لقاء قبل التصوير
كان لى شرف اللقاء بعزيز الجبالى. هكذا بدأ محمد وفيق حديثه ليضيف: كان شخصية شديدة الرقة والإنسانية والعذوبة لدرجة أن الدموع كانت تتقافز من عينيه عند حديثه عن رأفت الهجان.. أعطانى لقاؤه احساسا أن الصورة التى فى خيالنا عن قسوة رجل المخابرات المصرى وغلظته صورة خاطئة. وكان لابد أن ألتقى بابنه الأكبر عمر على الهاتف جاءنى صوته والدموع تخنقه، وعلى مدى ساعتين دار بيننا حديث طويل قال فيه عمر عن أبيه: كان صديقى بصرف النظر عن كونه والدى، لديه عقلية مرتبة جدا، أكاد أراها عبقرية، ويضيف عمر بهدوئه الرتيب: على الرغم من تخرجى فى كلية التجارة إلا أنه وقف بجانبى مشجعا ميولى للموسيقى حتى اللحظة الأخيرة، فكان أول من يسمعنى عندما انتهى من تأليف قطعة موسيقية حتى إنه قال لى يوما: تمنيت لو أن موسيقى مسلسل رأفت الهجان، كانت من تأليفك يا عمر. كان آخر كتاب فى يده قبل الوفاة عن حرب العلمين، فى جلسة عائلية تحدث عن روعة ما جاء بالكتاب وكيف دخل الإيطاليون عن طريق ليبيا وكيف زحف الإنجليز إلى هناك وكيف تمت خطوات المعركة. ويؤكد عمر كان أخي محبطا أثناء الاتفاقات التى تمت بين السادات والكيان الصهيونى، وكان يقول لنا إنه يريد السلام ولكن ما يتم ليس بسلام، فالسلام لا يكون بهذه الطريقة المخزية. كان أبى يذكر دائما شخصا يدعى عودة العمارى، وهو مواطن فلسطينى كان دليلا للعمليات الفدائية أثناء وجود أبى فى رفح ودير البلح وغزة، وكان أبى يصفه بأن جسده لم يكن به مكان إلا وبه آثار لضرب النار. ويضيف عمر أثناء عملية عاصفة الصحراء سألناه: ماذا بعد؟ فأجاب: اللهم لا أسألك رد القضاء ولكنى أسألك اللطف فيه. سألت عمر عن الطرائف التى عاشها عبدالعزيز الطودى المتخفى باسم عزيز الجبالى فقال: أثناء وجوده طالبا بالكلية الحربية كان معه زميل يدعى عبدالعزيز هندى، وكانا شبيهين طبق الأصل للدرجة التى دفعت قائد الكلية لأن يحضرهما أمام جميع طلاب الكلية بعد اختلاط الأمر على الجميع، وبالفعل خرجا أمام الطلاب فلم يكتشف أحد فرقا بينهما، ومن المصادفات أنهما عملا معا فى المخابرات المصرية وظلا صديقين حتى الأيام الأخيرة.
قلت لعمر: أين ابن أبيك؟
قال: ماذا تقصد؟ فقلت له: ما أقصده هو السجل كما أراد له عزيز والدوسيه كما ذكر عمنا صالح مرسى وما اسميه أنا المخطوط الذى كتبه بخط يده.
غاب عمر لحظات وعاد يحمل الدوسيه المخطوط فقلت له: هذا إرث مصر، وحق لكل المصريين أن يقرأوه فقدمه لى عن طيب خاطر.
النص كما كتبه الطودى:
أتوقع عندما يرى هذا الكتاب النور أن يعتقد بعض القراء من المصريين والعرب أنه قصة من نسج الخيال ليس لها من الواقع أساس. وليس لدى ما أقوله لهؤلاء إلا أننى لست كاتبا أو قصصيا، وما هذا الكتاب إلا تسجيل واقعى لعملية قام بها جهاز المخابرات العامة المصرية فيما بين الخمسينيات والسبعينيات، ومازال معظم الذين أسهموا فيها على قيد الحياة. وأتوقع أيضا أن ينبرى البعض فى إسرائيل مأخوذا بالمكابرة أو المغالطة أو عزة النفس، فيدعى أن السلطات الإسرائيلية كانت على علم بهذه العملية، وأنها كانت تسيطر عليها وتوجهها بمعرفتها، مغرقة المخابرات المصرية فى بحر من الوهم والخديعة والتضليل. ولهؤلا عندى الكثير.. أقله وأبسطه أن دواعى السرية والأمان اقتضت بالضرورة حجب بعض الوقائع والتفاصيل.. اتحداهم أن يذكروا ولو واحدة منها.. واحدة فقط. ولعله من الغنى عن البيان أن أقول إننى قد أبدلت أسماء جميع الأشخاص الذين أسهموا فى هذه العملية بأسماء مستعارة لأسباب يعلمونها هم قبل غيرهم، أولها أن تلك هى طبيعة العمل السرى، وآخرها أنهم أزهد الناس فى بريق الشهرة وحديث الأمجاد. وعندما بدأت فى كتابة هذا السجل كما أحب أن اسميه بتكليف من المخابرات المصرية، وقعت فى حيرة كبيرة بالنسبة للعنوان الذى أطلقه عليه، وورد على ذهنى خلال الكتابة العديد من الأسماء، لم اقتنع بمعظمها واكتشفت أن الباقى معاد ومكرر، وعندما انتهيت من الكتابة فرض العنوان نفسه على.
وهنا قفز أمامى سؤال كبير:
هل يليق بضابط المخابرات أن ينساق وراء العاطفة فتسيل دموعه تأثرا وانفعالا؟.
الإجابة القاطعة هى لا!!.
فواجب المخابرات ذو شقين أساسيين، أولهما هو البحث عن الحقيقة، وثانيهما هو التعامل مع هذه الحقيقة بشجاعة وواقعية.. وعليه، فلا مكان للعواطف فى أعمال المخابرات. ولكن ضابط المخابرات قبل كل شيء، إنسان ولقد بكى الإنسان فى نفسى من أجل الرجل محور هذه العملية خمس مرات.. خمس مرات فقط على مدى عشرين عاما لعل فى ذلك ما يلتمس لى العذر لدى رجال المخابرات العامة المصرية إذ اخترت هذا العنوان للكتاب.
وصية الهجان
وصيتى. أضعها أمانة فى أيديكم الكريمة السلام على من اتبع الهدى.
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا لله وإنا إليه راجعون لقد سبق وتركت معكم ما يشبه وصية، وأرجو التكرم باعتبارها لاغية، وهأنذا أقدم لسيادتكم وصيتى بعد تعديلها إلى ما هو آت: فى حالة عدم عودتى حيا أرزق إلى أرض الوطن الحبيب مصر أى أن تكتشف حقيقة أمرى فى إسرائيل، وينتهى بى الأمر إلى المصير المحتوم الوحيد فى هذه الحال، وهو الإعدام، فإننى أرجو صرف المبالغ الآتية:
1- لأخى من أبى سالم على الهجان، القاطن.. برقم.. شارع الإمام على مبلغ.. جنيه. أعتقد أنه يساوى إن لم يكن يزيد على المبالغ التى صرفها على منذ وفاة المرحوم والدى عام 1935، وبذلك أصبح غير مدين له بشيء.
2- لأخى حبيب على الهجان، ومكتبه بشارع عماد الدين رقم...، مبلغ... كان يدعى أنى مدين له به، وليترحم على إن أراد
3- مبلغ... لشقيقتى العزيزة شريفة حرم الصاغ محمد رفيق والمقيمة بشارع الفيوم رقم .. بمصر الجديدة بصفة هدية رمزية متواضعة منى لها، وأسألها الدعاء لى دائما بالرحمة.
4- المبلغ المتبقى من مستحقاتى يقسم كالآتى:
نصف المبلغ لطارق محمد رفيق نجل الصاغ محمد رفيق وشقيقتى شريفة، وليعلم أننى كنت أكن له محبة كبيرة.
- النصف الثانى يصرف لملاجئ الأيتام بذلك أكون قد أبرأت ذمتى أمام الله، بعد أن بذلت كل ما فى وسعى لخدمة الوطن العزيز، والله أكبر والعزة لمصر الحبيبة
إنا لله وإنا إليه راجعون
أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا رسول الله
الطودى يحكى القصة بخط يده:
لم أستطع أن أحبس دمعة فرت من عينى.. هكذا بدأت قصتى مع هذه العملية ذات ليلة حارة فى فيلا منعزلة بين الحقول صيف عام 1958، وكنت فى ذلك الوقت قد انتهيت لتوى، مع مجموعة قليلة العدد من الزملاء الشبان، من اتمام دورة تدريبية متكاملة خاصة بالجوانب السرية البحتة من أعمال المخابرات، وكنا مكلفين بالعمل على تطوير النشاط السرى الايجابى ضد الدول المعادية لمصر على أسس علمية سليمة، وذلك بعد أن كان قد بدأ بالفعل فور قيام الثورة زملاء سابقون لنا، معتمدين على جهودهم الشخصية، وما اكتسبوه من خبرة من واقع الاحتكاك الفعلى بالميدان. وحتى ذلك الوقت كان جهاز المخابرات بالمعنى السليم للكلمة وليدا وليست هناك دولة تعطى لأخرى خبراتها فى هذا المجال مهما تقاربت معها، وإن حدث وأعطتها فإنها تعطيها خبرات قديمة عفا عليها الزمان، ولعل ذلك يلقى الضوء على الجهود الهائلة التى بذلها هؤلاء الزملاء القدامى لوضع اللبنات الأولى لأجهزة العمل السرى، وللتوصل إلى برامج التدريب والاعداد السليمة، التى كان أول تطبيقها على مجموعتنا الصغيرة وكنا قد اندمجنا فى العمل، فور انتهاء تدريبنا، تحت قيادة هؤلاء الزملاء القدامى واشرافهم حيث تم تقسيمنا إلى مجموعات صغيرة متخصصة، وبدأ الأمر بتكليفنا بدراسة العمليات الجارية من واقع ملفاتها السرية، تمهيدا لتطويرها فى الاتجاه الصحيح، وكانت هذه العملية من نصيبى.
كان الملف صغيرا يحتوى على بضع صفحات، وكان أول من لفت نظرى فيه مظروف مكتوب عليه بالخط النسخ الكبير.. وصية.. لا تفتح إلا بعد مماتى.. ولكن الظرف كان مفتوحا وعليه عبارة صغيرة تقول فتح بمعرفتي وتحت توقيع رئيس جهاز العمل السري! نعم فالمخابرات لا تعرف العواطف وإنما تتعامل مع الحقائق وجها لوجه.. انتقلت إلى الصفحة الأولى من الملف، وهى نموذج مطبوع يحتوى على البيانات الأساسية عن المندوب وهو ما اصطلحنا على اطلاقه على المتعاونين، وليس الجاسوس أو العميل!!!، فوجدت فى خانة الملاحظات عبارات أثارت دهشتى، فإحداها تقول إنه بارع فى التأقلم مع أى بيئة، وثانية تقول إنه جبان لا يسعى بإيجابية للحصول على المعلومات، وإنما يعتمد على ما يسمع من أحاديث، وشائعات، وأخرى تقول إنه أبدى كفاءة أثناء العدوان الثلاثى، وبضع عبارات أخرى بعضها مضيء وبعضها مظلم..
ولم اقتنع بهذا التناقض