اقتضت سنة الله الكونية أن يتصارع أهل الحق وأهل الباطل في هذه الحياة منذ

وجد أبو البشرية آدم عليه السلام، وعدوه إبليس لعنه الله، وأن يمتد هذا الصراع


في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ابتلاء منه تعالى لأهل الحق بأهل الباطل

ولأهل الباطل بأهل الحق، ليزداد الأولون إيمانا بحقهم ويحملوه عملا وسلوكا

ودعوة وجهادا، فينالوا نصر الله وتمكينه لهم في الدنيا، ورضاه ودار كرامته في الآخرة

وليزداد الآخرون الذين تكبروا على أمر الله ودعوة أنبيائه تمردا وعتوا، فينالوا الضنك

و الشقاء والنكد في الدنيا- وإن تمتعوا بنعم الله فيها كالحيوانات السائمة -

والعذاب الأليم السرمدي وسخط الله في الآخرة.

قال تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}

قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}

وقال تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب-إلى قوله تعالى:-
ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض}

وقال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}

وقال تعالى: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم}

وقال تعالى: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}

وقال تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا}

وإن الحق ليحمل عناصر قوته وبقائه في ذاته

وإن الباطل ليحمل عناصر ضعفه واضمحلاله في ذاته.

لو ترك الناس على فطرهم التي فطرهم الله عليها، لا يُكرهون على اعتقاد الحق ولا

على اعتقاد الباطل، وإنما يعرض عليهم هذا وذاك، لاختاروا الحق ونبذوا الباطل

ومن هنا وجد في الأرض معسكران: معسكر الحق، ومعسكر الباطل

وإذا كانت غايات أهل الباطل في سباقهم إلى العقول- تتلخص في الصد عن سبيل الله،

والتمتع المطلق-الذي لا يقيده شرع الله - بمتع الحياة الدنيا، وتكذيب الرسل وما جاءوا

به من وحي الله - لئلا يكثر سواد أهل الحق فتضعف سلطة أهل الباطل-

كانت تلك هي غايات أهل الباطل في سباقهم إلى العقول بباطلهم، فاتخذوا لتحقيقها كل

وسيلة متاحة لهم دون تقيد بشرع أو قانون، والغاية عندهم تسوغ الوسيلة.

الوسيلة الأولى: تزيين الباطل وزخرفته.

وقد تكون هذه الوسيلة أقدم الوسائل التي اتخذها أهل الباطل للسبق إلى العقول، بل هي

أول وسيلة أضل بها عدو الله إبليس أَبَوَيْ البشر: آدم وحواء عليهما السلام

كما قال تعالى عنه: {فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما
وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين
وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور} .

فقد هون-الشيطان-أمرَ الله في نفوسهما، وجعل الالتزام به مؤديا إلى حرمانهما من

العلو والرفعة والتمتع الطويل بالحياة، وأكد لهما بالأيمان بأنه ناصح لهما لا يريد لهما

إلا الخير، فكان هو قدوة أهل الباطل في تزيين الباطل وزخرفته والتنفير من الحق

والتهوين من شأنه.

وهانحن في هذا الزمان نشاهد ونسمع ونقرأ من تزيين الباطل والدعوة إليه وتشويه الحق

والتنفير منه، ما لم يشاهد ويسمع ويقرأ مثله في الأزمان الماضية بسبب الوسائل الكثيرة

التي أتيحت في هذا العصر.

فاليهود زينوا كثيرا من أفكارهم التي يصطادون بها عقول الناس، ومن ذلك الماسونية

التي أصبح كثير من أغنياء العالم ومثقفيهم، بل وبعض حكامهم أعضاء بها، يدير بهم

اليهود مصالحهم في كل البلدان.

والنصارى زينوا نصرانيتهم- مع مخالفتها للفطرة كذلك، لجعلها الثلاثة واحدا والعبد

معبودا من دون الله، وما فيها من الضلالات التي لا تقبلها العقول السليمة

والوثنيون الذين يعبدون ما لا يحصى من المخلوقات، من شمس وقمر وكواكب وأشجار

وأحجار وحيوانات ونار وغيرها، زينوا وثنيتهم فاتبعها ملايين البشر في الأرض.

والقوميون زينوا قومياتهم حتى وجدوا من الأتباع ما أسقطوا به الدين والخلق، كما

حصل في عهد اليهودي أتاتورك الذي حارب الإسلام حربا شعواء، بلغت إلى منع رفع

شعيرة الإسلام (الآذان) باللغة العربية لغة الإسلام، وقلده في ذلك زعماء في البلدان

العربية وغيرها حطموا بالقوميات المنتنة كل مقومات الأمة الإسلامية.

والعلمانيون الذين قرروا فصل الدين عن الحياة زينوا ذلك للناس حتى أصبحت غالب

دول العالم علمانية تقصي الدين عن الحياة .

والمرابون زينوا للناس التعامل بالربا، حتى أصبح هو الأصل في كل أنحاء الأرض.

وعباد الشهوات زينوا للناس فعل الفواحش والمنكرات، بأساليب شتى وبثوا وسائل

نشرها حتى أصبح عالم الأرض من البشر-إلا من شاء الله-لا يفكر إلا في إشباع

غرائزه بالشهوات من غير تفريق بين حلال وحرام...

والخلاصة أنهم زينوا للناس الشرك بالله والخروج عن طاعته وشرعه والتعلق بغيره، كما

زينوا اتباع الهوى والشهوات، واتخذوا لذلك كافة الوسائل المتاحة للسباق إلى عقول الناس

بالباطل الذي زينوه وزخرفوه، قلبا للحقائق وإضلالا للعقول وزخرفة للباطل وتنفيرا من الحق.

الوسيلة الثانية: الثناء على أهل الباطل وقادته.

ترى قادة الباطل ينفقون أموالا طائلة، ويعدون أدوات يصعب حصرها وجيوشا من البشر

متخصصين في كل مجال، من أجل الثناء عليهم وإطرائهم، حتى تظهر مفاسدهم مصالح
وسوآتهم مفاخر.

فيوصف الجبان الرعديد بأنه الشجاع الصنديد، والبخيل الشحيح بأنه الكريم السميح

والظالم الغشوم بأنه العدل الرحيم، والغبي البليد بأنه الذكي الوحيد، والعاصي الفاسق

بأنه ذو التقوى السابق.

إن أهل الباطل مفسدون، وفسادهم ظاهر غير خفي في الغالب، ولكنهم يقلبون الحقائق

فيحصرون الصلاح في أنفسهم، كما قال تعالى عن المنافقين:
{وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} .

وهكذا يثني زعماء الباطل على أنفسهم بحيازة الملك والمال والغنى، معَرِّضين بفقر

أهل الحق وضعفهم، مسوغين بذلك أنهم أحق بالاتباع والطاعة في باطلهم من أهل الحق

ولهذا تجد أهل الباطل يحاولون إبراز أنفسهم مهما تنوع باطلهم ، ويجد أهل الباطل

جماهير في شعوبهم يستخفونها فتخف لتأييدهم والتسبيح بحمدهم وهذه الجماهير قسمان:

قسم مضلَّل العقول، يظن الباطل حقا والحق باطلا بسبب الزخم الداعم لهذا الباطل بالوسائل

المتنوعة ولو أتيح للحق وسائل توصله إلى عقول هذا القسم لأصبح كثير منهم من

أهل الحق ومناصريه ضد الباطل وأهله.

وقسم يعرف الحق والباطل، ويعلم أنه قد سلك طريق الباطل ومناصرته ضد الحق وأهله

لضعف همته واتباع هواه وإشباع شهواته المادية والمعنوية.

أما الذين يفرقون بين الحق والباطل ويقفون بجانب الحق ضد الباطل فهم فئة قليلة

من البشر في كل الشعوب، وهذه الفئة هي التي يخافها زعماء الباطل .

الوسيلة الثالثة: حشد قادة الباطل من يؤيد باطلهم.

إن أهل الباطل وقادته لا يقوى شأنهم ولا يستقر قرارهم ولا يبقى باطلهم، إلا إذا

أيدتهم قوة تفوق قوة أهل الحق أضعافا مضاعفة، بحيث تكاد قوة أهل الحق المادية

تنعدم بجانب قوة أهل الباطل، وإنما يستمد أهل الباطل قوتهم من الجماهير المؤيدة لهم

لذلك تراهم يجتهدون في حشد الجماهير التي تؤيدهم في الحق وفي الباطل.

أصناف الفئات التي يحشدها أهل الباطل لتأييد باطلهم.

أولا: فئة الأغنياء المترفين.

والغالب أن الترف يلازمه الظلم، والظالم يدأب في نصر الباطل وأهله ومحاربة

الحق وأهله، قال تعالى:
{وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين، فلما أحسوا بأسنا إذا هم
منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون} .

وقال تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول
فدمرناها تدميرا} .

وقال تعالى: {واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين} .

وقال تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون}

ثانيا: فئة علماء السوء.

قال تعالى:
{إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب
أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب
عليهم وأنا التواب الرحيم} .

وقال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما
يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم}.

فكل من لبس الحق بالباطل وكتم الحق وهو يعلمه، من علماء الذين اقتدوا بعلماء بني

إسرائيل، يستحقون هذا الوعيد الشديد الذي سجله الله في آخر كتاب أنزله على آخر

رسول وهو القرآن الكريم.

ثالثا: فئة الأدباء والشعراء والكتاب.

هذه الفئة هي من أهم الفئات هم الذين يقودون الإعلام والتعليم والنوادي الأدبية والثقافية

وينالون من التأييد والتمكين والاحترام ما يجعلهم قادة الشعوب وموجهيها، من أجل

أن يفسدوا عقول أبنائها بالباطل، ويحولوا بينها وبين الحق الذي يحاربون أهله ويصدونهم

عن السبق به إلى تلك العقول.

وقد يكون كثير ممن يسمون بالأدباء والكتاب والشعراء لا يستحقون تلك التسمية

لهبوط مستواهم في كل تلك المجالات وضعفهم فيها، ولكن قادة الباطل يرفعون شأنهم

ويبرزونهم ويطلقون عليهم من الألقاب والصفات ما لا يستحقونه، فيسمون بالرواد

والكتاب وقادة الأدب والفكر وغير ذلك.

ولعل أفراد هذه الفئة وجمعياتها ومؤسساتها كلها، يشملها قول الله تعالى:
{والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون} .

رابعا: فئة الجيوش والشُّرَط.

وهم الفئة التي تتولى نصر الباطل وأهله وإكراه الناس على قبوله والصد عن بيانه للناس

ولو لم يجد فرعون جنودا ينصرون باطله ويحارب بهم الحق، لما وصل إلى ذلك العلو

والتكبر والجبروت، ولهذا قرنه الله بجنوده في الاستكبار والعقاب كما قال تعالى:
{واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون... فأخذناه
وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} .

ولهذا ينال جنود الباطل وطغاته عقابهم من الحق جل جلاله، كما قال تعالى:
{فأخذناه وجنوده} .

خامسا: فئة الجواسيس.

تمهيد: التجسس قسمان:

القسم الأول:تجسس مشروع.

وهو أن يقصد منه ولي أمر المسلمين معرفة بعض الصالحين من أفراد رعيته، ليسند إليهم

وظيفة من الوظائف التي تتحقق بها مصالح الرعية، أو يقصد منه معرفة أهل الرِّيَب والإجرام

ليتجنب توليتهم على مصالح الرعية أو يحمي الرعية من إجرامهم، أو يقصد منه جمع المعلومات

عن العدو الحربي، لحماية الدولة الإسلامية من العدوان، وإعداد العدة الكافية لهزيمته....

القسم الثاني: غير مشروع.

وهو أن يُقْصَد من التجسس تتبع عورات الناس والبحث عن عيوبهم وفضحها

ويستثنى من ذلك ما إذا ظهرت أمارة أو خبر ثقة على وجود اعتداء على حرمة يفوت

تداركها، لو لم يُعَجَّل ببعث عيون لاكتشافها قبل وقوعها وردع المعتدي عن عدوانه، كالقتل

وارتكاب فاحشة الزنا، و كذا إذا وقعت جريمة اعتداء ولم يعرف مرتكبها، فإن الواجب

على ولي الأمر البحث عن مرتكبها ببعث العيون للقبض على المجرم وعقابه.

ومن هنا نعلم أن الجواسيس الذين يرتكبون التجسس غير المشروع، قد انحطت نفوسهم

عن معالي الأمور إلى دركات الخسة، ليضعوا التدابير اللازمة لمحاربة الحق الذي ينوي

دعاته إبلاغه إلى عقول الناس، بل قد يزيد الجواسيس مِن عندِهم ما يوغرون به الصدور

على أهل الحق من أجل محاربة الحق وأهله.

والجواسيس يجمعون بين سيئات متعددة:

منها سوء الظن الآثم، ومنها التجسس على الناس، ومنها اغتيابهم، بل وبهتهم، ومنها

النميمة عليهم، ومنها التحريش بينهم وإلقاء العداوة في صدورهم، وكل واحدة من هذه

كافية لنصرة الباطل ومحاربة الحق.

وخطر الجواسيس على الحق أعظم مما يتصوره كثير من الناس، فهم يخططون لإسقاط دول،

واغتيال زعماء، ونشر فساد في الأرض.

قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب
بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} .

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: [إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا.]


الخلاصة

أن قادة الباطل يحشدون كل الطاقات ويحشرون كل فئات الشعوب التي تستجيب لهم، ليسبقوا

بباطلهم وصولَ الحقَّ إلى عقول الناس، أو يصدوا عقول الناس عن سماع الحق والاستجابة

له، فقد يدخل في تلك الفئات الصناع الذين يصنعون لهم الآلات والأدوات التي تستعمل لنشر

الباطل أو لتعذيب أهل الحق أو تشويه الحق، وكذلك يستعملون الفئة الجاهلة، وهي

جماهير الشعوب المتخلفة، لتأييد الباطل ومحاربة الحق، بالتجمهر والهتافات والمظاهرات

الصاخبة، التي يطلقون فيها ألسنتهم بالسب والشتم لدعاة الحق ووصفهم بأقبح الصفات

للتنفير منهم ومن الحق الذي يدعون إليه، كل ذلك من باب التقليد والخفة والاستجابة

الطائشة للدعوات المضللة، ألا ترى الجماهير الفرعونية كيف استجابت للتجمهر الذي

لا تدري لمن تكون الغلبة فيه، كما قال تعالى:
{فجمع السحرة لميقات يوم معلوم، وقيل للناس هل أنتم مجتمعون، لعلنا نتبع
السحرة إن كانوا هم الغالبين} .

وهم الذين قال الله تعالى عنهم:
{فاستخف قومه فأطاعوه} .





منقول