ماء غير آسن.....للكاتبة جوخة الحــارثي



تصاعد الكلمات , لا يراها غيرها وهي تهجر الشفاه المنهكة لتأوي إلى مكانها الأثير , عشرات الكلمات ، آلاف الكلمات ، تنفصل عن هذه الأجرام الكثيفة إلى ذلكم الجرم اللطيف ، تطير زرافات ووحدانا , ولا يرى تحليقها الحر في الهواء العلوي غيرها.

هذه عائشة , وهذا بيتها المكتظ بالأخوة ، ومهما كان ماء الحياة كدرا كما ينبغي كان لعائشة تلكم القدرة الصافية على رؤية الكلمات في رحلتها السرية.

الكلمات البيضاء التي تشبه عسلا أبيض ، تهاجر من فم أمها الملصق في سماعة الهاتف ، وتراها عائشة متعانقة بوله في سماء لا لون لها ، لكن عائشة تعرف أن اللون المتخفي هو الأسود ، هذا لون له صوت ، وصوته سوط أبيها ، ولسوط أبيها غارات وأمجاد على ظهور تصمد لعشقه.

عاد أبوها غاضبا , شتم أمها بقسوة ، وصعدت كلماته ورأتها عائشة ، وظلت طوال اليوم تحركها ، تراها وهي تعمر الفضاء ، وتلتصق مثل السحب لتصبح طوع بنانها ، تحركها ، وتركبها جملا جديدة تعيش عليها ، لمت أمها ثيابها ، كالعادة , وسالت دموعها كالعادة ، وباس زوجها قدميها ، كالعادة ، وقال:" لا تذهبي إني أعبدك " ، كالعادة ، وأبصرت عائشة كلمة العبادة تصعد بثقل حتى أجهدتها ، ثم اصطفت متململة ، وحركتها عائشة في الليل بصعوبة لتصنع منها ضحكة أخيها الصغير عابد ، وعبارة تأخذها إلى الجصة لتسمع البحر ،وعباد شمس مشرق.

في الصباح أبصرت ولولات أمها سحبا عجلة ، وقسمها – بشعرها المقصوص غيلة أثناء الرقاد – سحابة وئيدة ، عرفت عائشة – بالخبرة – أن تلك السحابة ستنزل بسرعة إلى الأرض .

إبصار رحلة الكلمات وتحريكها عمل عائشة الوحيد ، فأمها لا تأتمنها على الرضيع ، ولا تسمح لها بدخول المطبخ ، ولا لمس أدوات التنظيف ، ولم يعبأ أبوها بالبحث عن مدرسة تلائم احتياجاتها مذ عجزت عن التواصل بلا نور في المدرسة الابتدائية ، ولكن عائشة التي لا يراها أحد ترى الكلمات ، أحيانا بعدما ينام كل أحد ، تتحرك الكلمات السابحة في الفضاء – من تلقاء نفسها – وترقص لعائشة ، وتكون تشكيلات مدهشة ، جملا مضحكة ، وقد تقطر منها بعض الحروف أصواتا تدفئ أذن عائشة , وتترك الكلمات مغتسلة وبهية.

العسل الأبيض من فم أمها على السماعة يثقلها ، لزوجته تعيق الكلمات عن الصعود ، وعائشة المكومة بجانب أمها التي لا تراها ترى الكلمات ، تبصر جمالها وغنجها وحروفها المكسرة ولكنها تعجز عن حبها ، وتعجز عن رفع العسل الكثيف اللاصق إلى السماء الشفيفة ، وعن بناء أي كلمة جديدة منه , يتكدر ماء الرؤية وتحزن.

كلمة " عوراء" التي قالها أخوها الأكبر- وهو يزيحها عن طريقه فارا من أبيه الذي كان يلاحقه بحبل – نفضت عنها حرف العين ، وتشابكت مع كلمة أمام التي صرخت بها أمها لنجدة الولد ، ولعبن لعبة " أنا القطار السريع " , التي تحبها عائشة وتلعبها مع عابد مراوغة بمهارة قطع الأثاث والجدران كيلا تصطدم بها ، " أمشي ولا أستريح ..توت ..توت.. أنا القطار السريع..توت..توت.." ، وتحولت "توت" إلى توت أسود لذيذ ، خاتل عيني عائشة وهرب.

" ماذا يضحكك يا مقدم الشوم ؟" صاح أبوها وهو يقطع أسلاك الهاتف إلى قطع صغيرة ، :" تكلمي يا بنت أمك ..يا بنت الكلبة .." تمتم أخوها المختبئ :" ربما يضحكها الحصيني الذي يركض خلف عينيها المظلمتين " ، جذبتها أمها بقوة :" لا تردي عليهما " ،وجرجرتها خلفها يشيعهما صوت أخيها :" عاشة العوراء ..عاشة العوراء.." ، من تحتها حصى متكسر ، تسمع صفق الباب ، أصوات الشارع ، وترى " الكلبة " و" الحصيني " والعوراء" ، يصطففن في الفضاء ولا يتحركن ، وتحدق إلى الكلمات في ركضها اللاهث ، ألوانها شتى وملامحها متباينة ، يقطر منها صدأ أصفر لكن كأس عائشة لا تلقفه ، أبوها يركض خلفهما ، يقذفهما ببقايا الأسلاك :" إلى أين تذهبي بالعوراء يا فاجرة؟..نعم ، إليه ، لم تشبعي من صوته ، اذهبي ، يا مجنونة ، اشبعي منه ، يا مجنونة ، ستعودين ،عودي ، عودي .." وترتعش " عودي " أمام عيني عائشة ، ثم تضطرب بقوة ، فتركض لتلحق بها ، فتفر ، فتركض ، حتى إذا ما سقطت إعياء كانت " عودي" عود خشن الأوتار قد اختبأ في الفضاء مع بكاء أبيها وصوت تقبيله لقدمي أمها المغبرتين.



جوخة الحارثي ...قاصة عمانية