النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: قراءة في مسرحية مأساة الحلاج

  1. #1
    الصورة الرمزية فارس العشق
    Title
    نبض جديــد
    تاريخ التسجيل
    09- 2004
    العمر
    40
    المشاركات
    123

    Thumbs up قراءة في مسرحية مأساة الحلاج

    قراءة في مسرحية مأساة الحلاج
    يرتحل صلاح عبد الصبور إلى التراث الصوفي وينسج مسرحية حول الحسين بن منصور الحلاج كاشفا أبعاد شخصية ذات طابع مميز, في إطار لغة شعرية بسيطة, تعلو في بعض المقاطع إلى قمة الصفاء والعذوبة ..
    فالحلاج-كما يصوره عبد الصبور- هو ذلك المتصوف المختلف عن باقي المتصوفة , فهو يؤمن بدور لابد أن يلعبه الصوفي على المستوى الإنساني والسياسي, فيقول لرفيقه الشلبي والذي يختلف معه كثيرا:
    ( لم يختار الرحمن شخوصاً من خلقه
    ليفرق فيهم أقباسا من نوره
    هذا .. ليكونوا ميزان الكون المعتل
    ويفيضوا نور الله على فقراء القلب )
    ويعتقد الحلاج في ضرورة أن يتصل برجال الدولة ممن يتوسم فيهم الميل إلى الحق والتمرد على الفساد القائم, ويذهب الحلاج بعيدا في نقاشه مع الشلبي الذي لا يفتأ يذكره بأهمية اعتزال الصوفي للدنيا والناس.. وبآداب الخرقة الصوفية التي يرتديها ...
    فيرد الحلاج :
    (تعني هذه الخرقه
    إن كانت قيدا في أطرافي
    يلقبني في بيتي جنب الجدران الصماء
    حتى لا يسمع أحبائي كلماتي
    فأنا أجفوها .. أخلعها يا شيخ
    إن كانت أشارة ذل ومهانة
    رمزا يفضح أنا جمعنا فقر الروح إلى فقر المال
    فأنا أجفوها .. أخلعها يا شيخ )
    وفي مشهد آخر, يعرض عبد الصبور مناقشه بين مجموعة من مريدي الحلاج, وفيهم الأحدب والأبرص والأعرج, فنرى ثلاثة من الضعفاء الذين يشعرون بالسكينة ويحلقون في مدارج البهجة طالما جمعتهم جلستهم بالحلاج.. لكنهم يفقدون أثر ذلك بمجرد مفارقتهم له فيقول الأبرص :
    (كأن الشمس حين أراه قد سمعت ضراعاتي
    وقد صبغت مذلاتي
    وصرت أجوس في الطرقات مختالا .. نضير الوجه
    وردي الذراعين
    بلا سوء ولا وشم بسيمائي
    ولكني إذا فارقته لملمت ثوبي فوق أعضائي
    ولذات بستر مستبغي وإعيائي وأدوائي )
    فهولاء يذكروننا على الفور بما ينادي به الحلاج من البداية وهو أهميته كأفكار وكلمات ومبادئ .. وليس كشخص .
    ويبلغ المشهد ذروته حينما يدخل الحلاج ويبدأ حديثه إلى الناس حديثا أقرب إلى المناجاه منه إلى الوعظ, وذلك في جمله شعرية طويلة .. لكنها في غاية الشاعرية .. تكاد تكون شعرا صرفا دون أي حشو سردي أو إطناب حواري, فيقول مما يقول :
    (فإن تصنف قلوب الناس تأنس نظرة الرحمن
    إلى مرآتنا ويديم نظرته فتحيينا
    وإن تكدر قلوب الناس يصرف وجهه عنا
    ويهجرنا ويجفونا
    وماذا يفعل الإنسان إذا جافاه مولاه ؟
    يضيق الكون في عينيه
    يفقد ألفه الأشياء
    ويضحى البدر دائرة مهشمه رمادية
    من القصدير ميتة وملقاة على بيداء
    فقد جفت عيون الناس وأصبحت نقطه سوداء
    وتذوى أذرع الأشجار تلقى حملها للأرض
    وتدفنه كمجهضة تدفن عارها في الطين
    ويمشى القحط في الأسواق يجلب جزية الأنفاس
    من الأطفال والمرضى .
    حقيبة بلا قاع فلا تملأ إذ تعطي
    وخلف القحط يمشي تحت ظل البيرق المرسل ..... جنود القحط جيش الشر والنقمة)
    ويختم حديثه :
    (وربي قصده القلب
    ولا يرضى بغير الحب
    تأمل : إن عشقت ألست تبغي أن تكون شبيه محبوبك
    فهذا حبنا لله
    أليس الله نور الكون
    فكن نورا كمثل الله
    ليستجلى على مرآتنا حسنه).

    تداخله مجموعة من رجال الشرطة .. يستدرجونه حتى يزل فيبوح.. ويهتك ستر السر, ويرموه بالزندقة والكفر, ويهب رجل متصوف مدافعا فيقول :
    (لا يا قوم
    هذا سكر الصوفية
    فاض القلب فعربد
    غلب الوجد القصد)
    فلا يسمع إليه الجند ويقتاد الحلاج إلى السجن .. فيصيح المتصوف بالناس :
    (يا قوم
    هذا الشرطي استدرجه ليكشف عن حاله
    لكن .. هل أخذوه من أجل حديث الحب؟
    لا .. بل من أجل حديث القحط
    من أجلكمو أنتم
    من أجل الفقراء المرضى .. جزية جيش القحط)
    فيصيح الناس ..
    (فلنطلقه من أيديهم)
    لكن الحلاج يوقف جلبة الناس :
    (لا يا أصحابي
    لا تلقوا بالاً لي
    أستودعكم كلماتي)

    وبنهاية المشهد ينتهي الجزء الأول من المسرحية الذي يحمل عنوان (الكلمة) وهذا العنوان مفهوم جداً الآن , فالكلمة هي المبدأ الذي آمن به الحلاج .. وهي الإرث الذي يتمني أن يبقي .. هي التهمة التي رمي بها .. وهي السلاح الذي سيقتله .. هي النعمة
    وهي الــجــريــمــة ..

    "الموت" هو عنوان الجزء الثاني من المسرحية ويبدأ بمشهد السجن, الذي يدخله الحلاج وهو ما يزال تحت تأثير سكرته الصوفية, وما إن يلج حتى تأخذه المناجاة :
    (يا صاحب هذا البيت
    هب ضيفك نورا حتى يكشف موضع قدميه
    أو كحل بسنا ذاتك عينيه)
    ويستخدم عبد الصبور (تيمة) رفيق السجن في التجربة اليوسفية, وكيف أنه رغم اختلاف الآفاق يحدث نوع من الانسجام والألفة بينهم ... فالسجين الأول .. والذي يتعاطف مع الحلاج من البداية قائلاً:
    (هذا رجل طيب
    يلقى لفظا لا أدري معناه
    لكني أشعر به)
    هذا السجين ينتهي به الأمر متأثرا بفكر الحلاج .. ورافضا أن يهرب مع زميلة الذي يدور بينه وبين الحلاج نقاش حول الظلم والعدل . فهذا السجين المسكون بالألم والسخط يرى أن السيف والثورة هما الحل ..
    لكن الحلاج يرى غير ذلك .. يرى أن الحل يكمن في إحياء الأرواح .. لا في قتل الأجساد ولا يمكن أن نغفل في هذا المشهد ما دار بين الحاجب والحلاج. فالسجينان يتعاركان ويعلو صياحهما, فيدخل الحاجب الذي يعتقد أن الحلاج هو الذي سبب هذا الصياح .. فيضربه .. ويضربه .. وهو هادئ لا يصرخ .
    فيصيح الحاجب :
    ( أصرخ .. اجعلني أسكت عن ضربك
    الحلاج : ستمل وتسكت يا ولدي
    الحاجب : قلت أصرخ أنت تعذبني بهدوئك
    الحلاج : فليغفر الله لي عذابك
    أيخفف عنك صراخي
    قل لي
    ماذا تبغي أن أصرخ فأقول ؟
    الحاجب : استحلفني بالله .. بأولادي .. بتراب أبي
    أسأل لي الله بقاء , أو سعة في الرزق
    رقيا في الجاه
    اصنع شيئاً يوقفني , أرجوك أجعلني أتوقف)
    وهذا المشهد ذو الإسقاط السياسي يتكرر .. وسيتكرر ما دام الخوف والقهر يعيشان بيننا . أما مشهد السجن ككل فيخيل لي أنه مرحلة وسطية بين الحياة وبين المحاكمة التي أفضت إلى موت الحلاج .. وينتهي مشهد السجن بدخول كبير الشرطة محدثا الحلاج : (اليوم يحاكمك قضاة الدولة)
    منذ البداية تظهر جبهتان, الأولي يمثلها القاضي أبو عمر ـ شخصية مغرورة ومراوغة ـ والقاضي ابن سليمان الذي لا يعدو ظلا للأول .
    أما الجبهة الثانية يمثلها القاضي ابن سريج الذي يتسم بالحيدة والبصيرة
    يفتتح المشهد بحوار ساخر فكاهي بين أبو عمر وابن سليمان يستعرض فيه الأول بلاغته وفصاحته في أسلوب فج ويتمادى ابن سليمان في مدحه .
    أما القاضي ابن سريج فينأى بنفسه عن هذا الابتذال .. ويتمسك بالموضوعية والحق فهو :
    أولا : يحتج على وصف أبو عمر للحلاج (بالمفسد عدو الله ) قبل نظر قضيته ,
    ثانيا : يطالب بإعطاء الحلاج مهلة للدفاع عن نفسه شاهراً فكرة :
    (العدل حوار لا يتوقف) .
    وثالثا : يرى أن ما قاله الحلاج أثناء المحاكمة حالة صوفية لا يقضى فيها إلا الله تعالى .
    ورابعا : يحاول مباشرة تبرئة الحلاج من تهمة الكفر بسؤاله إن كان مؤمنا بالله .
    وخامسا : يقتنع بن كيفية إيمان المرء شيء بينه وبين ربه ولا يجوز للقاضي التدخل فيه .
    وأخيرا , يغادر المجلس رافضا ما يحدث ...
    فأثناء المحاكمة جاء رسول من الوالي برسالة عفو عن الحلاج وذلك عن تهمة تأليب العامة وإثارة الشغب , لكن أبو عمر يصر على محاكمته بتهمة الزندقة مدعيا أن ذلك حق الله وليس حق الوالي , لكن ابن سريج يعترض :
    (بل هذا مكر خادع
    فلقد أحكمتم حبل الموت
    لكن خفتم أن تحيا ذكراه
    فأردتم أن تمحوها
    بل خفتم سخط العتمة ممن أسمع أصواتهم هذا المجلس
    فأردتم أن تعطوه لهم مسفوك الدم
    مسفوك السمعة والاسم)
    ويستخدم أبو عمر حيلته فيطلب شهودا من عامة الشعب , ومعهم الشلبي .
    ويحاولون استدراجه .. وينجحون بالفعل فالشلبي الذي رأى دوما ضرورة أن تكتم أحوال المكاشفة .. لا يستطيع أن يبرئ صديقه بالبوح فيقول :
    (فلقد عاهدت الله
    ألا أفشي نعماءه
    ألا أكشف وجه الأسرار
    ألا أتحدث عن حالي قط)
    أما العامة ـ وكما ورد على لسانهم في الجزء الأول ـ فيتم رشوتهم وشراء ضمائرهم ليصموا: (كافر .. كافر.. زنديق .. زنديق .. يقتل .. دمه في رقبتنا) .
    وينتهي المشهد علي لسان أبو عمر :
    (والآن .. امضوا , وامشوا في الأسواق /طوفوا بالساحات وبالحانات وقفوا في منعطفات الطرقات/ لتقولوا ما شهدته أعينكم :
    قد كان حديث الحلاج عن الفقر قناعا يخفى كفره/ لكن الشلبي صاحبه قد أفشى سره / فغضبتم لله و أنفذتم أمره
    أنتم
    حكمتم , فحكمتم )
    وهكذا تنصل القضاة من الحكم وادعوا أن هذا حكم العامة , وتم صلب الحلاج , وفي هذا المشهد أيضا , لا يمكنني أن أغفل ما قاله الحلاج أثناء المحاكمة من شعر عذب يضارع ما قاله للناس في الجزء الأول وكان مما قال :
    (لا أملك إلا أن أتحدث/ ولتنقل كلماتي الريح السواحة/ فلعل فؤادا ظمآنا من أفئدة وجوه الأمة / يستعذب هذي الكلمات)
    وقال أيضا :
    (الفقر يقول ـ لأهل الثروة ـ اكره جمع الفقراء/فهمو يتمنون زوال النعمة عنك/ ويقول لأهل الفقر / إن جعت فكل لحم أخيك / الله يقول لنا : / كونوا أحباباً محبوبين / والفقر يقول لنا : / كونوا بغضاء بغاضين / اكره .. اكره .. اكره / هذا قول الفقر)

    وتنتهي الحكاية بقتل الحلاج .. لأن أفقا ضيقا وفكرا مريضا سكن رأس القاضي .. ولأن قهرا وفقرا ومرضا سكن الشعب .. فماتت الكلمة .
    أحــمــد ســلطــان
    فارس العشق




  2. #2
    الصورة الرمزية سيمون
    Title
    نبض نشيـط
    تاريخ التسجيل
    06- 2005
    العمر
    35
    المشاركات
    538
    ممشكور اخوي عالقراءة الرائعة ...
    ولا تحرمنا من قرءاتك الرائعة اخي ..

  3. #3
    الصورة الرمزية عبدالحكم
    Title
    نبض جديــد
    تاريخ التسجيل
    11- 2004
    العمر
    75
    المشاركات
    96
    جميل ماقدمته...يافارس العشق أفدتنا واطربتنا مشاركة قيمة واختيار جيد ... الف شكر لك

  4. #4
    الصورة الرمزية عاشق السمراء
    Title
    "رجل عادي جدا"
    تاريخ التسجيل
    05- 2002
    المشاركات
    21,307
    مسااااااااااااء جميل ...

    (( فارس العشق ))

    قرأت من خلال هذا السرد ..
    عدت مشاهد مؤثرة ..
    تجبر المشاهد على الاحساس بالمعاناة ..
    وهذا هو التأثير الحسي الصادق ..
    في التعامل بالنصوص ..!!
    قراءة متقنة ..
    يعطيك العافية .......... على هالمجهود !!

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML