطم أقفال الباب.. دهس السلع التي صادفته في الطريق وسط الظلام الشديد سوى مصباح ضئيل وجهه إلى خزانة النقود .. ولحسن حظه أن التاجر المسكين لم يجمع ماله لذلك اليوم , وكان في الخزانة ما يكفي لعبور البحر , والانتقال إلى جنة الآخرين .. وبعد مرور أيام قليلة على فعلته قرر صاحب القارب وبعد جمعه للعدد المطلوب من ذوي أحلام ما وراء البحار أن ينطلق في رحلته وكان هو من بين المجموعة التي تتكون من أربعين حالما .. وفي فجر يوم صيفي وعند حزم الظلام على جمع ستاره .. كان الجميع على استعداد تسلل من البيت وهو يحمل حقيبة قديمة فيها بعض الأغراض والقليل من الطعام أمه لم يراها منذ الليلة الماضية وأبوه على اقل تقدير منذ ثلاثة أيام أو يومين .. وصل إلى مسرح الانطلاق وكاد القارب أن ينطلق لو انه تأخر قليلا دخل إلى رمال الشاطئ ورجلاه تغرقان في الرمال وكأنها تقول له لا ترحل لا تحل وتترك بلدك.
فات الأوان أيتها الرمال الناعمة .
حلمت حلما اسودا فلن ألام إن مت .
سامحيني إن اقترفت ذنبا في حقك فما كان بودي سوى الهجرة .
ابلغي أسفي لامي وأبي وابلغيهم هجرتي.
في وسط البحر هدوء رهيب يخيم على الأربعين وجه , وثمانون عين تردح من شدة الخوف فجأة تكلم البحر وقال ..لا وألف لا ما رضيت أن تموت مذلولا يا هذا وبما انك وأصدقائك تعشقون الموت والأحلام السوداء فالأجدر بك أن تموت هنا وعلت موجة كبيرة وكونت شكلا كشكل قوس قزح حينها رأى ألوان الطيف كلها وكانت أمه تبكي وسط اللون الأبيض وطمرته مياه البحر, وأدخلته في بطن الموت وكان ذلك أشبه بحلم اسود