موضوع جيد اخي (البوسعيدي) وانا سأبدا بالكتابه واتمنى الاستفاده
مالك بن نبي ..فلسفة حضارية وفكرية رائدة
مالك بن نبي هو أحد أعلام الفكر المعاصر في الجزائر وفي منطقة شمال إفريقيا والعالم العربي. وباستثناء بعض الأكاديميين والمفكرين وطلبة الجامعات فإنه من المؤسف أن الكثير من أفراد الشعب الجزائري ناهيك عن المجتمع العربي لا يعرف هذه الشخصية. ولعل الباحث في سبب هذا الجهل يجد عدة عوامل متشابكة منها ما هو ذاتي يتعلق بالدائرة الجغرافية والتاريخية والإيديولوجية التي كان يعيش فيها هذا المفكر، ومنها ما هو موضوعي يرتبط بطبيعة الفكر الذي يطرحه.
فمن الصنف الأول استعماله اللغة الفرنسية في بداية حياته، بحكم هيمنة الإحتلال الفرنسي وتكوينه الجامعي في باريس مما جعل جمهوره يقتصر على عدد ضئيل من المثقفين بالفرنسية. هذا مع العلم أنه أصبح آخر حياته يكتب باللغة العربية. كما أن جميع كتبه السابقة قد تُرجمت من الفرنسية بمساعدة زملاء له ونشر معظمها بدار الفكر بدمشق تحت سلسلة ندوة مالك بن نبي. ومع وفرة إنتاجه الأدبي بعد وفاته سنة 1973 حيث زادت الكتب التي تركها عن العشرين كتابا، فإننا لا نجد تفسيرا لغياب أعماله في الحياة الثقافية العامة بالجزائر إلا ذلك التعتيم الإعلامي والثقافي والسياسي الذي مارسته عليه النخبة الإشتراكية الشيوعية والفرنكفونية بعد الإستقلال.
أما العوامل الموضوعية لعدم شهرته فتعود إلى طبيعة خطابه الموجه خصيصا إلى طبقة النخبة وابتعاده عن المهرجانات الكلامية والسياسية طيلة حياته، ثم هدوء أسلوبه المرتكز في الغالب على العقل والمنطق.
وقد جاء في تمهيد لأحد كتب مالك بن نبي قول الدكتور محمد المبارك (عميد كلية دمشق سابقا): “أنا لا أقول إنه (نبي) لكني أقول أنه ينهل من نفحات النبوة، ويتابع الحقيقة الخالدة”. ولذلك فلن نكون مغالين في تشبيه مالك بن نبي بالعلاّمة ابن خلدون في عمق تفكيره وإسهامه في تقعيد الفكر الإسلامي. ومن الطريف أن يمتد هذا التشابه كذلك إلى الظلم الاجتماعي الذي تعرض له كل من المفكرين الذي طوى النسيان إسميهما ودثرت الأيام والسنون أعمالهما. وإذا أدركت المجتمعات العربية والإسلامية ونخبتها أهمية كتابات ابن خلدون بفضل المستشرقين الأوروبيين فإن أعمال مالك لا تزال قابعة في الرفوف تنتظر من يفتحها وينمي ما فيها باستثناء بعض الملتقيات المحتشمة التي تنعقد هنا وهناك للثناء والترحم عليه.
مدرسة فكرية متميزة . ولا يقتصر الشبه بين ابن خلدون ومالك بن نبي في ظُلم المجتمعات لهما، وإنما يمتد إلى اشتراك جذورهما الجغرافية وسيرتهما العلمية وطريقة طرحهما للأفكار. فطروحاتهما الفكرية تكاد تؤسس مدرسة فكرية إسلامية متميزة قد يكون للعامل الجغرافي أثر في نحتها. ولعل أبرز نقاط الشبه بين فكريهما اشتراكهما في الكثير من المصطلحات الأدبية والعلمية التي تهيكل خطابيهما والتي تختلف لفظا وتشترك في المعنى ألا وهي: العمران البشري ومشكلات الحضارة ودورة التاريخ والتقنين للصيرورة البشرية، والتداول الحضاري. ولذلك فلن نكون مبالغين إذا قلنا إن مالك بن نبي هو ابن خلدون عصرنا أو على الأقل استمرارية لفكر ابن خلدون في زماننا وصورة حديثة وتطويرية له.
ويعتبر مالك بن نبي ومدرسته من أكثر المدارس الفكرية التي كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملامح الفكر الإسلامي الحديث، خاصة أن هذه المدرسة اهتمت أكثر من غيرها من المدارس الأخرى بدراسة مشكلات الأمة الإسلامية؛ انطلاقا من رؤية حضارية شاملة ومتكاملة. فقد كانت جهوده لبناء الفكر الإسلامي الحديث وفي دراسة المشكلات الحضارية عموما متميزة؛ سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو المناهج التي اعتمدها في ذلك التناول.
“وكان بذلك أول باحث حاول أن يحدد أبعاد المشكلة، ويحدد العناصر الأساسية في الإصلاح، ويبعد في البحث عن العوارض، وكان كذلك أول من أودع منهجا محددا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ”.
ولم يكن ابن نبي مفكرا إصلاحيا بالمعنى المتعارف عليه عند معظم من تناول مؤلفاته، بل كان في جوهره “شخص الفكرة”، كان بالأساس تعبيرا عن رؤية منهجية واضحة، ومفكرا معرفيا، أدرك أزمة الأمة الفكرية، ووضع مبضعه على أُس الداء، وهو بنيتها المعرفية والمنهجية، إنه -من دون شك- واحد من أهم رواد مدرسة “إسلامية المعرفة” وإصلاح مناهج الفكر، وإن مفاتيح مالك لا تزال تملك قدرة توليدية في مجال المفاهيم والمنابع والعمارة الحضارية بكل امتداداتها وتنوعاتها.
ولا غرابة في أن نجد من الدارسين للفكر الإسلامي الحديث من يعتبر مالك بن نبي بمثابة ابن خلدون العصر الحديث، وأبرز مفكر عربي عني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون، ومع أنه قد تمثل فلسفات الحضارة الحديثة تمثلا عميقا، واستلهم في أحايين كثيرة أعمال بعض الفلاسفة الغربيين فإن ابن خلدون بالذات يظل أستاذه الأول وملهمه الأكبر.
ومالك نفسه لا يخفي تأثره بفكر ابن خلدون ونظرياته حول العمران البشري، بل أشار إلى ذلك في مواضع شتى من كتبه، كما ذكر ذلك في مذكرات حياته “شاهد القرن”.
وهكذا ظهر “مالك بن نبي” وكأنه صدى لعلم ابن خلدون، يهمس في وعي الأمة بلغة القرن العشرين، فأظهر أمراض الأمة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات، ووضع الاستعمار تحت المجهر؛ فحلل نفسيته، ورصد أساليبه الخبيثة في السيطرة على الأمم المستضعفة، خاصة المسلمين، ووضع لهم معادلات وقوانين “الإقلاع الحضاري”.
ولكن الأمة لم تقلع حضاريا؛ وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها ومؤسساتها، أو لضعف المحرك المقرر أن يقلع بها، أو لاجتماع السببين معا. ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلات والقوانين “نظريات” مفيدة للمحركين الذي يهتمون بانطلاق “المشروع الحضاري” للأمة.
مفهوم الحضارة
وينبني مفهوم الحضارة عند ابن نبي على اعتقاده الراسخ بأن “مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها”.
وانطلاقا من هذا الاعتقاد الراسخ بأهمية الحضارة وضرورة “فقه” حركتها منذ انطلاقتها الأولى إلى أفولها يحاول ابن نبي إعطاء تعريف واسع للحضارة، يتحدد عنده في ضرورة “توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه”.
وعلى هذا فكل ما يوفره المجتمع لأبنائه من وسائل تثقيفية وضمانات أمنية، وحقوق ضرورية تمثل جميعها أشكالا مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه.
ويتبين من خلال هذا أن مفهوم الحضارة عند ابن نبي شديد الارتباط بحركة المجتمع وفاعلية أبنائه؛ سواء في صعوده في مدارج الرقي والازدهار، أو في انحطاطه وتخلفه، وبالتالي فلا بد من فهم عميق، و”فقه حضاري” نافذ لكل من يريد دراسة المجتمعات دراسة واعية وشاملة؛ لأن حركة المجتمعات الحضارية ظاهرة تخضع كغيرها من الظواهر الإنسانية “لسنن” و”قوانين” اجتماعية وتاريخية ثابتة، لا بد من الإحاطة بها، وإدراك كنهها لكل من يريد أن يعيد لأمته مجدها الحضاري، ويحقق لها ازدهارها المنشود. وهذا ما أكده بقوله: “إن أول ما يجب علينا أن نفكر فيه حينما نريد أن نبني حضارة أن نفكر في عناصرها تفكير الكيماوي في عناصر الماء إذا ما أراد تكوينه؛ فهو يحلل الماء تحليلا علميا، ويجد أنه يتكون من عنصرين (الهيدروجين والأوكسجين)، ثم بعد ذلك يدرس القانون الذي يتركب به هذان العنصران ليعطينا الماء، وهذا بناء ليس بتكديس”
والعناصر الضرورية التي تتشكل منها كل الحضارات -حسب مالك- هي ثلاثة: الإنسان والتراب والوقت.
ويدعو مالك بن نبي في جل كتاباته إلى ضرورة إبداع بدائل فكرية ومناهج علمية مستقلة تتناسب مع البيئة الإسلامية بدل استيرادها كما هي من الغرب الأوربي. ويلح على ضرورة الاستقلال الفكري في دراسة مشكلاتنا الحضارية والاجتماعية؛ لأنه يعتقد -كغيره من الدارسين للحضارات الإنسانية- أن هناك خصوصيات كثيرة تتميز بها كل حضارة عن غيرها. “فلكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها، وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به نحو الأشياء، بينما الحضارة الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها، سبح خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة.. نحو الأفكار”
ومن أهم الخصوصيات التي ميزت نشوء الحضارة الإسلامية أن نشوءها سببه الوحي الرباني؛ مما جعلها حضارة خالدة خلود المبادئ والتعاليم التي تحملها وتدعو إليها، “فجزيرة العرب.. لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباء لا ينتفع به؛ لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان، التراب، والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح: مكدسة لا تؤدي دورا ما في التاريخ؛ حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء -كما تجلت من قبل بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن- نشأت بين هذه العناصر الثلاثة (الإنسان + التراب + الوقت) المكدسة حضارة جديدة؛ فكأنها ولدتها كلمة “اقرأ” التي أدهشت النبي الأمي، وأثارت معه وعليه العالم”.
ولهذا “فالحضارة” لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها؛ لأن “الحضارة” إبداع، وليست تقليدا أو استسلاما وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الأشياء التي أنتجتها حضارات أخرى؛ “فبعض القيم لا تباع ولا تشترى، ولا تكون في حوزة من يتمتع بها كثمرة جهد متواصل أو هبة تهبها السماء، كما يهب الخلد للأرواح الطاهرة، ويضع الخير في قلوب الأبرار. فالحضارة من بين هذه القيم التي لا تباع ولا تشترى.. ولا يمكن لأحد من باعة المخلفات أن يبيع لنا منها مثقالا واحدا، ولا يستطيع زائر يدق على بابنا أن يعطينا من حقيبته الدبلوماسية ذرة واحدة منها”.