(( 2 ))
ذهب " ذئب " ولم يلتفت إلى هتافات أصحابه , توجه مباشرة إلى داره ولم يغادره قط , ولو كان الجماد يتعجب , لتعجب كل ما في البيت من أثاث وأبواب وجدران ونحوه بمكوث " ذئب " ليلته معهم , فهذه الليلة الأولى التي لم يخرج بها قط , سهر " ذئب " مع أفكاره لم ينم ليلته , وأخذ يفكر ويخطط كيف يوقع ليلى الثرية الذكية الفطنة الجميلة المأدبة في براثنه , أخذ يفكر كيف يوقع بحر أخلاقها في مستنقع رذيلته ؟!!
أخذ يفكر في مزاياه , ويقارن ذلك بما قاله عباس عن مناقب ليلى وصفاتها , وبكل ما ذكرته هند عنها بعد ذلك : "
حبها للناس و مساعدتها للآخرين , ورغبتها في الإصلاح , كل ذلك وسط سوادٍ تتكنفه , وصمت لم يتعهده " .
وبعد طول تفكير اهتدى " ذئبٌ " إلى حقيقة "
أن ليلى فتاة ككل الفتيات لابد لها من نقاط ضعف فلها ما تحب ولها ما تكره , ولا بد أن عباس قد هوّل الأمر عليه ليحبط هممه , وقد يكون لهند مصلحة هي الأخرى في ذلك , وربما قد اتفقت مع عباس على أمرٍ ما !! وما ليلى إلا فتاة كسائر الفتيات " 0
خرج " ذئب " من صباح اليوم التالي إلى الجامعة بعد أطول ليلة قضاها في حياته , خرج من داره نحو غايةٍ واحدةٍ فقط باتت بالنسبة له أهم من شهادة التخرج التي فارق أهله في بروكسل منذ سنواتٍ طمحاً في نيلها , باتت ليلى هي شغله الشاغل وجُلّ تفكيره , تلك الفتاة التي سمع عنها , ولكنه لم يرها , تلك الفتاة التي جعلها هدفاً له وتحدياً لابد من تحقيقه , تلك الفتاة التي حولت الذئاب أمامها إلى نعاج , أخذ " ذئبٌ " يفكر ويفكر , وبينما هو غارق في أفكاره تلك حتى وجد نفسه أمام قاعة محاضرات , لم يشعر أنه لم يستقل سيارته إلى الجامعة , وأنه قطع تلك المسافات مشياً على قدميه , لم يشعر أنه قطع وقتاً طويلاً تحت أشعة الشمس المحرقة وأن عقرب الدقائق استدارت مرتين , وها هو الآن يقف أمام مدخل القاعة مع انتهاء وقت المحاضرة لا بدئها , لم تكن تلك القاعة قاعة محاضراته هو بل كانت قاعة محاضرات ليلى , فقد ساقته أقدامه إليها دون أن يشعر , تسمر في مكانه يحدق في ذي وتلك وفي كل الخارجات من تلك القاعة , لكنه لم يرى أي فتاةٍ قد خرجت بتلك الصفات التي ذكرها عباس , وحينما تأكد أن حركة خروج الدارسين قد سكنت , صاح بداخله "
ويحك يا عباس , لقد خدعتني , وجعلتني أعيش في وهم ليلى منذ البارحة , ويحكِ يا هند اللعينة , كيف شاركتِ عباس في هذه اللعبةِ الحقيرة ؟!! " , وبانكسار المهزوم جلس " ذئب " على الأرض , قد أعياه التعب نتيجة السهر وأرق التفكير والإجهاد , قد هاجمه التعب في هذه اللحظة الكئيبة حينما أدرك ملعوب عباس وهند وبقية الرفاق , وبينما هو في تلك الأفكار الناقمة عليهم , إذ به يسمع صوتاً دافئاً يقول : "
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " , وما إن رفع بصره إلا وقد تلاشى كل شئ , وكأنه كان في حلم , أو ربما كان للسراب صوتٌ هو الآخر , انزعج من ذلك كثيراً , ولكنه أخذ يمني نفسه ,
ربما كانت ليلى هي من ألقت عليه السلام ؟ , ربما هي حقيقة !! فتحية الإسلام هنا غير متداولة حتى بين المسلمين , أم إن مناه ورجاؤه هو من فعل به ذلك ؟!! , وأخذت الأفكار والهواجس تتلاعب بعقل " ذئب " بين كر وفر , فقام متثاقلاً يجر خطاه إلى داخل القاعة مأمِلاً نفسه بأماني يتمناها علّ وعسى أن يجد بريقها بالداخل , أو أن يجد من يسأله عن ليلى , وما إن وصل إلى باب القاعة حتى سارع في الدخول كاللص الخائف ثم رفع بصرة المضطرب إلى أقصاها حتى لاح له سوادٌ متقوقع حول ذاته في الطرف العلوي منها , وكان يصدر صوت غير مألوف بالنسبة له , اقترب أكثر , فإذا بفتاة تشع نور تقرأ القرآن بصوتٍ خافتٍ ندي , لم يستطع التأمل في وجهها لبعده عنها , ولكنه تأثر بهذا المنظر , فبادرها بإلقاء السلام الإسلامي عليها من مكانه , سارعت ليلى بإسدال خمارها ثم ردت السلام عليه بصوتٍ غير مسموع دون أن ترفع بصرها من كتاب الله , لم تعره اهتماماً وكأنه غير موجود , واصلت ليلى تلاوتها بصورة صامتةٍ هذه المرة , غير مكترثة بهذا الذي أخذ يقترب منها بخطواتٍ متأنية إلى إن استقر على بعد أمتارٍ قليلة منها , وقف " ذئب " وانتظر طويلاً , فقد كان صبوراً جداً عليها , وبعد مضي أكثر من ساعة ـ هو في صمته وسكونه وهي في تلاوتها وخشوعها ـ همت ليلى بالخروج فموعد محاضرتها التالية على وشك البدء , لكن " ذئب " استوقفها بقولة : "
بالله عليكِ علميني قراءة القرآن فإني والله لم أسمع بمثل هذا من قبل " , وبكل حياء , ونظر مطرق على الأرض , حملت ليلى مصحفها وقدمته " لذئب " دون أن تنظر إليه وخرجت في صمت .
أدرك " ذئب " حينها صعوبة المهمة التي وعد نفسه ورفاقه بالظفر بها , ولكنه كان سعيداً أن ليلى فتاة حقيقية , لا هاجسٌ من نزع خيالات رفاقه , وأنه استطاع أن يظفر بشئ منها من أول لقاء وإن كان ذلك الشئ مصحف لكتاب الله يدعوه لتدارسه وحِفظ آياته .
وفي صباح اليوم التالي أخذ " ذئب " يعترض طريق ليلى , بحجة أنه لم يستطع قراءة القرآن باللغة العربية فقد مكث سنينا طويلة في أرض المهجر بعيداً عن لغته ودينه , وبكل وقار أخرجت ليلى كتاباً صغيراً من حقيبتها هو ترجمة لبعض سور القرآن الكريم , مع ورقة كُتب فيها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : "
لا يخلو رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما " , فقدمته " لذئب " تعلمه من خلالها أن يحترم انعزالها ويقدر خلوتها .
قدمت ليلى ذلك ثم انصرفت في صمت عجيب , أُعْجِبَ به " ذئب " كما أعْجِب لوقار الفتاة وحياؤها .
استغل " ذئب " إيمان الفتاة , ورغبتها الجامحة في الإصلاح و نشر الدين بين الدارسين خاصة المغتربين العرب , الذين يعد صلاحهم الدعامة الحقيقية لتحقيق ذلك فأخذ يلاحقها كل صباح بحجة جديدة كل يوم , لتعلمه الصلاة مرة , وللصيامِ مرة , ولبعض الفرائض والنوافل مرة أخرى , وكانت كل مرة تعلمه ما يريد بطريقتها دون أن تسمعه صوتها أو أن يمكث بجوارها طويلاً تفادياً للخلوة الغير مشروعة .
تأثر ذئب كثيراً بشخصية الفتاة , التي حاول أن يصطادها , فرفعته إلى عفتها وطهرها ليرى الحياة من منظور آخر , لم يعتد عليه من قبل , وتذكر حديث هند عندما قالت : "
لا تتحدث ليلى مع أي فتاةٍ حتى تأسرها وتؤثر في شخصيتها " وهذا بحق ما قد حصل معه هو هذه المرة لا مع الفتيات , دون أن تتفوه ليلى ببنتِ شفه أو أن تسمعه شئ من صوتها .
وبدأ " ذئب " رحلة جديدة من التوبة واعتزال الفتيات , فأخذ يتعلم قراءة القرآن الكريم ويتدارسه متى استطاع ذلك , وجعل من حفظه هدفاً يسعى لتحقيقه , وبدأت آثار الراحة النفسية , وراحة البال تظهر على وجه " ذياب " ذلك الشاب الذي لم يره أحدٌ من قبل إلا ورأى معه آثار الترف والمجون , وصيحات الذئب الشرس الغاضب الذي يفترس الطرائد و يهتك الأعراض , ومن ينظره اليوم يرى في وجهه سمات الصلاح , ووجه العابد الشاكر لأنعم الله , فلم يفارق المسجد من يومها , ولم يماشي إلا من يسانده على الطاعة , والمسلك الطيب , فرافق الرفقة الطيبة , وهجر عباس ورفاقه , , الذين ما لبثوا أن غيروا اسمه من " ذئب " إلى نعجة ليلى , لكنه لم يلقي لهم بالا على ذلك .
تغير " ذياب " وتغيرت أخلاقه وطريقة تعامله مع الناس , بات " ذياب " هيناً ليناً بعد أن كان فظاً غليظاً , اقترب منه العقلاء , ودنا منه الأتقياء وأدنوهُ منهم .
ظل " ذئب " في حاله الجديد حتى انتهى العام الدراسي , وبدأ الدارسون المغتربون بالرحيل , سافرت ليلى إلى موطنها , كسائر الطلبة المغتربون , سافرت ليلى وسافر معها الساند والمعين " لذياب " , فبقي وحيداً بعد اعتزال الدنيا وملاذها , فأخذ يتمتم مع نفسه كالمجنون , وبدأت هواجس رفقة السوء تلاحقه في كل حين , ولكنه كان أجلد من ذلك , وأصبر على المحن , وعرف إنّ ذلك ما هو إلا ابتلاء له وامتحان لصدق توبته , فعزم على قطع مسالك الشيطان , وأغلق الأبواب في وجهه , فقرر العودة إلى بروكسل حيث والداه واخوته هناك .
(( يتبع … ))