النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: الذئـــــب ,, و ليلــــى " ق.ص "

  1. #1

    الذئـــــب ,, و ليلــــى " ق.ص "

    [align=center]الذئب و [blink]ليلى[/blink] ..[/align]



    (( 1 ))


    انتصف اليوم في ( كامبردج ) وبدأ الدارسون بمغادرة الجامعة , خرج ذياب كعادته مع جمعٌ من أقرانه , إلى ذات الناصية التي جرت به العادة أن يقف قربها إبان خروجه من الجامعة يحكي لأصحابه مغامرات الليلة السابقة .

    وقف " ذياب " يحكي بينما أخذت أضواء الكاميرات تلاطف أهدابه وكأنها برقٌ مسائي لطيف , لم تنبعث تلك الأضواء من كاميرات الصحفيين ورجال الإعلام , إذ لم يكن ذياب شخصية سياسية هامة , ولم يكن كذلك شخصية رياضية شهيرة , بل كانت تنبعث من كاميرات الحسناوات فهو بالنسبة إليهن أهم السياسيين سياسة , وأكثر الرياضيين رياضة , فقد كان يسايس العقول ويتلاعب بالقلوب , وقد أطلقن عليه اسم " ذئب" لكثرة مغامراته ومشاكساته , ومع ذلك كن يتنافسن لاستمالته , فالرابحة منهن هي من تحظى بنصيب من " ذئب " وإن كان ذلك النصيب لا يتجاوز النظرة أو الابتسامة .

    أخذ " ذئب " يعدد أسماء صويحباته الحالمات بالوجاهةِ والثراء ممن وقعن في أسره " وعباس " يحتقـن أنفاسه مع كل اسم جديد ينطق به " ذئب " إلى أن ضاق به ذرعاً فصاح به :

    " إنهن لا يحببنك " أيها الذئب " إنهن لا يعشقنك أيها المغفل ولكنهنَّ يعشقن ما تملاً به جيوبهنَّ من مال ؟ "

    فأشار له " ذئب " بسبابته وقال :

    " صه يا عباس , فلستُ بأكثر ثراءً منك " .

    رد عباس عليه قائلاً :

    " إذا هي وسامتك من تجذبهن إليك , أو ربما كذبك عليهن وكلامك المعسول !! "

    قاطعه " ذئب " وعينه تتطاير شرراً :

    " بل هو عقلي وحسن تدبيري . الفتيات يا عباس يحببن من يستحق الحب فقط , فهنَّ جنس ناعم لطيف يعرفن معنى الحب ويضحين لأجله , الفتياتُ يا عباس يحببنني رغم أنني أجمع بينهن في وقت واحد وأقول لكل واحدة منهن " أحبك " فتفرح بها , وكأنها تسمع الكلمة مني للوهلة الأولى في كل مرة , فتبادر قريناتها قائلة لهن بفخر بالغ : " أسَمِعْتِ لقد قالها لي بشكلٍ مغاير " , كل واحدةٍ منهن يا عباس تقول لغريماتها ذلك في الوقت ذاته " , ثم أشار " ذئب " لبعض الفتيات المتناثرات هنا وهناك يَرْقبْنَه من بعيد , فقال : " أنظر يا عباس , تلك هند تنتظر مني نظرة , وهذه سلوى تكفيها مني ابتسامة , أما تلك فهي عبير , تتمنى مني هذه الإشارة " , فأشار إلى عبير بيده فتبسمت ولوحت بيدها وهتفت : هاي " ذئب " , وابتسم لسلوى فتبسمت ومالت برأسها معبرة عن السعادة والرضى , ثم نظر إلى هند بخبث فابتسمت وأرسلتْ له قبلة في الهواء , تفادى أن يلتقطها , وكأنها سقطت وتهشمت على الأرض , والمسكينة في غاية السعادة فقط لأن " ذئب " نظر إليها تلك النظرة .

    عقد عباس حاجبيه بشدة عندما رأى ذلك منهن فقال في امتعاض : " حُمْقٌ .. هن فتياتٍ حُمْق .. إن الحماقة هي من تتلاعب بمشاعرهن أيها " الذئب " وليست نباهتك .. وإنني لا أتشرف أن أتعرف بأشباهِ النساء , أو بالأحرى ببقاياهن , فكل فتاةٍ يعرفها " ذئبٌ " مثلك , ما هي إلا بقايا أنثى " .

    تدخل غسان لفض هذا العراك اللفظي بينهما وقال : " كلمة حقٍ يا عباس أن " ذئب " هو أكثر الفتيان فينا جرأةَ وأحسنّا تصرفاً , والكل منا يلحظ ذلك , ويُقهر من إلتفاف الفتيات حوله , حتى أن بعض رفيقاتنا يمتدحنه وهن معنا , دون أن يكترثنَ بمشاعرنا وغيرتنا منه " .

    فأكمل قيس الحديث بقوله : " هذا صحيح حتى أنه يستطيع أن يلتف على أي فتاة فتكون بين يديه خلال دقائق , ألا تتذكرون كيف جعل من أستاذه اللغة لعبة بين يديه ؟!! "

    فأكمل سعد : " مضحكة تلك الأستاذة . حين أتذكر أنها أخذت تلاحق " ذئب " أينما ذهب وهو غيرُ مكترثٍ بها لا يُلقي لها بالاً , ولا يُعيرها أدنى اهتمام , أنفجر ضحكاً عليها " .

    يضحك الجميع إلا عباس الذي امتعض مجدداً حتى صاح : " إلا ليلى " .

    بتعجب شديد أخذ " ذئب " يحدق بعباس إلى أن قال : " ل ي ل ى , لـ ـيـ ـلـ ـى , ليلى يا عباس!! "

    رد عباس بنزعة انتصار : " أجل ليلى , ليلى أيها الذئب " .

    واصل " ذئب " تعجبه واسترسل في السؤال عن ليلى من تكون ؟ وكيف يعرفها الرفاق , وهو لم يسمع بها قط وهو " الذئب " من بينهم ؟!! , فأجابه عباس : " ليلى هي تلك المحتشمة الوحيدة بالجامعة أيها الذئب , ليلى هي تلك الكتلة السوداء التي لا يُرى منها شئ ولا يُسمع لها صوت , ليلى هي تلك الفتاة العربية المسلمة التي أجبرت سلطات الجامعة النصرانية أن تحترم عفتها وحشمتها , وتدينها , فسمحت لها بارتداء الخمار , فكانت تلك سابقة لليلى فقط , ليلى أيها " الذئب " لا تدخل الجامعة إلا بعد أن تخضع لتفتيش دقيق من قبل بعض المسؤولات للتحقق من هويتها كل يوم , تلك هي ليلى !! أسمعتَ بليلى أيها " الذئب " ؟!! " .

    زاد التعجب عند " ذئب " وكأنه يسمع اسم ليلى وهذه القصة لأول مرة .

    فواصل عباس حديثه بشئ من الانتعاش والفخر : " لا عجب أن لا يسمع بليلى " ذئبٌ " مثلك !! ليلى يا ذئب , فتاة تفوقنا ثراء , فلن توقعها بثرائك , جميلة وكأن العالم أشباح دونها , فلن يغريها جمالك ووسامتك , ذكية وكأن الغباء يحيطها بوجود أمثالنا هنا وهناك , فلن تأسرها بلباقتك , وحنكتك , وحسن تصرفك وتدبيرك .

    ليلى " يا ذئب " كبحر أخلاق , عفةٍ ودين , ونحن كمستنقع رذيلة , انحلال أخلاقٍ وذهابُ دين , ليلى أيها " الذئب " تزداد رفعة وسمواً بينما في الوقت نفسه يزداد كل من حولها هنا انحطاطاً ومجوناً
    " .

    هنا قاطعه " ذئب " والذهول يكاد يفقده صوابه : " حسبك تهكماً يا عباس , فلست بأحسن حالاً منّا " .

    هزّ عباس رأسه موافقاً " ذئب " على ذلك فقال : " وأنا لم أقل بأني الأفضل أيها " الذئب " أنا وأنت و كل هؤلاء الذئاب , وتلك النعاج التي نفترسها كلنا أيها " الذئب " نسخة واحدة , نسخة سوداء لا بياض فيها " .

    تجرع " ذئب " ريقه وقال في حنق : " تحدث عن نفسك وحسب يا عباس , فلسنا كما تقول !! نحن يا عباس نهر من الحب الغادق , والمشاعر الجياشة , ولابد لهذا النهر من أن يفيض , ولابد من أن يعم خيره كل الأرجاء القريبة منه " .

    يضحك الجميع إلا عباس الذي حاول الحديث , لكن " ذئب " لم يمهله فبادره قائلاً : " لا تخرجنا مما نحن فيه يا عباس , فلازلنا نتحدث عن ليلى "

    قال عباس : " أجل أيها " الذئب " لازلنا نتحدث عن ليلى , فماذا تريد أن تعرف ؟!! "

    صمت " ذئب " واستدار ماشياً جاعلاً عباس وبقية الرفاق خلفه طارقاً رأسه , واضعاً يمناه على ذقنه والأخرى خلف ظهره , ثم استدار رافعاً رأسه مشيراً إلى عباس وهو يقول بصوتٍ مرتفع : " لقد قلت عنها إنها لا يُرى منها شئ ولا يُسمع لها صوت ثم أضفت بأنها غاية في الجمال !! , فكيف عرفت ذلك يا عباس ؟!! "

    أجابه عباس بثقة خبيثة : " ليلى أيها الذئب لم يرها رجل قط , حتى أنا لم أرها , ولكن رفيقاتنا الغير أمينات يرددنّ ذلك , تلك صاحبتك هند , واقفة منذ ساعة تترقب منك نظرة , نظرة تكفيها , أدْنُ منها , وأنْعِشْ أملها بقربك ثم أسألها عن ليلى " .

    دنى " ذئب " من هند , التي طارت بها الدنيا من مقدم " ذئب " نحوها , ولكن " ذئب " لم يمهلها حق التعبير عن سعادتها به حين بادرها سائلاً عن ليلى .

    أخذت هند تتحدث عن ليلى وتسترسل في الحديث عنها ـ أوصافها ومناقبها ـ تمتدحها حيناً وتذمها حيناً آخر , فهي كما تراها فتاةٍ مثالية في تعاملها مع الفتيات , لا تتحدث مع أي فتاةٍ حتى تأسرها وتؤثر في شخصيتها , كانت كالمصلح الديني , لا تتردد في مساعدة من يلجأ إليها بشتى أنواع الإعانة : مادية أو معنوية , دينية أو دنيوية , وكانت ليلى ـ من وجهة نظر هند في الوقت نفسه ـ فتاة غبية ساذجة تدفن جمالها وأنوثتها في ذلك السواد التي تتوشحه , فهي لا تعيش حياتها كفتاةٍ في مقتبل العمر , وفاتنةٍ قد تأسر كلُّ من يراها من الشُّبان , فهي فتاةٌ لا ككل الفتيات , هي فتاة موت لا فتاة حياة…..

    استغلت هند اهتمام " ذئب " بحكاية ليلى وأرادت أن يطول به المقام معها , وإن كانت تتحدث عن فتاةٍ أخرى , فواصلت حديثها الشّيّقِ عن ليلى و " ذئب " في ذهول مما يسمع , حتى قالت : " كانت ليلى تردد دائماً حينما تطلب منها سلطات الجامعة أن تكشف وجهها عبارتها المشهورة : " إنّ وجهي أثمن وأنقى من أن ينظر إليه رجلٌ غريب أو فتاة لعوب "

    , فهي لا تكشف وجهها إلا أمام بعض الفتيات التي تثق بهن وتدنينهن منها … "

    وبينما هند تواصل حديثها عن ليلى إّذ " بذئب " يتركها دون أن تتمه ليعود إلى رفاقه هاتفاً : " أنني أعترف يا رفاق أن عباس قد تفوق عليّ هذه المرة , فمن يعرف ليلى هذه حتماً هو المنتصر , وها أنا ذا أعلن هزيمتي أمام صديقي الحميم , وأتعهد لكم جميعاً أن أبتعد عن هذا المسلك الهزيل وأن لا أنافس عباس أو أيّاً منكم على فتاة إذا لم أستطع ضم ليلى الجميلة هذه إلى قائمة فتياتي الحسناوات " . وأخذ يقهقه بصوت مرتفع حتى استاء منه الجميع .

    لكن عباس سرعان ما قطع عليه قهقهته فقال له : " لن تفلح هذه المرة أيها " الذئب " فكل الذئاب التي حولك حاولت ذلك مع ليلى ولكنها فشلت , فشلت ثم عادت خائبة كسيرة كالنعاجٍ والنعاج لا أنياب لها أيها " الذئب " .

    نظر " ذئب " إلى رفاقه متسائلاً : " هل صحيح ما يقوله عباس ؟!! "

    أطرق الجميع رؤوسهم في سكون , تأكيداً لما قاله عباس , فصاح بهم " ذئب " قائلاً : " وداعاً يا رفاق , وداعاً يا أشباه الذئاب , بل وداعاً يا نعاج , وداعاً فلن أعود إليكم إلا وأنا منتصر ظافر بليلاي " .

    فصاح به حسان : " ألن ترافقنا إلى الملهى هذا المساء ؟! "

    وصاح قيس : " ماذا دهاك يا " ذئب ؟!! فكم من ليلى في مصائدنا ؟!! "

    وأضاف سعد : " عُد يا " ذئب " ستفد علينا مواعيدنا الجديدة هذه الليلة " .



    (( يتبع ))

  2. #2
    (( 2 ))


    ذهب " ذئب " ولم يلتفت إلى هتافات أصحابه , توجه مباشرة إلى داره ولم يغادره قط , ولو كان الجماد يتعجب , لتعجب كل ما في البيت من أثاث وأبواب وجدران ونحوه بمكوث " ذئب " ليلته معهم , فهذه الليلة الأولى التي لم يخرج بها قط , سهر " ذئب " مع أفكاره لم ينم ليلته , وأخذ يفكر ويخطط كيف يوقع ليلى الثرية الذكية الفطنة الجميلة المأدبة في براثنه , أخذ يفكر كيف يوقع بحر أخلاقها في مستنقع رذيلته ؟!!

    أخذ يفكر في مزاياه , ويقارن ذلك بما قاله عباس عن مناقب ليلى وصفاتها , وبكل ما ذكرته هند عنها بعد ذلك : " حبها للناس و مساعدتها للآخرين , ورغبتها في الإصلاح , كل ذلك وسط سوادٍ تتكنفه , وصمت لم يتعهده " .

    وبعد طول تفكير اهتدى " ذئبٌ " إلى حقيقة " أن ليلى فتاة ككل الفتيات لابد لها من نقاط ضعف فلها ما تحب ولها ما تكره , ولا بد أن عباس قد هوّل الأمر عليه ليحبط هممه , وقد يكون لهند مصلحة هي الأخرى في ذلك , وربما قد اتفقت مع عباس على أمرٍ ما !! وما ليلى إلا فتاة كسائر الفتيات " 0

    خرج " ذئب " من صباح اليوم التالي إلى الجامعة بعد أطول ليلة قضاها في حياته , خرج من داره نحو غايةٍ واحدةٍ فقط باتت بالنسبة له أهم من شهادة التخرج التي فارق أهله في بروكسل منذ سنواتٍ طمحاً في نيلها , باتت ليلى هي شغله الشاغل وجُلّ تفكيره , تلك الفتاة التي سمع عنها , ولكنه لم يرها , تلك الفتاة التي جعلها هدفاً له وتحدياً لابد من تحقيقه , تلك الفتاة التي حولت الذئاب أمامها إلى نعاج , أخذ " ذئبٌ " يفكر ويفكر , وبينما هو غارق في أفكاره تلك حتى وجد نفسه أمام قاعة محاضرات , لم يشعر أنه لم يستقل سيارته إلى الجامعة , وأنه قطع تلك المسافات مشياً على قدميه , لم يشعر أنه قطع وقتاً طويلاً تحت أشعة الشمس المحرقة وأن عقرب الدقائق استدارت مرتين , وها هو الآن يقف أمام مدخل القاعة مع انتهاء وقت المحاضرة لا بدئها , لم تكن تلك القاعة قاعة محاضراته هو بل كانت قاعة محاضرات ليلى , فقد ساقته أقدامه إليها دون أن يشعر , تسمر في مكانه يحدق في ذي وتلك وفي كل الخارجات من تلك القاعة , لكنه لم يرى أي فتاةٍ قد خرجت بتلك الصفات التي ذكرها عباس , وحينما تأكد أن حركة خروج الدارسين قد سكنت , صاح بداخله " ويحك يا عباس , لقد خدعتني , وجعلتني أعيش في وهم ليلى منذ البارحة , ويحكِ يا هند اللعينة , كيف شاركتِ عباس في هذه اللعبةِ الحقيرة ؟!! " , وبانكسار المهزوم جلس " ذئب " على الأرض , قد أعياه التعب نتيجة السهر وأرق التفكير والإجهاد , قد هاجمه التعب في هذه اللحظة الكئيبة حينما أدرك ملعوب عباس وهند وبقية الرفاق , وبينما هو في تلك الأفكار الناقمة عليهم , إذ به يسمع صوتاً دافئاً يقول : " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " , وما إن رفع بصره إلا وقد تلاشى كل شئ , وكأنه كان في حلم , أو ربما كان للسراب صوتٌ هو الآخر , انزعج من ذلك كثيراً , ولكنه أخذ يمني نفسه , ربما كانت ليلى هي من ألقت عليه السلام ؟ , ربما هي حقيقة !! فتحية الإسلام هنا غير متداولة حتى بين المسلمين , أم إن مناه ورجاؤه هو من فعل به ذلك ؟!! , وأخذت الأفكار والهواجس تتلاعب بعقل " ذئب " بين كر وفر , فقام متثاقلاً يجر خطاه إلى داخل القاعة مأمِلاً نفسه بأماني يتمناها علّ وعسى أن يجد بريقها بالداخل , أو أن يجد من يسأله عن ليلى , وما إن وصل إلى باب القاعة حتى سارع في الدخول كاللص الخائف ثم رفع بصرة المضطرب إلى أقصاها حتى لاح له سوادٌ متقوقع حول ذاته في الطرف العلوي منها , وكان يصدر صوت غير مألوف بالنسبة له , اقترب أكثر , فإذا بفتاة تشع نور تقرأ القرآن بصوتٍ خافتٍ ندي , لم يستطع التأمل في وجهها لبعده عنها , ولكنه تأثر بهذا المنظر , فبادرها بإلقاء السلام الإسلامي عليها من مكانه , سارعت ليلى بإسدال خمارها ثم ردت السلام عليه بصوتٍ غير مسموع دون أن ترفع بصرها من كتاب الله , لم تعره اهتماماً وكأنه غير موجود , واصلت ليلى تلاوتها بصورة صامتةٍ هذه المرة , غير مكترثة بهذا الذي أخذ يقترب منها بخطواتٍ متأنية إلى إن استقر على بعد أمتارٍ قليلة منها , وقف " ذئب " وانتظر طويلاً , فقد كان صبوراً جداً عليها , وبعد مضي أكثر من ساعة ـ هو في صمته وسكونه وهي في تلاوتها وخشوعها ـ همت ليلى بالخروج فموعد محاضرتها التالية على وشك البدء , لكن " ذئب " استوقفها بقولة : " بالله عليكِ علميني قراءة القرآن فإني والله لم أسمع بمثل هذا من قبل " , وبكل حياء , ونظر مطرق على الأرض , حملت ليلى مصحفها وقدمته " لذئب " دون أن تنظر إليه وخرجت في صمت .

    أدرك " ذئب " حينها صعوبة المهمة التي وعد نفسه ورفاقه بالظفر بها , ولكنه كان سعيداً أن ليلى فتاة حقيقية , لا هاجسٌ من نزع خيالات رفاقه , وأنه استطاع أن يظفر بشئ منها من أول لقاء وإن كان ذلك الشئ مصحف لكتاب الله يدعوه لتدارسه وحِفظ آياته .

    وفي صباح اليوم التالي أخذ " ذئب " يعترض طريق ليلى , بحجة أنه لم يستطع قراءة القرآن باللغة العربية فقد مكث سنينا طويلة في أرض المهجر بعيداً عن لغته ودينه , وبكل وقار أخرجت ليلى كتاباً صغيراً من حقيبتها هو ترجمة لبعض سور القرآن الكريم , مع ورقة كُتب فيها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا يخلو رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما " , فقدمته " لذئب " تعلمه من خلالها أن يحترم انعزالها ويقدر خلوتها .

    قدمت ليلى ذلك ثم انصرفت في صمت عجيب , أُعْجِبَ به " ذئب " كما أعْجِب لوقار الفتاة وحياؤها .

    استغل " ذئب " إيمان الفتاة , ورغبتها الجامحة في الإصلاح و نشر الدين بين الدارسين خاصة المغتربين العرب , الذين يعد صلاحهم الدعامة الحقيقية لتحقيق ذلك فأخذ يلاحقها كل صباح بحجة جديدة كل يوم , لتعلمه الصلاة مرة , وللصيامِ مرة , ولبعض الفرائض والنوافل مرة أخرى , وكانت كل مرة تعلمه ما يريد بطريقتها دون أن تسمعه صوتها أو أن يمكث بجوارها طويلاً تفادياً للخلوة الغير مشروعة .

    تأثر ذئب كثيراً بشخصية الفتاة , التي حاول أن يصطادها , فرفعته إلى عفتها وطهرها ليرى الحياة من منظور آخر , لم يعتد عليه من قبل , وتذكر حديث هند عندما قالت : " لا تتحدث ليلى مع أي فتاةٍ حتى تأسرها وتؤثر في شخصيتها " وهذا بحق ما قد حصل معه هو هذه المرة لا مع الفتيات , دون أن تتفوه ليلى ببنتِ شفه أو أن تسمعه شئ من صوتها .

    وبدأ " ذئب " رحلة جديدة من التوبة واعتزال الفتيات , فأخذ يتعلم قراءة القرآن الكريم ويتدارسه متى استطاع ذلك , وجعل من حفظه هدفاً يسعى لتحقيقه , وبدأت آثار الراحة النفسية , وراحة البال تظهر على وجه " ذياب " ذلك الشاب الذي لم يره أحدٌ من قبل إلا ورأى معه آثار الترف والمجون , وصيحات الذئب الشرس الغاضب الذي يفترس الطرائد و يهتك الأعراض , ومن ينظره اليوم يرى في وجهه سمات الصلاح , ووجه العابد الشاكر لأنعم الله , فلم يفارق المسجد من يومها , ولم يماشي إلا من يسانده على الطاعة , والمسلك الطيب , فرافق الرفقة الطيبة , وهجر عباس ورفاقه , , الذين ما لبثوا أن غيروا اسمه من " ذئب " إلى نعجة ليلى , لكنه لم يلقي لهم بالا على ذلك .

    تغير " ذياب " وتغيرت أخلاقه وطريقة تعامله مع الناس , بات " ذياب " هيناً ليناً بعد أن كان فظاً غليظاً , اقترب منه العقلاء , ودنا منه الأتقياء وأدنوهُ منهم .

    ظل " ذئب " في حاله الجديد حتى انتهى العام الدراسي , وبدأ الدارسون المغتربون بالرحيل , سافرت ليلى إلى موطنها , كسائر الطلبة المغتربون , سافرت ليلى وسافر معها الساند والمعين " لذياب " , فبقي وحيداً بعد اعتزال الدنيا وملاذها , فأخذ يتمتم مع نفسه كالمجنون , وبدأت هواجس رفقة السوء تلاحقه في كل حين , ولكنه كان أجلد من ذلك , وأصبر على المحن , وعرف إنّ ذلك ما هو إلا ابتلاء له وامتحان لصدق توبته , فعزم على قطع مسالك الشيطان , وأغلق الأبواب في وجهه , فقرر العودة إلى بروكسل حيث والداه واخوته هناك .



    (( يتبع … ))

  3. #3
    (( 3 ))


    في بروكسل لاحظ والدا " ذياب " واخوته ذلك التغير الجلل الذي ألم " بذئب " صلاة , واستقامة , احترام وأخلاقٍ عالية , فسعدوا بذلك أيما سعادة , تلك السعادة التي لم تكتمل فسرعان ما يخالطها حزن عميق , كانوا يرونه ويلمسونه في وحدة " ذياب " وانعزاليته , ذلك السر الذي لم يستطيعوا فك طلاسمه فقد احتفظ " ذياب " بسره إلا عن أخته الصغرى التي كان يدلعها بــ " فلة " , صعب حال " ذياب " على أخته , فأشارت عليه بالسفر إلى حيث ليلى , فرح " ذياب " بهذه الفكرة فرحاً شديداً , لكنه سرعان ما عاد إلى انكساره وحزنه :" فأين هي ليلى ؟ , وما عنوانها ؟ " هذا ما قاله " ذياب " لأخته , التي ما لبثت إلا أن قالت : " ليلى في الجامعة يا ذياب !!

    رد عليها " ذياب " باستغراب : " الجامعة !! "

    وبكل ثقة قالت فلة : " أجل الجامعة . تستطيع أن تحصل على عنوانها من هناك " .

    لم يتمالك " ذياب " نفسه من الفرح , قبّل أخته , وخرج في عجل , وبعد مضي ساعات قليلة عاد " ذياب " إلى المنزل ومعه تذكرتي سفر , فقد حجز تذكرتي سفر له ولفلة إلى حيث ليلى .

    سافر " ذياب " وفلة من صبيحة اليوم التالي إلى بلد ليلى , فقد رأى " ذياب " من رفقه أخته ضرورة لتقيم صداقة مع ليلى تسهل عليه فيما بعد التقرب منها , وطلب يدها لتشاركه حياته , وسرعان ما تحقق له ما يريد , فبعد أيامٍ قليلة من وصول " ذياب " وأخته إلى بلد ليلى زارا بيت أهلها , واستطاعا أن يقيما صداقة ودٍ حميمة فلة مع ليلى و " ذياب " مع اخوتها .

    استغل " ذياب " بساطة أهل ليلى وطيبتهم بالرغم من مكانتهم وثرائهم , وفاتحهم بهدفه الأسمى من هذه الزيارات , وقطع المسافات , ألا وهو التقرب منهم بالنسب ومصاهرتهم في كريمتهم ليلى , وفعلت فلة الأمر نفسه مع ليلى , فتلقيا إجابة واحدة , وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه , وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " , وافقت ليلى ووافق أهلها , شريطة أن يتقدم لها " ذياب " بصورة رسمية برفقة والديه , وأن يستقر به المقام في بلد ليلى , لا في أرض المهجر , وافق " ذياب " على شرطي ليلى , فسارع بالسفر ليحضر والداه من أجل تحقيق هذه الغاية , جاهد " ذياب " والديه لإقناعهما بفكرة الزواج من ليلى , لكن والداه رفضا هذه الزيجة , بحجة الشرط الذي وضعته ليلى وأهلها , وهو الهجرة من بروكسل , والإقامة بعيداً عنهم في بلدها , لكن إصرار " ذياب " وتعلقه بليلى جعلت من والديه يرضخا استجابة لذلك الإصرار وذلك التعلق , وبالفعل سافرا مع ابنهما واتقيا بليلى وأهلها فاعجبا باختيار ابنهما وباركا للعروسين هذه الخطوة , و تمت الخطبة اللفظية , والاتفاق الأولي على الزواج بين الطرفين .

    وبعد هذا التوفيق وهذا اليسر في هذا الاقتران , تم تحديد موعد عقد القران بعد شهر من الخطبة , تتلوها احتفالات الزواج والزفاف حسب الأعراف السائدة عند أهل العروس .

    أمّا " ذياب " العريس المنتشي فرحاً وسعادة أخذ يبحث له عن عش مثالي صغير , يكتريه مؤقتاً إلى أن يستقر على قصر يليق بأميرة قلبه , وبعد جهد من البحث , وجد ذئب شقة أنيقة تطل بشرفتها على بساتين الزيتون , ولا تبعد عن بيت أهل العروس إلا بدقائق معدودة بالسيارة .

    قدم " ذياب " دعوة لمخطوبته أن تشاركه تأثيث الشقة بالرأي والاختيار والتنسيق , استجابت ليلى لطلب مخطوبها , فخرجت معه بعفتها وحشمتها وخمارها , يرافقها أخاها الصغير , وحين رآها " ذياب " بتلك الحال , تضايق منها , فقد كان يتمنى أن يرى وجهها كيف هو ؟ ولكنه ابتلع ذلك استجابة لرغبتها واحتراماً لمرادها فعاهد نفسه أن يألف ذلك منها , وحينما وصلا إلى حيث مبتغاهما أخذا ينتقيا لمسات ساحرة من الأثاث الفاخر لعشهما الصغير , وما إن وصلتْ تلك المختارات من قطع الأثاث الشقة ـ فيما بعد ـ حتى شرعا بتنسيق تلك التحف فيها بعناية بالغة وحرص جم وقد رفضا أن يساعدهما أحد في القيام بذلك , حتى أخاها الصغير , فقد أرادا أن يبدأا حياتهما بتعاون ثنائي لا يشاركهما ثالثٌ فيه.

    كان " ذئب " يلتقط الصور لكل جزئية تضعها ليلى بيدها , وكانت هي تفعل الأمر نفسه مع خطيبها , كانت تفعل ذلك بذات الهيئة التي خرجت بها من البيت , و " ذياب " يتمنى لو أنها تسمح له برؤية وجهها فكم هو متشوق إلى ذلك !! , وبعد إن انتهيا من تنسيق الشقة , شعرا بسعادة غامرة , وفخر لما أنجزاه معاً , إذ أصبحت الشقة غاية في الأناقة وكأنها قصرٌ صغير .

    اقترب " ذياب " من ليلى , محاولاً استعطافها واستمالتها , فهي الآن مخطوبته , ولا حرج في أن يرى وجهها , وبعد جهد جهيد , ومحاولاتٍ مستميتة , وبإصرار غير مسبوق رضخت ليلى لإلحاح " ذياب " شريطة أن يكون بعيداً عنها , وافق " ذياب " فقام من فوره ووقف بالقرب من الباب , رفعت ليلى خمارها , وكشفت له عن وجهها , فإذا بضوء القمر ينسل من تحت أستار ذلك الخمار , برِق وجهها ولمع يشق الظلام الذي كانت ترتديه , فهجم عليها " الذئب " العاشق بعواطفه الجياشة واشتياقه المغبون فالتهمها كلقمة واحدة , بعد أن دفع الصغير خارجاً وأغلق الباب .

    عادت ليلى إلى بيتها , بين سعادة الحياة التي آلت إليها , وبين ألم الذنب الذي اقترفته لأول مرة , ولم تستطع مقاومته , باتت المشاعر تتأرجح في قلبها وعقلها , بين فرح لحياة جديدة , وبين حزنً على معصية كبيرة , وبينما هي على تلك الحال إذ تتذكر تلك الورقة التي أعطتها لـ " ذئب " ذات يوم في الجامعة , وبات الحديث النبوي الشريف يتردد على مسامعها : " لا يخلو رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما " , وأدركت أن أخاه الصغير لم يكن ذلك المحرم الشرعي الذي تستطيع أن تستند عليه , اضطربت ليلى , وقضت ليلتها في بكاء لا ينقطع ألمٌ وحسرة , توبة ودعاء , تضرعٍ واستغفار , وبقت على ذلك حتى طلع عليها الفجر .

    ومع بزوغ الفجر شعرت ليلى وكأنه امتداد لليل حالك قاتم داهم كالأحزان , انتظرت إطلالة حبيبها " ذياب " على غير عادتها , مما جعلها تشعر أنه قد تأخر عليها كثيراً هذا اليوم , لم يأتِ , لم يرسل أو يتصل حتى قاربت الشمس الغروب عن ذلك القلب الخائف الكروب , مرت اللحظات أفلت الشمس وأسدل الليل أستاره , أفلت الشمس , لكن أهداب ليلى لم تأفل , ومطر عينيها الغزير لم ينقطع , ظلت ليلى على ذلك إلى أن رن جرس الهاتف مع انتصاف الليل معلناً عن وصول رسالة من الحبيب الغائب جاء فيها :

    " إنَّ الذي عجزتُ عن أخذه منك وأنت في بلاد الغربة , استطعت أن آخذه منك وأنت بين أحضان والديك …. [blink]أنا الذئب يا ليلى [/blink]"

    سقطت ليلى في غيبوبة بعد قراءتها لهذه الرسالة الغادرة , أدركت عندها وأدرك من حولها

    " أن الذئب لا يروض : أمنهُ غدر , وسكونه خطِر , وتراجعه استعدادٌ لانقضاض جديد , وأدركت وأدركوا معها أن الآدمي قد يتحول إلى ذئب بشري , لكن الذئب محال أن يتأدم ويصبح آدمياً " .



    سقطت ليلى , بينما رحل " الذئب " يبحث عن ليلى جديدة .







    (( تمت ))


    [align=center]

    رساااام الغراااام[/align]

  4. #4
    الصورة الرمزية عاشق السمراء
    Title
    "رجل عادي جدا"
    تاريخ التسجيل
    05- 2002
    المشاركات
    21,307
    مسااااااااااء جميل ...


    (( رسام الغرام ))



    بداية يطيب لي ان اعبر عن سعادتي ..
    بهذا التواجد والذي كنا في شغف لحضوره ..
    ..
    سأقرئها بإمعان وتريث .. !!

    اشكر لك هذا التواجد وعلى التواصل نبقى اخي العزيز !!

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML