النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: رائعة الاديب صالح مرسى رأفت الهجان

  1. #1
    الصورة الرمزية المناضل
    Title
    نبض جديــد
    تاريخ التسجيل
    04- 2005
    العمر
    45
    المشاركات
    3

    رائعة الاديب صالح مرسى رأفت الهجان



    فى الرابع من فبراير عام 1987، روى الكاتب الكبير الراحل صالح مرسى قصته مع أدب الجاسوسية، وكيف ظهرت إلى الوجود قصته الخالدة عن عميل المخابرات رأفت الهجان. كانت القصة مثيرة، وكان الكاتب الكبير حسبما يقول قد قرر وقتها أن يتوقف عن كتابة هذا النوع من الأدب، لولا لقاء بالمصادفة جمعه بشاب لطيف من ضباط المخابرات المصرية أخذ يلح عليه وبشدة أن يقرأ ملخصا لعملية من عمليات المخابرات، ويقول صالح مرسى أصررت على الرفض وأصر هو على الإلحاح على مدى ثلاثة أشهر كاملة. تحت الإلحاح قرر صالح مرسى أن يقرأ القصة.ذات ليلة حمل الدوسيه الذى يحوى تفاصيلها إلى غرفة نومه وشرع فى القراءة. ويقول الكاتب الكبير عن تلك الليلة: عادة لا أحمل معى إلى غرفة نومى إلا الجرائد والمجلات لكنى قبل أن استريح قليلا من القيلولة وقعت عيناى على الدوسيه، وبدأت اقرأه ولم أشعر بنفسى حتى دخلت زوجتى الحجرة وفوجئت بدموعى تتساقط. يومها تساءلت زوجته فى لهفة عن السبب؟ رد مرسى قائلا: إنت فاكرة إنك متجوزة راجل، وإن اللى حوالينا دول رجالة؟ هناك رجالة لهم طعم تانى خالص، وهناك رجالة نوعيات مختلفة. وكان صالح مرسى محقا إلى حد كبير، فالرجل الذى يضع رقبته تحت المشنقة لمدة 20 عاما ويعيش داخل إسرائيل وهى لا تعرف أنه مصرى، ويموت فيها وهى لا تعرف عنه شيئا، أقل ما يقال عنه إنه اسطورة.


    ثم انتقلت إلى صفحة أخرى جعلت قلبى يقفز من مكانة!! فقد وجدت فيها اخطارا بنية العدوان الثلاثى على مصر قبل وقوعه بثلاثة أيام، وكانت المعلومات الواردة به عن الخطة والتآمر أقرب ما يمكن لما وقع بالفعل بصورة تدعو إلى الدهشة والإعجاب، وهنا أصبح الأمر شخصيا بالنسبة لى، فقد كنت أحد ضحايا هذا العدوان كمصاب وأسير، كان الوقت فى الهزيع الأخير من الليل وأنا مازلت اتنقل بين صفحات الملف على قلة عددها وقد انتابنى الكثير من الهواجس والأفكار.
    ما حكاية أمر هذا الشخص؟ إن الملف لا يعطى صورة أكثر من أنه مصرى مسلم تم زرعه حسب تعبيرات المخابرات بشكل ما فى أرض الأعداء، وليس هناك أية تفاصيل.. كيف يعيش؟ كيف يزاول عمله، كيف يؤمن نفسه؟ أسئلة لاشك إجابتها عند شخص ما. ولكن كيف اقتنع بأنه جبان كما وصفه النموذج، وقد ارتضى أن يعيش فى أرض عدو يعلم الله وحده ماذا سيفعل به إذا وقع؟.. وكيف اقتنع بأنه لا يسعى إلى المعلومات ويكتفى بسماع الشائعات، وقد حصل على خطة العدوان بما لا يمكن أن ينزل إلى مستوى الشائعات؟
    ويتدخل الجانب الشخصى فى الموضوع.. كيف لم تستعد الدولة منذ هذا الاخطار الغريب بما يجنبها العدوان وبالتالى كان يمكن أن يجنبنى الأسر؟
    وكان الفجر قد لاح، وزاد من اندماجى فى هذه الأفكار ذلك الهدوء الشامل الذى يعم المكان، فقد كنا نزاول العمل من فيلا منعزلة فى إحدى الضواحى الزراعية لمدينة القاهرة وهو ما يطلق عليه بتعبير المخابرات المنزل الآمن وذلك إمعانا فى الأمن وتعويد جميع الأفراد على السرية والكتمان. كنت شبه شارد الفكر وأنا أنظر إلى عينى ذلك الشخص فى الصورة المثبتة على النموذج، وكأن شبح الابتسامة على شفتيه يدعونى إلى التعارف، عندما نبهنى صياح الديوك فى المزارع فى الصباح وخروج الفلاحين لمباشرة أعمالم، ولا شك أنه سيكون لى مع بعضهم حديث شيق، فأويت إلى فراش بسيط فى غرفة مجهزة لذلك، وبين النوم واليقظة ظلت تتوارد على رأسى فيما يشبه الأحلام أفكار شتى عن العمل السرى داخل أرض العدو..
    نشاط حذر يقظ.. اتصالات سرية محكمة.. رجل وحيد فى خضم المخاطر.. عيون مضادة تراقب.. حرص شديد واجب.. اكتشاف افتضاح اعتقال.. تعذيب.. اعتراف.. مشنقة.. ثم تنقلب الصورة فتتوارد الأفكار المتفائلة.. تطوير.. انتشار.. شبكات.. لحسابنا فى مختلف الميادين، سيل من المعلومات، العدو أمامنا ككتاب مفتوح.. معركة.. انتصار.. ولكنى فى الصباح تلقيت صدمة مخيبة لكل آمالى.. توجهت إلى محمد كساب، رئيسى المباشر، وقد تأبطت الملف وجهزت نفسى بالعديد والبديل من مقترحات لدفع هذه العملية وتطويرها، ولكن من ما إن بدأت الحديث معه حتى بادرنى قائلا:
    - آه.. إنها تلك العملية الفاشلة التى نريد وضع وحد لها وانهاءها بأنسب الطرق واعادة هذا الشاب إلى مصر وقطع صلتنا به.
    -.........
    - أعلم ذلك ولكنها مرة وحيدة لم تتكرر ولم يحدث بعدها أن وافانا بأية معلومات ذات قيمة.
    -............
    - كلا.. كلا.. إنه جبان لا يرجى منه مثل ما تتصور ومن الخطأ أن نعول عليه.
    -...........
    - بالعكس.. إنه أنانى لا يفكر إلا فى تأمين نفسه، وطماع لا يمل طلب النقود..
    -..........
    - لا.. لا... فهو من نوعية فاسدة وقد جبل على الالتواء ولا سبيل إلى اصلاح أمره خاصة وهو متمرس فى الانحراف وليس بالحدث الصغير.
    -.........
    - لا داعى لأن تضيع وقتك فى عملية فاشلة، وبدلا من ذلك فكر فى خطة لإنهائها ووضع حد لعلاقتنا به.
    -........
    - أعلم أن الملف قاصر لا يفيد، ولكن يمكنك أن تستعين بمعلومات الزميل محسن ممتاز، فهو الذى قام بتجنيده وارساله إلى هناك ويعلم كل شيء عنه.
    البحث عن محسن ممتاز:
    لم أكن قد قابلته بعد، فقد كان فى مهمة طويلة الأمد خارج البلاد بدأت قبل التحاقى بهذا العمل، ولكن وصوله كان منتظرا خلال أيام ليمضى فترة قصيرة بالقاهرة يعود بعدها لمزاولة عمله ولكننى كنت قد سمعت الكثير عنه وعرفت بعض صفاته... ذكى... جريء.. قوى الشخصية.. متطرف فى وطنيته.. سخى البذل فى عمله... شديد الايمان برسالته.. صريح.. صعب المراس!!
    وقررت أن أترك هذا الأمر لحين بحثه معه لدى حضوره، خاصة أننى شعرت فى حديث محمد كساب بنغمة تحامل واضحة. وقد حدث فى تلك الأثناء أن نقل كساب إلى عمل آخر، وحل محله الزميل حسن القطان المعروف بالذكاء الهادئ العميق، ولما ناقشته فى الأمر أيد فكرة بحث الموضوع مع محسن ممتاز، وإن كان قد أبدى ميلا طفيفا نحو آراء محمد كساب.
    تأثرت بشخصية محسن ممتاز بعد دقائق من بدء مقابلتى الأولى معه.. وما أن فتحت معه الموضوع حتى نظر إلى نظرة جادة سائلا: هل أنت مسئول الآن عن هذه العملية؟ ولما أجبته بالايجاب بادرنى سائلا: وماذا فعلت بها حتى الآن؟ وماذا تنوى أن تفعل؟
    فقلت له إنى لم أعمل بها أى شيء لسببين، أولهما هو حداثة احتكاكى بها، وثانيهما أننى أكاد لا أعرف عنها شيئا لخلو الملف من المعلومات اللازمة عنها ولعل حديثى مع محسن ممتاز قد كشف له عن تلهف واهتمام من جانبى ينبئان بأننى قد أدفع بهذه العملية فى اتجاه مضاد للاتجاه الذى ساد فى تلك الآونة لوقف العملية، وكان ذلك ما دفعه إلى الاسترسال معى فى سرد طويل عبر عدة جلسات لم يحجب فيها أية تفاصيل مهما قلت أهميتها، ولم يبخل بالخبرات والدروس التى اكتسبها خلال ممارسته لهذه العملية، وإزاء حماسه النابع من كونه صاحب أصل هذه العملية ومنشئها من العدم، جلست منه مجلس التلميذ من الأستاذ، وانتقل الحماس منه إلى بما جعلنى أنا الآخر، ودون أن أدرى، عنصرا من عناصر هذه العملية وأحد مكوناتها.
    نهاية لجزء أول من القصة:
    كانت تلك هى المقدمة والفصل الأول بخط يد عبدالعزيز الطودى المتخفى باسمه عزيز الجبالى الذى راح يروى على مدى عشرة فصول مخطوطة وعلى 208 ورقات فلوسكاب ما حدث على مدى ما يقرب من عشرين عاماً.
    أنظر إلى عمر عبدالعزيز الطودي وألح عليه بأن مصر ولادة أشد على يديه قبل أن أمضى وأقول.. تصبح على نصر.
    *...........
    كان يعشق مصر، عرفته منذ عشرات السنين، أدى واجبه ولم يمل لحظة من العطاء، فاستمر كى يعرف الجيل الحالى والقادم من هى مصر ومن هم المصريون إذا ما هيئت لهم الأرض، هذا ما ذكره لى عمر حجاج.

    وهكذا بدأت رحلة الكاتب الكبير رأفت الهجان. لم يكن الأمر سهلا، وإذا كانت المشكلة الأولى حسبما يقول صالح مرسى تتمثل فى اقناع الرجل الذى رافق رأفت الهجان خلال رحلته الطويلة بأن أكتب القصة بأسلوبى أنا، وبإعادة خلق فنى جديد لها على أن ينتمى هذا العمل لى وقد كان ذلك من أصعب ما يمكن لأن ذلك معناه أن انتزع ابنه منه لأنسبه إلى. لقد كان الأب هو عبدالعزيز الطودى المتنكر تحت اسم عزيز الجبالي والابن هو الدموع الخمس باسم رأفت الهجان.

    نقطة تصلح للبداية
    مساء 18 سبتمبر المنصرم كان مسجد الشاذلية الحامدية يضج بالمعزين من مختلف السحنات، لكن العجائز من الحضور كان باستطاعتهم أن يميزوا جيدا أن أغلب الحضور رجال مخابرات سابقون قدموا لمصر فى الزمن الجميل، ووضعوا مصائرهم فداء لمصر. كان الجميع يشاركون فى وداع عبدالعزيز الطودى الشهير بعزيز الجبالى. ولد الطودى فى 3 نوفمبر من عام 1932، ومن السعدية الثانوية التحق بالكلية الحربية عام 1951 ليتخرج فيها عام 53 ليلتحق بمدرسة مدفعية الميدان من يونيو إلى ديسمبر من نفس العام، وليعمل بعدها مدرسا بمدرسة المدفعية من يناير 54 إلى نوفمبر 1955 فى ذلك العام انتقل الطودى إلى دير البلح فى قطاع غزة ثم إلى رفح ومنها إلى خان يونس ثم غزة فى 15 يونيو 1956 بناء على طلب منه بعد اعتداء إسرائيل على قرى غزة، وقتها استطاع العدو تدمير فرقة مدفعية فصدرت الأوامر باستبدال الفرقة بأخرى ليتقدم عبدالعزيز الطودى. كانت تلك المعركة من أهم المعارك التى ظل عزيز يذكرها بفخر، لقد كان الضابط المصرى الشجاع يملك وقتها أربعة رشاشات فقط لكنه راح يناور بطلقاته حتى ظن العدو أن حجم الأسلحة ضخم للدرجة التى استطاع معها تدمير موقع عوزي الضابط الصهيونى الذى قام بتصميم الرشاش المشهور باسمه. فى 3 نوفمبر من عام 1956 سقط عزيز فى الأسر، لكنه عاد إلى مصر فى يناير من العام 1957 لينتقل بعدها إلى موقعه بالمخابرات العامة الذى استمر به حتى العام 1977. فى العام 1962 استدعى بصحبة زميله على زكى لمكتب السيد سامى شرف ومنه دخلا إلى مكتب الزعيم جمال عبدالناصر ليغلق عليهم الباب كى يتلقيا مهمة الذهاب إلى الجزائر لمساندة أحمد بن بلا، وبالفعل سافرا إلى أوروبا ومنها إلى جبل طارق فى المغرب ومنها إلى الجزائر، وقتها كان محمد أفقير وزيرا للداخلية بالمغرب وكان على علم بمهمة كل من عزيز وعلى زكي إلا أن أجهزة الوزير ظلت ترصد كل تحركاتهما لدرجة الضيق، لكنهما نجحا فى المهمة وعادا ثانية إلى مصر.

    بداية أخري
    -أين ولدت؟.
    -- وأنت مالك.
    سأل صالح مرسى بلهفة ورد عبدالعزيز الطودى بخفة ظل معهودة، قبل أن يمتد الحوار بينهما ليروى ضابط المخابرات المصرى الجميل قصة ميلاده بمنزل جده الشيخ إبراهيم الجبالى أحد علماء الأزهر، وكيف مات والده الشيخ محمد حسن الطودى وهو لم يبلغ من العمر أربع سنوات، مما دفع والدته للانتقال إلى منزل والدها الشيخ إبراهيم بمنيل الروضة. فى هذا المنزل القريب من منزل المستشار حسن النشار أخو الرئيس جمال عبدالناصر من الرضاعة ذلك المنزل الذى عاش به عبدالناصر لفترة قصيرة من عمره، كان يذهب خلالها إلى منزل الشيخ إبراهيم لزيارة زميله فؤاد الطودى الذى أصبح فيما بعد واحدا ممن اعتمد عليهم عبدالناصر فى تأميم قناة السويس. تربى عبدالعزيز فى منزل جده حتى تزوج من ابنة خاله محمود جعفر الجبالى مؤسس نظام الضرائب بالمملكة السعودية فى نهاية الأربعينيات، ثم انتقلت الأسرة إلى منزل الخال بالمهندسين لينجب عبدالعزيز هناك عمر مؤلف وعازف موسيقى وهبة.




  2. #2
    الصورة الرمزية المناضل
    Title
    نبض جديــد
    تاريخ التسجيل
    04- 2005
    العمر
    45
    المشاركات
    3
    لقاء قبل التصوير
    كان لى شرف اللقاء بعزيز الجبالى. هكذا بدأ محمد وفيق حديثه ليضيف: كان شخصية شديدة الرقة والإنسانية والعذوبة لدرجة أن الدموع كانت تتقافز من عينيه عند حديثه عن رأفت الهجان.. أعطانى لقاؤه احساسا أن الصورة التى فى خيالنا عن قسوة رجل المخابرات المصرى وغلظته صورة خاطئة. وكان لابد أن ألتقى بابنه الأكبر عمر على الهاتف جاءنى صوته والدموع تخنقه، وعلى مدى ساعتين دار بيننا حديث طويل قال فيه عمر عن أبيه: كان صديقى بصرف النظر عن كونه والدى، لديه عقلية مرتبة جدا، أكاد أراها عبقرية، ويضيف عمر بهدوئه الرتيب: على الرغم من تخرجى فى كلية التجارة إلا أنه وقف بجانبى مشجعا ميولى للموسيقى حتى اللحظة الأخيرة، فكان أول من يسمعنى عندما انتهى من تأليف قطعة موسيقية حتى إنه قال لى يوما: تمنيت لو أن موسيقى مسلسل رأفت الهجان، كانت من تأليفك يا عمر. كان آخر كتاب فى يده قبل الوفاة عن حرب العلمين، فى جلسة عائلية تحدث عن روعة ما جاء بالكتاب وكيف دخل الإيطاليون عن طريق ليبيا وكيف زحف الإنجليز إلى هناك وكيف تمت خطوات المعركة. ويؤكد عمر كان أخي محبطا أثناء الاتفاقات التى تمت بين السادات والكيان الصهيونى، وكان يقول لنا إنه يريد السلام ولكن ما يتم ليس بسلام، فالسلام لا يكون بهذه الطريقة المخزية. كان أبى يذكر دائما شخصا يدعى عودة العمارى، وهو مواطن فلسطينى كان دليلا للعمليات الفدائية أثناء وجود أبى فى رفح ودير البلح وغزة، وكان أبى يصفه بأن جسده لم يكن به مكان إلا وبه آثار لضرب النار. ويضيف عمر أثناء عملية عاصفة الصحراء سألناه: ماذا بعد؟ فأجاب: اللهم لا أسألك رد القضاء ولكنى أسألك اللطف فيه. سألت عمر عن الطرائف التى عاشها عبدالعزيز الطودى المتخفى باسم عزيز الجبالى فقال: أثناء وجوده طالبا بالكلية الحربية كان معه زميل يدعى عبدالعزيز هندى، وكانا شبيهين طبق الأصل للدرجة التى دفعت قائد الكلية لأن يحضرهما أمام جميع طلاب الكلية بعد اختلاط الأمر على الجميع، وبالفعل خرجا أمام الطلاب فلم يكتشف أحد فرقا بينهما، ومن المصادفات أنهما عملا معا فى المخابرات المصرية وظلا صديقين حتى الأيام الأخيرة.
    قلت لعمر: أين ابن أبيك؟
    قال: ماذا تقصد؟ فقلت له: ما أقصده هو السجل كما أراد له عزيز والدوسيه كما ذكر عمنا صالح مرسى وما اسميه أنا المخطوط الذى كتبه بخط يده.
    غاب عمر لحظات وعاد يحمل الدوسيه المخطوط فقلت له: هذا إرث مصر، وحق لكل المصريين أن يقرأوه فقدمه لى عن طيب خاطر.

    النص كما كتبه الطودى:
    أتوقع عندما يرى هذا الكتاب النور أن يعتقد بعض القراء من المصريين والعرب أنه قصة من نسج الخيال ليس لها من الواقع أساس. وليس لدى ما أقوله لهؤلاء إلا أننى لست كاتبا أو قصصيا، وما هذا الكتاب إلا تسجيل واقعى لعملية قام بها جهاز المخابرات العامة المصرية فيما بين الخمسينيات والسبعينيات، ومازال معظم الذين أسهموا فيها على قيد الحياة. وأتوقع أيضا أن ينبرى البعض فى إسرائيل مأخوذا بالمكابرة أو المغالطة أو عزة النفس، فيدعى أن السلطات الإسرائيلية كانت على علم بهذه العملية، وأنها كانت تسيطر عليها وتوجهها بمعرفتها، مغرقة المخابرات المصرية فى بحر من الوهم والخديعة والتضليل. ولهؤلا عندى الكثير.. أقله وأبسطه أن دواعى السرية والأمان اقتضت بالضرورة حجب بعض الوقائع والتفاصيل.. اتحداهم أن يذكروا ولو واحدة منها.. واحدة فقط. ولعله من الغنى عن البيان أن أقول إننى قد أبدلت أسماء جميع الأشخاص الذين أسهموا فى هذه العملية بأسماء مستعارة لأسباب يعلمونها هم قبل غيرهم، أولها أن تلك هى طبيعة العمل السرى، وآخرها أنهم أزهد الناس فى بريق الشهرة وحديث الأمجاد. وعندما بدأت فى كتابة هذا السجل كما أحب أن اسميه بتكليف من المخابرات المصرية، وقعت فى حيرة كبيرة بالنسبة للعنوان الذى أطلقه عليه، وورد على ذهنى خلال الكتابة العديد من الأسماء، لم اقتنع بمعظمها واكتشفت أن الباقى معاد ومكرر، وعندما انتهيت من الكتابة فرض العنوان نفسه على.
    وهنا قفز أمامى سؤال كبير:
    هل يليق بضابط المخابرات أن ينساق وراء العاطفة فتسيل دموعه تأثرا وانفعالا؟.
    الإجابة القاطعة هى لا!!.
    فواجب المخابرات ذو شقين أساسيين، أولهما هو البحث عن الحقيقة، وثانيهما هو التعامل مع هذه الحقيقة بشجاعة وواقعية.. وعليه، فلا مكان للعواطف فى أعمال المخابرات. ولكن ضابط المخابرات قبل كل شيء، إنسان ولقد بكى الإنسان فى نفسى من أجل الرجل محور هذه العملية خمس مرات.. خمس مرات فقط على مدى عشرين عاما لعل فى ذلك ما يلتمس لى العذر لدى رجال المخابرات العامة المصرية إذ اخترت هذا العنوان للكتاب.

    وصية الهجان
    وصيتى. أضعها أمانة فى أيديكم الكريمة السلام على من اتبع الهدى.
    بسم الله الرحمن الرحيم
    إنا لله وإنا إليه راجعون لقد سبق وتركت معكم ما يشبه وصية، وأرجو التكرم باعتبارها لاغية، وهأنذا أقدم لسيادتكم وصيتى بعد تعديلها إلى ما هو آت: فى حالة عدم عودتى حيا أرزق إلى أرض الوطن الحبيب مصر أى أن تكتشف حقيقة أمرى فى إسرائيل، وينتهى بى الأمر إلى المصير المحتوم الوحيد فى هذه الحال، وهو الإعدام، فإننى أرجو صرف المبالغ الآتية:
    1- لأخى من أبى سالم على الهجان، القاطن.. برقم.. شارع الإمام على مبلغ.. جنيه. أعتقد أنه يساوى إن لم يكن يزيد على المبالغ التى صرفها على منذ وفاة المرحوم والدى عام 1935، وبذلك أصبح غير مدين له بشيء.
    2- لأخى حبيب على الهجان، ومكتبه بشارع عماد الدين رقم...، مبلغ... كان يدعى أنى مدين له به، وليترحم على إن أراد
    3- مبلغ... لشقيقتى العزيزة شريفة حرم الصاغ محمد رفيق والمقيمة بشارع الفيوم رقم .. بمصر الجديدة بصفة هدية رمزية متواضعة منى لها، وأسألها الدعاء لى دائما بالرحمة.
    4- المبلغ المتبقى من مستحقاتى يقسم كالآتى:
    نصف المبلغ لطارق محمد رفيق نجل الصاغ محمد رفيق وشقيقتى شريفة، وليعلم أننى كنت أكن له محبة كبيرة.
    - النصف الثانى يصرف لملاجئ الأيتام بذلك أكون قد أبرأت ذمتى أمام الله، بعد أن بذلت كل ما فى وسعى لخدمة الوطن العزيز، والله أكبر والعزة لمصر الحبيبة
    إنا لله وإنا إليه راجعون
    أشهد أن لا إله إلا الله
    وأشهد أن محمدا رسول الله
    الطودى يحكى القصة بخط يده:
    لم أستطع أن أحبس دمعة فرت من عينى.. هكذا بدأت قصتى مع هذه العملية ذات ليلة حارة فى فيلا منعزلة بين الحقول صيف عام 1958، وكنت فى ذلك الوقت قد انتهيت لتوى، مع مجموعة قليلة العدد من الزملاء الشبان، من اتمام دورة تدريبية متكاملة خاصة بالجوانب السرية البحتة من أعمال المخابرات، وكنا مكلفين بالعمل على تطوير النشاط السرى الايجابى ضد الدول المعادية لمصر على أسس علمية سليمة، وذلك بعد أن كان قد بدأ بالفعل فور قيام الثورة زملاء سابقون لنا، معتمدين على جهودهم الشخصية، وما اكتسبوه من خبرة من واقع الاحتكاك الفعلى بالميدان. وحتى ذلك الوقت كان جهاز المخابرات بالمعنى السليم للكلمة وليدا وليست هناك دولة تعطى لأخرى خبراتها فى هذا المجال مهما تقاربت معها، وإن حدث وأعطتها فإنها تعطيها خبرات قديمة عفا عليها الزمان، ولعل ذلك يلقى الضوء على الجهود الهائلة التى بذلها هؤلاء الزملاء القدامى لوضع اللبنات الأولى لأجهزة العمل السرى، وللتوصل إلى برامج التدريب والاعداد السليمة، التى كان أول تطبيقها على مجموعتنا الصغيرة وكنا قد اندمجنا فى العمل، فور انتهاء تدريبنا، تحت قيادة هؤلاء الزملاء القدامى واشرافهم حيث تم تقسيمنا إلى مجموعات صغيرة متخصصة، وبدأ الأمر بتكليفنا بدراسة العمليات الجارية من واقع ملفاتها السرية، تمهيدا لتطويرها فى الاتجاه الصحيح، وكانت هذه العملية من نصيبى.
    كان الملف صغيرا يحتوى على بضع صفحات، وكان أول من لفت نظرى فيه مظروف مكتوب عليه بالخط النسخ الكبير.. وصية.. لا تفتح إلا بعد مماتى.. ولكن الظرف كان مفتوحا وعليه عبارة صغيرة تقول فتح بمعرفتي وتحت توقيع رئيس جهاز العمل السري! نعم فالمخابرات لا تعرف العواطف وإنما تتعامل مع الحقائق وجها لوجه.. انتقلت إلى الصفحة الأولى من الملف، وهى نموذج مطبوع يحتوى على البيانات الأساسية عن المندوب وهو ما اصطلحنا على اطلاقه على المتعاونين، وليس الجاسوس أو العميل!!!، فوجدت فى خانة الملاحظات عبارات أثارت دهشتى، فإحداها تقول إنه بارع فى التأقلم مع أى بيئة، وثانية تقول إنه جبان لا يسعى بإيجابية للحصول على المعلومات، وإنما يعتمد على ما يسمع من أحاديث، وشائعات، وأخرى تقول إنه أبدى كفاءة أثناء العدوان الثلاثى، وبضع عبارات أخرى بعضها مضيء وبعضها مظلم..
    ولم اقتنع بهذا التناقض

  3. #3
    الصورة الرمزية المناضل
    Title
    نبض جديــد
    تاريخ التسجيل
    04- 2005
    العمر
    45
    المشاركات
    3


    ثم انتقلت إلى صفحة أخرى جعلت قلبى يقفز من مكانة!! فقد وجدت فيها اخطارا بنية العدوان الثلاثى على مصر قبل وقوعه بثلاثة أيام، وكانت المعلومات الواردة به عن الخطة والتآمر أقرب ما يمكن لما وقع بالفعل بصورة تدعو إلى الدهشة والإعجاب، وهنا أصبح الأمر شخصيا بالنسبة لى، فقد كنت أحد ضحايا هذا العدوان كمصاب وأسير، كان الوقت فى الهزيع الأخير من الليل وأنا مازلت اتنقل بين صفحات الملف على قلة عددها وقد انتابنى الكثير من الهواجس والأفكار.
    ما حكاية أمر هذا الشخص؟ إن الملف لا يعطى صورة أكثر من أنه مصرى مسلم تم زرعه حسب تعبيرات المخابرات بشكل ما فى أرض الأعداء، وليس هناك أية تفاصيل.. كيف يعيش؟ كيف يزاول عمله، كيف يؤمن نفسه؟ أسئلة لاشك إجابتها عند شخص ما. ولكن كيف اقتنع بأنه جبان كما وصفه النموذج، وقد ارتضى أن يعيش فى أرض عدو يعلم الله وحده ماذا سيفعل به إذا وقع؟.. وكيف اقتنع بأنه لا يسعى إلى المعلومات ويكتفى بسماع الشائعات، وقد حصل على خطة العدوان بما لا يمكن أن ينزل إلى مستوى الشائعات؟
    ويتدخل الجانب الشخصى فى الموضوع.. كيف لم تستعد الدولة منذ هذا الاخطار الغريب بما يجنبها العدوان وبالتالى كان يمكن أن يجنبنى الأسر؟
    وكان الفجر قد لاح، وزاد من اندماجى فى هذه الأفكار ذلك الهدوء الشامل الذى يعم المكان، فقد كنا نزاول العمل من فيلا منعزلة فى إحدى الضواحى الزراعية لمدينة القاهرة وهو ما يطلق عليه بتعبير المخابرات المنزل الآمن وذلك إمعانا فى الأمن وتعويد جميع الأفراد على السرية والكتمان. كنت شبه شارد الفكر وأنا أنظر إلى عينى ذلك الشخص فى الصورة المثبتة على النموذج، وكأن شبح الابتسامة على شفتيه يدعونى إلى التعارف، عندما نبهنى صياح الديوك فى المزارع فى الصباح وخروج الفلاحين لمباشرة أعمالم، ولا شك أنه سيكون لى مع بعضهم حديث شيق، فأويت إلى فراش بسيط فى غرفة مجهزة لذلك، وبين النوم واليقظة ظلت تتوارد على رأسى فيما يشبه الأحلام أفكار شتى عن العمل السرى داخل أرض العدو..
    نشاط حذر يقظ.. اتصالات سرية محكمة.. رجل وحيد فى خضم المخاطر.. عيون مضادة تراقب.. حرص شديد واجب.. اكتشاف افتضاح اعتقال.. تعذيب.. اعتراف.. مشنقة.. ثم تنقلب الصورة فتتوارد الأفكار المتفائلة.. تطوير.. انتشار.. شبكات.. لحسابنا فى مختلف الميادين، سيل من المعلومات، العدو أمامنا ككتاب مفتوح.. معركة.. انتصار.. ولكنى فى الصباح تلقيت صدمة مخيبة لكل آمالى.. توجهت إلى محمد كساب، رئيسى المباشر، وقد تأبطت الملف وجهزت نفسى بالعديد والبديل من مقترحات لدفع هذه العملية وتطويرها، ولكن من ما إن بدأت الحديث معه حتى بادرنى قائلا:
    - آه.. إنها تلك العملية الفاشلة التى نريد وضع وحد لها وانهاءها بأنسب الطرق واعادة هذا الشاب إلى مصر وقطع صلتنا به.
    -.........
    - أعلم ذلك ولكنها مرة وحيدة لم تتكرر ولم يحدث بعدها أن وافانا بأية معلومات ذات قيمة.
    -............
    - كلا.. كلا.. إنه جبان لا يرجى منه مثل ما تتصور ومن الخطأ أن نعول عليه.
    -...........
    - بالعكس.. إنه أنانى لا يفكر إلا فى تأمين نفسه، وطماع لا يمل طلب النقود..
    -..........
    - لا.. لا... فهو من نوعية فاسدة وقد جبل على الالتواء ولا سبيل إلى اصلاح أمره خاصة وهو متمرس فى الانحراف وليس بالحدث الصغير.
    -.........
    - لا داعى لأن تضيع وقتك فى عملية فاشلة، وبدلا من ذلك فكر فى خطة لإنهائها ووضع حد لعلاقتنا به.
    -........
    - أعلم أن الملف قاصر لا يفيد، ولكن يمكنك أن تستعين بمعلومات الزميل محسن ممتاز، فهو الذى قام بتجنيده وارساله إلى هناك ويعلم كل شيء عنه.
    البحث عن محسن ممتاز:
    لم أكن قد قابلته بعد، فقد كان فى مهمة طويلة الأمد خارج البلاد بدأت قبل التحاقى بهذا العمل، ولكن وصوله كان منتظرا خلال أيام ليمضى فترة قصيرة بالقاهرة يعود بعدها لمزاولة عمله ولكننى كنت قد سمعت الكثير عنه وعرفت بعض صفاته... ذكى... جريء.. قوى الشخصية.. متطرف فى وطنيته.. سخى البذل فى عمله... شديد الايمان برسالته.. صريح.. صعب المراس!!
    وقررت أن أترك هذا الأمر لحين بحثه معه لدى حضوره، خاصة أننى شعرت فى حديث محمد كساب بنغمة تحامل واضحة. وقد حدث فى تلك الأثناء أن نقل كساب إلى عمل آخر، وحل محله الزميل حسن القطان المعروف بالذكاء الهادئ العميق، ولما ناقشته فى الأمر أيد فكرة بحث الموضوع مع محسن ممتاز، وإن كان قد أبدى ميلا طفيفا نحو آراء محمد كساب.
    تأثرت بشخصية محسن ممتاز بعد دقائق من بدء مقابلتى الأولى معه.. وما أن فتحت معه الموضوع حتى نظر إلى نظرة جادة سائلا: هل أنت مسئول الآن عن هذه العملية؟ ولما أجبته بالايجاب بادرنى سائلا: وماذا فعلت بها حتى الآن؟ وماذا تنوى أن تفعل؟
    فقلت له إنى لم أعمل بها أى شيء لسببين، أولهما هو حداثة احتكاكى بها، وثانيهما أننى أكاد لا أعرف عنها شيئا لخلو الملف من المعلومات اللازمة عنها ولعل حديثى مع محسن ممتاز قد كشف له عن تلهف واهتمام من جانبى ينبئان بأننى قد أدفع بهذه العملية فى اتجاه مضاد للاتجاه الذى ساد فى تلك الآونة لوقف العملية، وكان ذلك ما دفعه إلى الاسترسال معى فى سرد طويل عبر عدة جلسات لم يحجب فيها أية تفاصيل مهما قلت أهميتها، ولم يبخل بالخبرات والدروس التى اكتسبها خلال ممارسته لهذه العملية، وإزاء حماسه النابع من كونه صاحب أصل هذه العملية ومنشئها من العدم، جلست منه مجلس التلميذ من الأستاذ، وانتقل الحماس منه إلى بما جعلنى أنا الآخر، ودون أن أدرى، عنصرا من عناصر هذه العملية وأحد مكوناتها.
    نهاية لجزء أول من القصة:
    كانت تلك هى المقدمة والفصل الأول بخط يد عبدالعزيز الطودى المتخفى باسمه عزيز الجبالى الذى راح يروى على مدى عشرة فصول مخطوطة وعلى 208 ورقات فلوسكاب ما حدث على مدى ما يقرب من عشرين عاماً.
    أنظر إلى عمر عبدالعزيز الطودي وألح عليه بأن مصر ولادة أشد على يديه قبل أن أمضى وأقول.. تصبح على نصر.
    *...........
    كان يعشق مصر، عرفته منذ عشرات السنين، أدى واجبه ولم يمل لحظة من العطاء، فاستمر كى يعرف الجيل الحالى والقادم من هى مصر ومن هم المصريون إذا ما هيئت لهم الأرض، هذا ما ذكره لى عمر حجاج.

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML